ينهل المجاهد من تعبدات الصلاة زادا للصبر، والصوم تقوية للتقوى، والجود والسخاء فهي قرينة الشجاعة، ويعايش بيئة المجاهدين؛ فينطبع بها.

مقدمة

لما كان المجاهد يحمل زاد المحبة (محبة الله زاد للمجاهد) ومن علامات المحبة ووسائل الوصول اليها وتحقيقها، والحصول على مبادلة الرب تعالى لعبده بالمحبة؛ هي التقرب الى الله تعالى بالطاعات.. وهنا نلقي نظرة على بعض مما ينبغي للمجاهد التزامه والتقرب به لرب العالمين.

طاعات يتقرب بها المجاهد

ومن أفضل الطاعات التي يحرص المجاهد على التقرب بها إلى الله عز وجل:

أولاً: الصلاة

وصف الله المجاهدين في سورة التوبة بأنهم ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾؛ وكأنها صفةٌ لازمة لهم؛ لا تراهم إلا رُكّعاً وسُجداً يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذّتُهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدّمون عليها مالاً ولا ولداً ولا مراداً من مردات النفوس؛ يلبّون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكّرين لها، محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها.

ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها، ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحْذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ (الفرقان :64) وقال أيضاً عنهم ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ (الذاريات :17) وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية.

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة :45)؛ فيقول:

“وحين يطول الأمد ويشق الجهد، قد يضْعُف الصبر أو ينفذ إذا لم يكن هناك زادٌ ومدد؛ ومن ثم يُقرن الصلاة إلي الصبر، فهي المَعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفذ. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع. ثم يضيف إلى الصبر، الرضا والبشاشة، والثقة، واليقين.

إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بربه الأعلى، يستمد منه العون حين يتجاوز الجهدُ قواه المحدودة، حينما تواجه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الأمد وتبتعد به الشُّقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئاً وشرارة العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا مَعْلم في الطريق..

هنا تبدو قيمة الصلاة؛ إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني وربِّه القوي الباقي.. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة إنها اللمسة الحانية للقلب المُتعَب المكدود.

ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: «أرحنا بها يا بلال» (1أبو داود (4986)، احمد 5 /364 وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4182))، ويُكثر من الصلاة إذا حزبه أمر لُيكثر من اللقاء بالله .

إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وإنها مداد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليفٌ كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر.

إن الله سبحانه حينما انتدب محمداً صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل :1-5).

فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن.. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثّق الصلة، وتيسّر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان”. (2في ظلال القرآن 1/142،141 (باختصار))

ثانياً: الصيام

والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل التي تثمر التقوى، وهو يعوّد صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثواباً لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به». (3البخاري (7492) مسلم (1511))

وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوّي الإيمان والصبر، ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة :183)

وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم ﴿السَّائِحُونَ﴾، وقد ذكر بعض المفسرين أن من معانيها: “الصائمون”.

والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبراً، ويقيناً بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، كما تحتاج تعاوناً وتواصيا بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العلمية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهّل على النفوس الأخذ بهذه العبادات، ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشدّ الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس.

ثالثاً: الكرم والجود والبذل في سبيل الله

وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي هي  من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوّتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بدايةً من بذْل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذْل والجود، ونهايةً ببذل النفس والروح التي هي أعزّ وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل. وهذا من علامة محبة الله عز وجل .

ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جباناً خوّاراً. والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: «اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن» (4البخاري (6370)).

ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذْل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذْل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم. وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين، لا مكان فيها لأهل الأَثَرة والشُح والأنانية والبخل .

ومما يساعد على تقوية خُلق الكرم والجود: الزهدُ في الدنيا والرغبة في الآخرة لأن حب الجهاد والبذل في سبيل الله تعالى، لا يحِل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حِسّ المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة.

وإن مما يعين على الزهد في الدنيا وإرخاصها وبذلها في سبيل الله تعالى ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله:

“لا تتم الرغبة بالآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يتم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:

  • نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخسّتها، وأَلَم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبُها لا ينفكّ مِن هَمٍّ قبل حصولها، وهَمٍّ في حال الظفر بها، وغمّ وحُزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين.
  • النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (الأعلى:17). فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.

فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقلُ إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذّة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل”. (5الفوائد ص 95،94 باختصار)

خاتمة

ومما يساعد على هذه التعبدات الشريفة العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القُدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود والزهد وطول صحبتهم أثراً في التربية على هذا الخُلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق.

كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد، صلى الله عليه وسلم، دافعاً ومحفزاً للاقتداء بهم واتباع آثارهم.

…………………………………………………

هوامش:

  1. أبو داود (4986)، احمد 5 /364 وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4182).
  2. في ظلال القرآن 1/142،141 (باختصار).
  3. البخاري (7492) مسلم (1511).
  4. البخاري (6370).
  5. الفوائد ص 95،94 باختصار.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة