يبحث الناس عن الأمن؛ أمن النفوس والقلوب، وأمن الأبدان والأرزاق. ويضطرب مفهوم الأمن ويختلف، ويقصر عند البعض عن أمن الآخرة، ويعبث بأمنهم عصابات الفساد وخنادق الشر، ولا ينتبهون لهم.
الغاية من الخلق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله؛ نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنّ الله عز وجل خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه، وسخر لهم ما في السماوات والأرض ليستعينوا بذلك على القيام بهذه الغاية العظيمة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).
وجعل ذلك مركوزاً في عقولهم وفطرهم.
ولكن من حمايته سبحانه أنه لم يكلهم إلى ذلك فحسب، بل أعانهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل، ليبينوا للناس غاية خلقهم ومصيرهم، ويعرّفوهم بربهم سبحانه، وأسمائه وصفاته، وكيفية عبادته، ووعدهم إن هم قاموا بذلك أن يسلموا ويسعدوا، ويأمنوا في الدنيا على أنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، وفي الآخرة: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
آثار الانحراف عن الغاية
وإن المتأمل في عالمنا المعاصر ليرى دون عناء ما يعج به من المخاوف والمزعجات والمقلقات، والقتل والجوع، والأمراض النفسية والأسرية والاجتماعية..
ويرى الهلع على وجوه الكثير من الناس من جراء ما يهدد وجودهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك دينهم.
حملة مضللة في الاتجاه الخطأ
وقد صاحب ذلك حملة ماكرة خبيثة، ملبسة مضللة، وذلك من الكفار وأذنابهم من المنافقين في وسائل إعلامهم المختلفة، وذلك بالتلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس في معنى الأمن ووسائله، ومعنى الإرهاب وطرائقه، وجاءوا بزخرف من القول غروراً، ليصرفوا الناس عن الأسباب الحقيقية لاختلال الأمن في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، والتي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم، وجعلها سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتحول، وليصرفوهم عن الأعداء الحقيقيين للأمن.
وجاءوا أيضاً بأسباب أملتها عليهم أهواؤهم ومصالحهم، فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، وهكذا شأن شياطين الإنس والجن الذين أخبرنا الله عنهم بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾ (الأنعام: 112- 113).
فيمن ينفذ تضليل الشياطين
فبيّن سبحانه في هذه الآية الكريمة أن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضللة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه وإيمانه بالآخرة.
وإلا فإنّ المؤمن بربه، الذي يصدر عن كتابه سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والمؤمن بلقاء ربه في الآخرة لا يصغي لهذا المكر ولا يرضاه، ولا يقبله.
حملة شرسة لتلبيس الحق
ولما كانت الحملة على الإسلام وثوابته ومفاهيمه شديدة وشرسة، ولا سيما في هذه السنوات الأخيرة من قِبَلِ الكفار وإخوانهم من المنافقين في ديار الإسلام، أصبح بيان الحق في هذه الحرب متعيّناً على كل قادر بلسانه وقلمه وبيانه وماله.
وذلك لرفع اللبس عن المسلمين، وإزالة الشبهات، وبيان سبل المؤمنين وسبل المجرمين، وذلك بالرجوع إلى القرآن وهديه ومجاهدة الأعداء به، قال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ (الفرقان: 52).
[للمزيد اقرأ: حُماة الفضيلة .. وحِلف الرذيلة (1-3) طبيعة الصراع]
من صور التلبيس
ومن صور التلبيس في مفهوم الأمن اليوم:
قصر الأمن على النفوس والأرزاق
مع أنه أشمل من ذلك من جهة أنّ أعظم الأمن هو الأمن في الدين والعقيدة والأخلاق، وحماية الناس من أن يفتنوا في دينهم.
وهذا المفهوم الشامل قد غاب عن حياة كثير من الناس اليوم.
وقد أسهم الإعلامُ الماكر الموالي للكافرين وإخوانهم من المنافقين في تغييب هذا المفهوم، حيث لم يضعوا لحماية الدين أيّ اعتبار في تحقيق الأمن.
مع أنّ الله عز وجل قد أفهمنا في كتابه الكريم أنّ أيّ خلل في أمن الناس فمصدره الخلل في دينهم وإيمانهم، فبضعف الدين والإيمان، أو غيابهما يحصل اختلال الأمن في بقية ضروريات الإنسان من نفس ومال وعقل وعرض.
قال الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ (النحل: 112).
قصر أمن النفس والرزق على الدنيا
وكذلك من المفهوم القاصر للأمن الذي يحاول الملبسون ترسيخه في أذهان الناس اليوم: توجيه الأنظار إلى توفير الأمن على النفس والرزق في هذه الحياة الدنيا فحسب.
ونسيان الأمن الحقيقي والسعادة الكبرى في الآخرة، وعدم أو ضعف الحرص على ذلك، وإغفال الأسباب التي توصل إلى الأمن يوم الفزع الأكبر، والفوز بدار الأمن والسلام، والتي أعدها الله عز وجل لعباده المتقين.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ﴾ (الحجر: 45-46). وقال سبحانه: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (يونس: 25).
إنّ هذا الطرح الشامل لمفهوم الأمن يكشف لنا الأعداء الحقيقيين لأمن الناس، والذين يتترّسون وراء مكافحة الإرهاب، والحرص على توفير الأمن للناس، مع أنهم مصدر الإرهاب والخوف والجرائم والفساد، وبيان ذلك واضح وجلي في أقوالهم وأفعالهم، وجرائمهم الشنيعة في إفسادهم للدين والنفس والعقل والمال والعرض، وما يترتب على ذلك من العقوبات، والمخاوف الدنيوية، والعقوبات الأخروية في نار جهنم، حيث لا أمن، ولا راحة، ولا سلام.
فأيّ الفريقين أحق بالأمن والدعوة إليه في الدنيا والآخرة؟
أهُم دعاة التوحيد والإيمان والفضيلة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، أم دعاة الشر والفساد والرذيلة؟!
لقد حسم الله عز وجل الجواب بقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82).
وما مثَل أعداء الأمن الذين يعتدون على الناس في دينهم، وأنفسهم وعقولهم، وإعراضهم وأموالهم، ويعرضونهم لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا كما قال الأول: “رمتني بدائها وانسلت”.
العدو الحقيقي لأمن الخلق
ولإيضاح هذا الأمر أضم إلى آية الأنعام السابقة الآيات التالية، والتي يوضح الله عز وجل فيها من هم دعاة الأمن وأهله؟! ومن هم دعاة الشر والعذاب وأهله؟! وأنّه لا التقاء بينهما، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً﴾ (النساء: 27)، ويقول عز وجل: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 221).
ويقول الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون وهو يدعو قومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾ (غافر:41- 42).
إذاً فكل من ناصب هذا الدين العداء، وسعى لصد الناس عنه، وحرمهم من نعمة الأمن في ظلاله، وكان سبباً في حلول عقوبة الله عز وجل في الناس سواء في الدنيا، أو في الآخرة في عذاب النار، فهو العدو الحقيقي لأمن الناس وسلامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، سواء كان هذه الصدّ عسكرياً أو فكرياً أو أخلاقياً، وسواء كان هذا العداء على الدين والأخلاق، أو على الأنفس والأموال والأعراض.
[للمزيد: حُماة الفضيلة .. وحِلف الرذيلة (3-3) الانتكاس وخطة المجرمين]
أدوار للكفار والمنافقين، ولأصحاب المجون
وبهذا يتبين أنّ أعدى أعداء الأمن اليوم هم الكفار ومن تولاهم من المنافقين، الذين أخافوا الناس وسلبوهم الأمن في دينهم وعقولهم..
إما بالشبهات والأفكار المنحرفة، أو بسلبهم أمن نفوسهم باحتلال ديار المسلمين، وإهلاك الحرث والنسل، وبالقتل والتشريد والتعذيب، وبسلبهم الأمن في أخلاقهم وأعراضهم، وذلك بما سلطوا عليهم من وسائل الشهوات والإباحيات والفضائيات، التي تقتل الفضيلة، وتشيع الفاحشة، وبسلبهم الأمن في أموالهم بما سلطوا عليهم من نار الربا والبيوع والعقود المحرمة، وأكل المال بالباطل.
وقد ساعدهم في تحقيق ذلك العملاء المنافقون، المنتسبون زوراً وبهتاناً للإسلام والمسلمين، كما ساعدهم على ذلك بعض أبناء المسلمين من أهل الفسوق والمجون واللهو واللعب المتبعين للشهوات، والذين ليس لهم همٌّ إلا الدنيا ومتاعها الزائل، وهؤلاء على درجتين:
- فمنهم الماجن الفاسد في نفسه وبيته.
- ومنهم الداعي إلى الفساد بماله وفكره وجهده، وهؤلاء أشد جرماً من الفاسد في نفسه فقط.
ولا يخفي ما لأهل الفسق والمجون والشهوات من أثر خطير على أمنهم في أنفسهم، وعلى أمن الناس الذين يضلّونهم وينشرون الفساد بينهم! فكم من مستقيم على دينه ضل بسببهم؟! وكم من مال اُعتدي عليه بسببهم؟!
والمقصود أن أثر هذه الفئة ظاهر وجلي في تهديد أمن الناس في حاجاتهم وضرورياتهم. وهم الذين يستخدمهم أعداء الدين من الكفرة والمنافقين في تمرير الفساد والخنا والرذيلة والفجور، حيث وافق فساد الكفرة ومخططاتهم الخبيثة هوى في نفوس هؤلاء الجهلة من أهل الشهوات، ووافق حباً للدنيا في قلوبهم فأسهموا في تنفيذ مخططات الكفرة المفسدين في بلاد المسلمين.
[اطلع على: ضعف تحمّل الفطرة للشهوات .. دلالة على وظيفتها]
الأخذ على اليد
إنّ هؤلاء هم الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخذ على أيديهم حتى لا تغرق سفينة المجتمع بسببهم، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلّم:
«مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا!، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وان أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً». (1صحيح البخاري: 2493)
لاحِقون بأعداء الأمن
وممن يلحق أيضاً بأعداء الأمن:
الخوارج
أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة، ولا سيما فرقتا الخوارج والمرجئة؛ وذلك أن من عقيدة الخوارج تكفير عصاة المسلمين، وبالتالي استباحة دمائهم وأموالهم، وفي هذا عدوان على أمن الناس في دينهم بهذا المعتقد المخالف لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعدوان عليهم في دمائهم وأموالهم باستحلالها، وذلك لكونهم عند الخوارج كفاراً غير معصومين.
المرجئة
وأما اعتداء المرجئة على أمن الناس فيتمثل في معتقدهم المنحرف المخالف لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي هذا اعتداء على الدين وعدوان على أمن الناس في أعراضهم وأنفسهم وأموالهم، وذلك بما يترتب على قولهم إن الإيمان هو التصديق فحسب، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية!
ولا يخفي ما في ذلك من تجرئة الناس على الفجور والفساد، والتهوين من شأن المعصية والرذيلة والفساد.
خاتمة
نسأل الله عز وجل أن يؤمننا في ديننا وأنفسنا وعقولنا وأعراضنا وأموالنا في الدنيا، وأن يمنَّ علينا بدخول الجنة دار السلام والأمن، يوم يُبعثر ما في القبور، ويحصّلُ ما في الصدور.
والحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
……………………………………………
هوامش:
- صحيح البخاري: 2493.
اقرأ أيضا: