إن مما يؤكد خطر النفاق: أن الكثير من شعب النفاق الأصغر قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد، والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى، وعدم تحديث النفس بذلك.

النفاق الأصغر (النفاق العملي)

قال ابن رجب رحمه الله: (النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك)1(1) جامع العلوم والحكم ص431..

وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النوع في أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»2(2) رواه البخاري (33)، ومسلم (2/ 46) شرح النووي..

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»3(3) البخاري (34)، مسلم (2/ 46) شرح النووي..

فهذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ولكنه ليس على كفرهم اعتقادا وباطنا.

النفاق يتبعض ويتشعب

وقد يجتمع نفاق العمل مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحکم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية4(4) کتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 59..

قال الإمام الذهبي عقب حديث «أربع من كن فيه»: (وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ویزید وينقص، فشعب النفاق كلها من الكذب والخيانة والجور والغدر والرياء وطلب العلم ليقال، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى، فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه غل للنبي صلى الله عليه وسلم أو حرج من قضاياه، أو يصوم غير محتسب أو يجوز أن دين النصارى أو اليهود دین مليح ويميل إليهم، فهذا لا ريب في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، فإن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها)5(5) سير أعلام النبلاء11/ 362..

وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، لا أن من بدرت منه هذه الخصال، أو فعل شيئا من ذلك من غير اعتياد أنه منافق)6(6) شرح السنة 1/76..

وقال أيضا: (ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرار الفعل)7(7) فتح الباري1/ 90.، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: (والأولى ما قاله الكرماني: إن حذف المفعول من (حدث) يدل على العموم، أي إذا حدث في كل شيء كذب فيه، أو يصير قاصدا، أي إذا وجد ماهية الحديث كذب، وقيل محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا)8(8) فتح الباري1/ ۰91، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعدما شرح هذه الخصال: (وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، کما قال الحسن…)9(9) جامع العلوم والحكم 433..

خوف الصحابة على أنفسهم من النفاق

وهذا هو النفاق الذي خافه الصحابة رضي الله عنهم على أنفسهم.

يقول ابن رجب رحمه الله: (ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقا كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي أنه قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فالله إنا لكذلك، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: (ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة یا رسول الله . وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة»10(10) مسلم (2750).))11(11) جامع العلوم والحكم ص 434..

ومما ورد في خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبریل ومیکائیل)12(12) رواه البخاري معلقا (فتح الباري1/ 109). ..

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في تعليقه على هذا الأثر: (والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء: كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل من غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم)13(13) فتح الباري1/ 111..

النفاق هو اختلاف السر والعلانية

وخلاصة القول في النفاق العملي أنه نوع من الاختلاف بين السريرة والعلانية مما هو دون الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وکالخصال الواردة في شعب النفاق، وينبغي أن لا ننسى أن النفاق العملي إذا استحكم في الإنسان وصار غالبا عليه قد يؤدي به إلى النفاق القلبي الاعتقادي عياذا بالله تعالى، قال الله عز وجل: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: ۷۷]

من صور النفاق العملي

أولا: النفاق الاجتماعي

أولا: ما يعرف اليوم بالنفاق الاجتماعي: وقد سرى هذا النوع من النفاق في كثير من أبناء الأمة على مختلف شرائحها. وهو مصداق ما جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «تجدون شر الناس ذي الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه»14(14) البخاري (3494)، مسلم (2526). (14).

وهذا النوع من النفاق له صور منها:

1- النفاق الاجتماعي الذي يكون في شرائح المجتمع بعضهم مع بعض: وهو ما يقوم به بعض الناس من التلون في كلامه وأفعاله ومعاملاته، حيث يظهر الحب والود وحرصه على مصلحة الناس، وهو في الباطن ضد ذلك، بما يحمله في قلبه من الحسد والحقد وحب الشر للناس، أو يظهر الغم والحزن على مصاب أخيه المسلم، وهو في الباطن فرح شامت، أو يظهر الثناء والمدح في وجه من يداهنه، فإذا غاب عنه ذمه وذكر مثالبه، وكانتشار الكذب وإخلاف الوعد والخيانة ونقض العقود والعهود والفجور في الخصومات بين الناس.

٢- النفاق الاجتماعي: الخاص بوجهاء الناس من علماء أو أغنياء أو أمراء أو ساسة وحكام.

ومما يلحق بهذا النوع من النفاق ما يصدر من بعض العلماء المفتين الذين يتقربون بفتواهم إلى أهل الدنيا من حكام أو وجهاء أو عامة، من أجل وجاهة اجتماعية أو دنيا زائلة.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: العلماء ثلاثة:

١- عالم الملة: وهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.

۲- عالم الدولة: وهو الذي ينظر ما تريد الدولة، فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم..

٣- عالم الأمة: وهو الذي ينظر ما يرضي الناس. إذا رأى الناس على شيء أفتي با يرضيهم)15(15) شرح رياض الصالحين 4/307..

ثانيا: النفاق الاقتصادي

وهذا النوع من النفاق ينتشر بين تجار الأموال والمستثمرين، ولا سيما أصحاب البنوك التي تدعي أنها إسلامية ونزيهة، ولا تظهر في تعاملاتها الظاهرة شيئا من التعاملات الربوية، أو البيوع المحرمة، وتزعم أنها تنطلق في تعاملاتها من هيئة شرعية تستفتيها في هذه المعاملات.

هذا فيما يظهر للناس، أما المعاملات الباطنة والحوالات البنكية الدولية والتعامل مع البورصات والأسهم، فشيء آخر، فيه من المعاملات المحرمة ما لا يعلمه كثير من الناس.

ويلحق بهؤلاء أصحاب الحيل، التي يستحلون بها الربا باسم الشرع كبيوع العينة.

ثالثا: النفاق الإعلامي

الإعلام بمجالاته المختلفة – إلا ما رحم الله – يكاد يكون كله بوقا للمنافقين، يخدعون به الناس، ويلبسون عليهم، وينشرون من خلاله فسادهم وسمومهم وشبهاتهم.

وليس هو المعني في هذه الفقرة، وإنما المعني هنا بعض المنابر الإعلامية من مسموعة أو مقروءة، أو مرئية، التي تدعي أنها إسلامية قامت لنشر تعاليم الإسلام ومحاربة الأفكار الضالة، ولكنها في حقيقة الأمر تنشر الباطل والشبهات، وتلبس الحق بالباطل، وتخادع الناس باسم الإسلام والدين.

فهي أشبه بمسجد الضرار الذي بناه المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إرصادا لمن حارب الله ورسوله وتفريقا بين المؤمنين.

الهوامش

(1) جامع العلوم والحكم ص431.

(2) رواه البخاري (33)، ومسلم (2/ 46) شرح النووي.

(3) البخاري (34)، مسلم (2/ 46) شرح النووي.

(4) کتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 59.

(5) سير أعلام النبلاء11/ 362.

(6) شرح السنة 1/76.

(7) فتح الباري1/ 90.

(8) فتح الباري1/ ۰91

(9) جامع العلوم والحكم 433.

(10) مسلم (2750).

(11) جامع العلوم والحكم ص 434.

(12) رواه البخاري معلقا (فتح الباري1/ 109).

(13) فتح الباري1/ 111.

(14) البخاري (3494)، مسلم (2526).

(15) شرح رياض الصالحين 4/307.

اقرأ أيضا

آيات في النفاق وأهله ذما ووصفا وتحذيرا

أحاديث في النفاق وأهله ذما ووصفا وتحذيرا

الآثار الواردة في النفاق والمنافقين

خطر النفاق .. حقيقة أم خيال؟

 

التعليقات غير متاحة