إن خطر المنافقين أشد من خطر الكفار والمشركين، ولقد حذَّر الله منهم فبيَّن أنهم هم الأعداء الحقيقيون، ولخطورة النفاق والمنافقين فلا تكاد تخلو سور القرآن وأحاديث رسول الله من ذكر المنافقين تلميحاً أو تصريحاً.

أهم صفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة

أجمل الإمام ابن القيم رحمه الله أهم صفاتهم في كلام نفيس خبير بالقوم، أنقله هنا بشيء من الاختصار.

يقول ابن القيم رحمه الله في وصفهم:

1- درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأقلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحبونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها.

2- لم يقبلوا هدي الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يرفعوا به رأسا، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا. خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة؛ فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد کمين.

3- لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والخسران، والغل والكفران؛ فالظواهر ظواهر الأنصار؛ والبواطن قد تحيزت إلى الكفار. فألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين. ويقولون: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8].

4- رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9].

5- قد نهگت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصود السيئة على إرادتهم ونياتهم فأفسدتها؛ ففسادهم قد ترامی إلى الهلاك، فعجز عنه الأطباء العارفون: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 10].

6- لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين. وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سره المكنون: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14].

7- قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم، الذي لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستکبارا. فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: 15].

8- لهم علامات يعرفون بها، مبينة في السنة والقرآن. بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان. قام بهم – والله – الرياء. وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن؛ فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].

9- أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين، تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، ولا تستقر مع إحدى الفئتين؛ فهم واقفون بين الجمعين، ينظرون أيهم أقوى وأعز قبيلا ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 143].

10- يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن. فإن كان لهم فتح من الله، قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم. وإن كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب، قالوا: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم، وأن النسب بيننا قریب؟ فيا من یرید معرفتهم، خذ صفاتهم من کلام رب العالمين؛ فلا تحتاج بعده دليلا ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [ النساء: 141].

11- يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه، ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه؛ فتراه عند الحق نائما، وفي الباطل واقف على الأقدام. فخذ وصفهم من قول القدوس السلام ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: 204] .

12- أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد، ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد. وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205] .

13- فهم جنس بعضه يشبه بعضا. يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه. کم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه؟ وکم کشف حالهم لعباده المؤمنين ليجتنبوه؟ فاسمعوا أيها المؤمنون ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67].

14- إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين. فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾ [ النساء: 61].

15- فكيف لهم بالفلاح والهدی! بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم؟ وأنى لهم التخلص من الضلال والردی! وقد اشتروا الكفر بإيمانهم؟ فيا أخسر تجارتهم البائرة! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: 62].

16- نشب زقوم الشبه والشكوك في قلوبهم، فلا يجدون له مسيغا ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ [النساء: 63]. تبا لهم، ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان! وما أكذب دعواهم للتحقيق والعرفان. فالقوم في شأن وأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن.

لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسما عظيما يعرف مضمونه أولو البصائر. فقلوبهم منه على حذر إجلالا له وتعظيما. فقال تعالى تحذيرا لأوليائه وتنبيها على حال هؤلاء وتفهيما ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

17- تسبق يمين أحدهم کلامه من غير أن يعترض عليه، لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه؛ فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وکشف ما لديه. وكذلك أهل الريبة يكذبون، ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون، قد ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 2].

18- أحسن الناس أجساما، وأخلبهم لسانا، وألطفهم بیانا، وأخبثهم قلوبنا، وأضعفهم جنانا؛ فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها. قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها، لئلا يطأها السالكون ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].

19- يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب؛ إذ هي صلاة الأبدان، لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب، إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب. ولا يشهدون الجماعة؛ بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان.

20- إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان. هذه معاملتهم للخلق، وتلك معاملتهم للخالق. فخذ وصفهم من أول المطففين، وآخر (والسماء والطارق) فلا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التوبة: 73]. فما أكثرهم! وهم الأقلون، وما أجبرهم ! وهم الأذلون، وما أجهلهم! وهم المتعالمون. وما أغرهم بالله! إذ هم بعظمته جاهلون ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة: 56].

21- إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم، ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم، ولا يستوي من موروثه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن موروثهم المنافقون: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:50 – 51].

وقال تعالى في شأن السلفين المختلفين، والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط، ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].

22- كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم، فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجواره، لميلهم إلى أعدائه؛ فطردهم عنه وأبعدهم. وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم، وأشقاهم وما أسعدهم. وحكم عليها بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده، إلا أن يكونوا من التائبين. فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 46].

ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم، وطردهم عن بابه وإبعادهم، وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم. فقال وهو أحكم الحاكمين: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 47].

23- ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها، وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها، وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها. ولقد هتك الله أستارهم، وكشف أسرارهم وضرب لعباده أمثالهم، وأعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم؛ فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر. وبينها لهم فقال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 9].

24- أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم، وفلتات اللسان، ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، وظنوا أنهم إذا كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد. كيف؟ والناقد البصير قد كشفها لكم ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 29 – 30]. فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق، وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق؟ ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم: 43].

أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم؟ وهو أدق من الشعرة، وأحد من الحسام، وهو دحض مزلة، مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطئ الأقدام؛ فقسمت بين الناس الأنوار، وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب، أعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام. کما کانوا بينهم في هذه الدار، يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام. فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق؛ فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح؛ فوقفوا حیاری لا يستطيعون المرور؛ فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب. ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتیح، باطنه – الذي يلي المؤمنين – فيه الرحمة، وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة. ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان، ومشاعل الركب تلوح على بعد کالنجوم. تبدو لناظر الإنسان ﴿انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ [الحديد: 13]، لنتمكن في هذا المضيق من العبور؛ فقد طفئت أنوارنا، ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: 13]، حيث قسمت الأنوار. فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار! كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق؟ فهل يلوي اليوم أحد على أحد في الطريق؟ وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق؟ فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار، كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار ﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ [الحديد: 14]، نصوم کما تصومون، ونصلي کما تصلون، ونقرأ کما تقرؤون، ونتصدق كما تتصدقون. ونحج کما تحجون؟ فما الذي فرق بيننا اليوم، حتى انفردتم دوننا بالمرور؟ ﴿قَالُوا بَلَىٰ﴾ [الحديد: 14]، ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد، وكل ظلوم کفور: ﴿وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾  [الحديد: 14 – 15].

لا تستطل أوصاف القوم؛ فالمتروك – والله – أكثر من المذكور. كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور. فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات. سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين. فقال: «يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك».

تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه وجله وتفاصيله وجمله.

25- زرع النفاق ينبت على ساقيتين: ساقية الكذب، وساقية الرياء. ومخرجها من عينين: عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة. فإذا تمت هذه الأركان الأربع: استحکم نبات

النفاق وبنيانه؛ ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هار؛ فإذا شاهدوا سیل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39].

26- قلوبهم عن الخيرات لاهية، وأجسادهم إليها ساعية، والفاحشة في فجاجهم فاشية. وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية. وإذا حضروا الباطل وشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم، وكانت آذانهم واعية.

فهذه – والله – أمارات النفاق. فاحذرها أيها الرجل قبل أن تنزل بك القاضية. إذا عاهدوا لم يفوا، وإن وعدوا أخلفوا، وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا. فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان، والخزي والخسران. فلا تثق بعهودهم ولا تطمئن إلى وعودهم؛ فإنهم فيها كاذبون، وهم لما سواها مخالفون ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 75- 77]1(1) مدارج السالكين، 1/609-629، ط. دار طيبة. (باختصار)..

الهوامش

(1) مدارج السالكين، 1/609-629، ط. دار طيبة. (باختصار).

اقرأ أيضا

النفاق الأكبر: حقيقته وبعض صوره

النفاق صرح ممرد وقواعد تتحرك

المنافقون وامتداد خطرهم .. بعضُهم من بعض

خطر النفاق .. حقيقة أم خيال؟

فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (1-2)

 

التعليقات غير متاحة