لا سعادة للعباد، ولا صلاح لهم، ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم، والتعرف إليه قرة عيونهم…

اسم «الرب»

و(الرب) من أسماء الله – عز وجل – الحسنى التي يدعى بها، ويمجد بها، ويقدس بها وعامة ما جاء في ذكر هذا الاسم الكريم إنما جاء مضافًا إلى الخلق عمومًا وخصوصًا مثل: (رب العالمين)، (رب السماوات والأرض)، (رب الملائكة)، (رب العرش) ونحو ذلك.

وورد ذكـره في القـرآن في أكثر من 900 موضـع؛ كقوله تعـالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، وقولـه سبحانه: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾ [الأنعام: 164]، وقوله – عز وجل -: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [هود: 66]، وقوله سبحانه: ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: 97، 98]، وقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة: 74]. وقد ورد كثيرًا في أدعيـة الأنبياء – عليهم الصـلاة والسلام – والصـالحين قولهـم: (ربنا).

معنى (الرب)

قال ابن الأثير: «يطلق (الربّ) في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى، وإذا أطلق على غيره أضيف، فيقال: ربّ كذا، وقد جاء في الشعر مطلقًا على غير الله ، وليس بالكثير»1(1) النهاية لابن الأثير 2/179..

وقال الراغب: «و(الربّ) في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام، يقال: ربّه ورباه، وربَّبه، وقيل: لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن. ولا يقال (الرب) مطلقًا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، نحو قوله: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: 15]، وبالإضافة يقال له ولغيره، نحو قـولهـم: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفـاتحة: 2]، ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الصافات: 16].

ويقال: ربّ الفَرَس، وربّ الدار، وعلى ذلك قال الله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 42]، وقوله: ﴿ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ﴾ [يوسف: 50]»2(2) المفردات للراغب ص 184..

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: «(والرب) هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح. وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى»3(3) تفسير ابن كثير 1/23..

ويبين الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – معنى قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فيقول: «قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: ربوبيته للعالم تتضمَّن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كلَّ وقتٍ فيه، وكونه معه كلَّ ساعةٍ في شأنٍ، يخلق ويرزق؛ ويُميت ويُحيي؛ ويخفض ويرفع؛ ويُعطي ويمنع؛ ويُعِزُّ ويُذٍلُّ، ويُصرِّف الأمور بمشيئته وإرادته، وإنكار ذلك إنكارٌ لربوبيته وإلهيته وملكه»4(4) الصواعق المرسلة 4/1223..

ويتحدث – رحمه الله تعالى – عما يشاهده العبد من اسـمه سبحانه (رب العالمين) فيقول: «وشاهد من ذكر اسمه: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قيُّومًا قام بنفسه؛ وقام به كلُّ شيءٍ، فهو قائمٌ على كلِّ نفس بخيرها وشرِّها، قد استوى على عرشه، وتفرَّد بتدبير ملكه، فالتدبير كلُّه بيديه، ومصير الأمور كلُّها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع، والإحياء والإماتة، والتوبة والعزل، والقبض والبسط، وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرِّين: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29] .

لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا مُعقِّب لحكمه، ولارادَّ لأمره، ولا مُبدِّل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال – أول النهار وآخره – عليه، فيُقدِّر المقادير ويُوقِّت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائمًا بتدبير ذلك كلِّه وحفظه ومصالحه»5(5) الصلاة وحكم تاركها ص 169، 170..

اسم (الرب) من أعظم الممادح التي مجد الله – عز وجل – نفسه بها

ومن ذلك:

  • امتداح الله – عز وجل – نفسه بأنه: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والعالمون جمع عالم. وكل ما سوى الله فهو عالم: قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والنصوص المعرفة بأنه رب العالمين كثيرة جدًا، كما مدح نفسه بأنه رب كل شيء كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 164].
  • تمجيده سبحانه نفسه بأنه رب العـرش العظيم كما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: 26]، وقوله – عز وجل -: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116].
  • كما مدح سبحانه نفسه بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، قال الله – عز وجل -: ﴿رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65].
  • وامتدح الله نفسه – تبارك وتعالى – بأنه ربنا ورب آبائنا الأولين، قال سبحانه: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 26].
  • وقال عن نفسه – عز وجل – أيضًا رب المشرق والمغرب، ورب المشارق والمغارب، قال عز وجل: ﴿رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [المزمل:9]، وقال تبارك وتعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ [المعارج: 40].

 اسم (الرب) – سـبحانه وتعـالى- من أكثر الأسـماء التي يدعى بها الله عز وجل

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «و (الرب) هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم. وأَخَصُّ من هذا: تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم، وأخلاقهم. ولهذا أكثر دعائهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه التربية الخاصة»6(6) تفسير السعدي 5/486..

وهذا واضح وجلي فيما ذكره الله – عز وجل – في كتابه الكريم عن أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام – وأوليائه الصالحين حيث صدروا دعاءهم بهذا الاسم الكريم ومن ذلك.

– دعاء الأبوين – عليهما السلام – بقولهما: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

– دعاء  نوح – عليه الصلاة والسلام – بقوله: ﴿رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾.. الآية [نوح: 28]، وقوله: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِ﴾ [هود: 45].

– ودعاء موسى – عليه الصلاة والسلام – بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 155].

– ودعاء يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [يوسف: 33]، وقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾… الآية [يوسف: 101].

– وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله كثيرًا باسم (الرب)، ويمجده ويعظمه به، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلك على سيد الاستغفار، اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت… )7(7) البخاري (6306)..

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه يقول: (اللَّهم ربّ السماوات، وربّ الأرض ورب العرش العظيم، ربّنا وربّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن… )8(8) مسلم (2713)..

وكان إذا افتتح صلاته  من الليل قال: (اللَّهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض…)9(9) مسلم (770)..

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب بقوله: (لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لاإله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم)10(10) البخاري (6345)..

الرب اسم يتضمن معاني عظيمة كثيرة ويستلزمها

فمما يتضمنه هذا الاسم الكريم:

أن الله – عز وجل – رب كل شيء وخالقه ومليكه، والقادر عليه، والمتصرف في جـميع أموره؛ وبهذا فإنه لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره لأن أحدًا لا يدعي أنه أو غيره من المخلوقين هو الخالق البارئ المحيي المميت القادر على كل شيء، والمتصرف في كل شيء. إلا شذرًا من ملاحدة الصوفية، والباطنية والنصرانية التي تزعم أنه مع الله – عز وجل – شريك في ربوبيته وتصريفه لهذا الكون تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

أما أكثر طوائف المشركين فقد أقروا بربوبية الله – عز وجل – ولم ينكروها. وهم عبيد لله – عز وجل – بهذا المعنى قال تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31].

وهم الذين قال الله – عز وجل – عنهم: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]، وقال فيهم: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 83].

فالذين آمنوا بربوبية الله – عز وجل – وحدها دون أن يوحدوه ويعبدوه هم الذين أسلموا لله – عز وجل – كرهًا. وأما الذين وحدوه وعبدوه وأطـاعوه فهم أهل العبودية الخاصة الذين عبدوا الله – عز وجل – طوعًا واختيارًا وانقيادًا.

يقول ابن القيم رحـمه الله تعالى: «فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره، فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألَّهه وحده السعداء، وأقروا له طوعًا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.

وهنا افترق الناس، وصاروا فريقين: فريقًا مشركين في السعير، وفريقًا موحدين في الجنة»11(11) مدارج السالكين 1/34، 35..

الرب والإله بينهما اجتماع وافتراق

أي: أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وبيان ذلك أن يقال: إذا اجتمع (الرب) و (الإله) في موضع ونص واحد فإنهما يفترقان في المعنى؛ حيث يتوجه معنى (الرب) إلى المالك المتصرف القادر الخالق المحيي المميت المتفرد بخصائص الربوبية. و(الإله) يتوجه إلى المعبود المألوه الذي يجب أن يوحده العباد بأفعالهم. أما إذا افترقا حيث ذكر كل منهما في موضع فإنهما يجتمعان بحيث يدل أحدهما على معناه كما يتضمن معنى الآخر.

مثال لحالة الاجتماع، قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ﴾ فذكر سبحانه هنا ﴿رَبِّ النَّاسِ﴾ ، ﴿إِلَٰهِ النَّاسِ﴾ وهنا يتوجه معنى (الرب) إلى المالك المتصرف المحيي المميت الخالق البارئ المتفرد بصفات الربوبية. كما يتوجه معنى (الإله) إلى المعبود المألوه المطاع.

مثال لحالة الافتراق:

قوله تعالى: ﴿وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163].

وقوله تعالى في كثير من الأدعية القرآنية: (ربنا)، (ربِّ).

فهنا يتوجه معنى (الإله) في الآية الأولى إلى معنى الألوهية والعبودية لله – عز وجل – مع تضمنه لمعنى الربوبية، ويتوجه معنى (الرب) في الآية الثانية إلى معنى الربوبية والملك والتدبير والخلق مع تضمنه لمعنى العبودية.

من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرب)

أولاً: إن اسم (الرب) سبحانه وما يستلزم من الأسماء والصفات يتضمن تعريف الناس غايتهم التي خلقوا من أجلها، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم؛ فكونه رب العالمين لا يليق به أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرفهم بنفسه ولا بما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيها.. فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب إلى ما لا يليق: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].

ثانيًا: الإقرار بربوبية الله – عز وجل – يقتضي ويستلزم توحيد الله – عز وجل – وعبادته لا شريك له إذ أن الخالق لهذا الكون وما فيه والمتصرف فيه بالإحياء، والإماتة، والخلق، والرزق، والتدبير هو المستحق للعبادة وحـده إذ كيف يعبد مخلوق ضعيف، ويجعل ندًا لله تعالى في المحبة والتعظيم والعبادة وهو لم يخلق ولا يملك لنفسه تدبيرًا فضلاً عن أن يملكه لغيره، وهـذا ما احتج الله – عز وجل – به على المشركين الذين أقروا بربوبيته سبحانه ولكنهم لم يعبدوه وحده، بل أشركوا معه غيره وقد جاءت هـذه الاحتجاجات الكثيرة في القرآن الكريم بأساليب متنوعة منها:

– قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [ البقرة: 21، 22].

– وقوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: 191]، وقوله سبحانه: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17].

– وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [المؤمنون: 89، 90].

– وقوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38]. والآيات في هذا كثيرة جدًا.

ثالثًا: الإيمان بصفة الربوبية لله – عز وجل – يعني: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذ إن من صفات الرب سبحانه كونه قادرًا خالقًا بارئًا مصورًا، حيًا، قيومًا عليمًا، سميعًا، بصيرًا، محسنًا، جوادًا، كريمًا، معطيًا، مانعًا. وقل ذلك في بقية الأسماء والصفات. إذاً فكل أثر من آثار الإيمان بالأسماء الحسنى هو في الحقيقة راجع إلى ما يتضمنه اسم (الرب) سبحانه وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «إن ربوبيته سبحانه إنما تتحقَّق بكونه: فعَّالاً مُدبِّرًا؛ متصرِّفًا في خلقه؛ يعلم، ويقدر، ويريد، ويسمع، ويبصر.

فإذا انتفت أفعاله وصفاته: انتفت ربوبيته، وإذا انتفت عنه صفة الكلام: انتفى الأمر والنهي ولوازمها، وذلك ينفي حقيقة الإلهية»12(12) مختصر الصواعق المرسلة 2/474..

ويقول أيضًا: «إن (الرب): هو القادر الخالق البارئ المصور؛ الحي القيوم؛ العليم السميع البصير؛ المحسن المنعم الجواد؛ المعطي المانع؛ الضار النافع؛ المقدم المؤخر؛ الذي يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء؛ ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء؛ إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى»13(13) بدائع الفوائد 2/212..

رابعًا: الإيمان باسم (الرب) – عز وجل – وما يتعلق به من صفات يقتضي الرضا به سبحانه ربًا وإلهًا وحاكمًا ومشرعًا، لأن الرضا بربوبيته – عز وجل – هو رضا العبد بما يأمره به ربه وينهاه عنه، ويقسمه له ويقدره عليه، ويعطيه إياه ويمنعه منه. فمن لم يحصل الرضى بذلك كله لم يكن العبد قد رضي به ربًا من جميع الوجوه، ولا يذوق عبد طعم الإيمان حتى يأتي بكل موجبات الربوبية ولوازمها. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً)14(14) مسلم (34)، وأحمد 1/208.. ومتى ذاق العبد طعم الإيمان فلا تسأل عن سعادته، وأنسه، وطمأنينيته وثباته، ولو احتوشته البلايا والرزايا. كما أن من هذا شأنه فإن طاعات الله – عز وجل – تسهل عليه وتلذ له ، كما يكون في قلبه كره معاصي الله – عز وجل – والنفور منها.

خامسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه الذي يربي عباده وينقلهم من طور إلى طور وينعم عليهم بما يقيم حياتهم ومعاشهم. وهو الذي أحسن خلقهم وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. فإن هذه المعاني من شأنها أن تورث في قلب العبد المحبة العظيمة لربه سبحانه وحب ما يحبه ومن يحبه، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه، والمسارعة في مرضاته، وتعظيمه وإجلاله وشكره وحمده الحمد اللائق بجلاله وعظمته وسلطانه وإنعامه.

سادسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه المتكفل بأرزاق خلقه، وعنده خزائن السماوات والأرض له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فإن هذه الصفات تورث في قلب العبد العارف لربه سبحانه قوة عظيمة في التوكل عليه سبحانه في جلب المنافع، ودفع المضار، وفي تصريف جميع أموره فلا يتعلق إلا بالله تعالى ولا يرجو إلا هو، ولا يخاف إلا منه سبحانه إذ كيف يتعلق بمخلوق ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. فضلاً عن أن يملكه لغيره.

سابعًا: لما كان من معاني الربوبية اختصاصه سبحانه بجلب المنافع ودفع المضار، وتفريج الكروب، وقضاء الحاجات فإن العباد – بما أودع الله في فطرهم من معرفة ربهم بهذه الصفات – يلجأون إلى ربهم ويتضرعون إليه في الشدائد والملمات وينفضون أيديهم من كلٍ سوى الله – عز وجل – وكلما عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته أثر هذا في دعائه وقوة رجائه، ولجوئه، وتضرعه لربه سبحانه والوثوق بكفايته سبحانه وقدرته على قضاء حوائج عباده.

ولذلك نرى في أدعية أنبيائه – سبحانه وتعالى – وأوليائه تكرار الدعاء بقولهم: (ربنا، ربنا).

ثامنًا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن يقول لسيده (ربي) فقال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أَمَتي، وليقُل: فتاي، وفتاتي، وغلامي)15(15) البخاري (2552)..

قال الحافظ ابن حجر: «وفيه نهي العبد أن يقول لسيده (ربي) وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه.

والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن (الرب) هو المالك القائم بالشيء، فلا توجـد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطـابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معـه، فكره له المضاهاة في الاسـم لئلا يدخل في معنى الشـرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعـبد عليه من سـائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار، ورب الثوب.

قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله.

[وتعقبه الحافظ بقوله]: والذي يختص بالله تعالى إطلاق (الرب) بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجـوز إطلاقه كما في قوله تعـالى حكاية عن يوسف عليه السلام: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ [يوسف: 42]، وقولـه: ﴿ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ﴾ [يوسف: 50]، وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) فدلَّ على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز…

وقيل: المراد: النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة»16(16) فتح الباري 5/179..

وترك استعمال هذه الكلمة لورود النهي عنها أسلم وأحوط والله أعلم.

ذكر الأسماء الحسنى التي اقترنت باسم (الرب) تبارك وتعالى.

ورد اقتران اسم (الرب) – سبحانه وتعالى – في القرآن الكريم بأسماء كريمة هي: (الرحمن، الرحيم، الغفور، الغفار، العزيز).

  • قال سبحانه وتعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 2، 3].
  • وقال – عز وجل: ﴿رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ [النبأ:37].
  • وقال تبارك وتعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [ص: 66].
  • وقال تبارك وتعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: 58].
  • وقال سبحانه: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ:15].

وبتأمل هذه الأسماء المقترنة باسم (الرب) تعالى نجد أن فيها صفة الرحـمة والمغفرة، وفي هـذا التأكيد على أن من أخص صفات (الرب) – عز وجل – الرحمة والرأفة بعباده وأنها من موجبات ربوبيته. ومن ذلك تربيته لعباده، وإنعامه عليهم، وإرساله الرسل إليهم وإنذارهم وتبشيرهم. وهذه هي من لوازم التربية العامة، وأما التربية الخاصة من الله – عز وجل – لأوليائه بتوفيقهم، وحفظهم، ورعايتهم، وتربيتهم. فالرحمة، والرأفة، والمغفرة واضحة جلية في ذلك والله أعلم، وفي الآية الثانية ورد اسم: (العزيز الغفار). وصفة: (العزة والغلبة) من موجبات الربوبية والسؤدد.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشة برحمته: ﴿الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ﴾  [طه:5] مطابق لقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها. فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربّاً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله»17(17) مدارج السالكين 1/35..

الهوامش

(1) النهاية لابن الأثير 2/179.

(2) المفردات للراغب ص 184.

(3) تفسير ابن كثير 1/23.

(4) الصواعق المرسلة 4/1223.

(5) الصلاة وحكم تاركها ص 169، 170.

(6) تفسير السعدي 5/486.

(7) البخاري (6306).

(8) مسلم (2713).

(9) مسلم (770).

(10) البخاري (6345).

(11) مدارج السالكين 1/34، 35.

(12) مختصر الصواعق المرسلة 2/474.

(13) بدائع الفوائد 2/212.

(14) مسلم (34)، وأحمد 1/208.

(15) البخاري (2552).

(16) فتح الباري 5/179.

(17) مدارج السالكين 1/35.

اقرأ أيضا

شرح أسماء الله الحسنى (1) [الله جل جلاله]

العلم بأسماء الله الحسنی وصفاته العلا

كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات

 

التعليقات غير متاحة