لا نبتعد كثيراً إذا قلنا إن الاختلال في توازن أمور الدين والدنيا كان ولا يزال أحد الأسباب التي جعلت المسلمين يتعثرون في نهضتهم ويضعفون في الوصول إلى أهدافهم.

الجمع بين الدنيا والدين معادلة صعبة

إن كثيراً من المسلمين يحملون مفهوماً خاطئاً عن الدنيا أو عن التوازن بين الدنيا والدين، فتراهم يطربون عندما يسمعون قصص الزهد غير الشرعي، وقصص الزهاد الذين يتركون الدنيا كلها، والواعظ الذي يذم الدنيا دائماً يقبل الناس عليه ويسمعون منه، ويعجبون به.

لا شك أنها معادلة صعبة ودقيقة تلك التي تجمع بين الدنيا والدين، أو بين الدنيا والآخرة، وأي خلل في فهم هذه المعادلة سيؤدي إلى أخطاء كبيرة وتقصير عما يريده الله سبحانه وتعالى من المؤمنين من التمكن في الأرض وإعمارها بالعدل ونشر الإسلام.

المفهوم الإسلامي للدنيا والدين

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ) : (الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر وتيسير الحساب)1(1) تفسير ابن كثير: 1/200..

وقال في الظلال: (إنهم يطلبون الحسنة في الدارين ولا يحددون نوع الحسنة، وهذا التعليم الإلهي يحدد لمن يكون الاتجاه، ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره، وترك له الخيرة فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا ولكن يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها)2(2) في ظلال القرآن: 1/202..

فالدنيا في المفهوم الإسلامي الصحيح وسيلة وذريعة لتحصيل مقاصد الشريعة (فالمقصد هو الدين ولكن لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرعية)3(3) سلسة مقالات أضواء السياسة الشرعية (ج6/1). والكسب في الدنيا من الواجبات لأنه لا يستطيع الاستقلال بالعبادة إلا بتأمين ضروريات حياته، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا كانت الدنيا بهذه المثابة وأنها منزل وممر لا موطن ومقر فالآخرة هي دار الجزاء، قال تعالى: (فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) إذا كانت كذلك فالواجب الكشف عن جهة انتظامها واختلالها، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها .

وبما أن الدنيا مطية للآخرة، فإنها إذا فسدت فربما أدى فسادها إلى إنقاص الدين. فإذا وصلت الحال بأهلها إلى قلة الأمن وقلة الرزق أو التهارج والقتل والعيش الذليل وتسلط الأعداء وقهرهم للمسلمين، فمن المؤكد أن هذه الأمور تضعف الدين كذلك فلا يستطيع المسلم أن يقول: أنا أحفظ ديني وأدع الدنيا لمن هو راغب فيها أو للكفار..

يقول الماوردي: (لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلاف أمورها لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها، لأنه منها يستمد.. ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة ولا لاستقامتها أثراً، لأن الإنسان دنيا نفسه)4(4) أدب الدنيا والدين: 1/132..

ما ورد في القرآن حول الدنيا

عندما يبتعد الناس عن منهج الأنبياء وعن اتباع الشرائع الإلهية، تصبح الدنيا محورهم الأساسي، وهى آمالهم وموضع لذاتهم، ويصبحوا عبيداً لها. ولا فكاك لهم من أسرها. يقول الأستاذ محمد قطب: (وكان الخلل في الجاهلية العربية هو انفصال الدنيا في حس الناس عن الآخرة لعدم إيمانهم بالآخرة، وهو الآن انفصال الدنيا في حس الناس عن الآخرة لاستصغارهم شأن الحياة الدنيا واحتقارها، ولأول وهلة يبدو هذا الأمر هو عين الإيمان).

جاء القرآن الكريم ليصحح هذه الأوضاع ويضع المسلم على الجادة المستقيمة، فالدنيا ليست غاية وإنما وسيلة، ولا بد من إعمارها. ففي هذه الدنيا نعبد الله ونتعلم ونجاهد. قال تعالى: (إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر: 51] .

(ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105]

(نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ) [فصلت: 31] .

(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ) [آل عمران: 148] .

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) [الأعراف: 32] .

وذكر الزينة في هذا المجال له دلالته الخاصة، إذ الزينة جمال والجمال شيء زائد على الضرورة.

وأما ما جاء في القرآن من ذم للدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح المفرطين كقوله تعالى: (ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْوٌ) [الأنعام: 32] .

وقوله تعالى: (واضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً) [الكهف: 45] .

فهي دعوة إلى عدم التعلق بالدنيا الفانية وأنها قصيرة لا تستحق أن تجعل غاية، كقوله سبحانه: (ورَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطْمَأَنُّوا بِهَا) [يونس: 7] .

وقد بعث الله الأنبياء هداة للبشرية ولم يكن من منهجهم الإعراض عن عمارة الدنيا، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: (واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً) وقوله تعالى على لسان صالح: (وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) .

ما جاء في الأحاديث حول الدنيا

وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» فهي سجن بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من جنات، وجنة الكافر بالنسبة لما ينتظره في الآخرة من العذاب. وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه» فذكر الله وما والاه هو كل عمل خير يقصد به إقامة الدين، وهذا مطلوب في الدنيا.

ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- العملية من الدعوة والجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، أكبر دليل على هذا التوازن فلم يمنع الصحابة اشتغالهم بالتجارة أو الزراعة من الجهاد والتعلم ونشر الإسلام.

أصناف الناس في مراعاة أمور الدنيا

1-المنهمكون فيها وهم شر الدواب.

2 – المبتعدون عنها غاية الابتعاد، وهذا مخالف للسنة الكونية والشرعية.

3-صنف وسط وفوا الدارين حقهما وهم الأفضل، لأن بهم قوام أسباب الدنيا، وهذا الصنف هو الذي يتناولها ويراعي فيها ما يجب فيقتصر لنفسه على تناول بلغته، ويجعل الباقي مصروفاً إلى ما دعي إليه من الجهاد والعلم والنفقة على المحتاجين وكل أبواب الخير..

كيف اختل التوازن؟!

لا شك عندنا أن الصحابة رضوان الله عليهم هم القدوة وهم النموذج في فهم الإسلام، وأقوالهم وأفعالهم هي التي تدل على هذا الفهم، وبالرجوع إلى سيرتهم نجد أن حياتهم كانت طبيعية ليس فيها تكلف وتعمق، يأخذون بالأسباب في الكسب من تجارة وزراعة أو عمل يدوي، ويخصصون جزءاً من أوقاتهم للعلم، وإذا دعا داعي الجهاد فهم الرجال، وفيهم الأغنياء دون بطر، والفقراء مع التعفف، كانوا أبعد الناس عن التهالك على الدنيا، فتحوا البلدان وأنشئوا المدن، وأقاموا الدول.

الخلل إذن جاء بعدهم، جاء من يقول: إن الدنيا ضرة الآخرة وليست طريقاً لها، وأشاع الزهد بمعنى ترك الدنيا وعدم الاهتمام بها.

بعض الظواهر التي أدت إلى هذا الخلل

1- الزهد الأعجمي

نقل الصوفية إلى المجتمع الإسلامي، فلسفات الهند في تعذيب الجسد وحب (الفقر) كما نقلوا رهبانية النصارى، وروجوا هذه البضاعة باسم الزهد المشروع، وحاولوا تأييد هذه (الرهبنة) بذكر ما كان عليه الجيل الأول من السمو حيث لم تكن الدنيا في قلوبهم وراحوا يذمون الدنيا بمناسبة وبغير مناسبة، وساعدهم على ذلك القصاص الجهلة، الذين وجدوا الكلام في هذا الموضوع من الأشياء المحببة لدى الجماهير، وهكذا أصبحت مرتبة الزاهد الذي لا يتكسب ويعيش في زاوية أو رباط هي أعلى المراتب، وسمع المسلمون وأعجبوا بمن يقول: (لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالاً ولا أحاسب بها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر الرجل الجيفة)5(5) شرح حديث الزهد لابن رجب / 75..

ووضع هؤلاء الصوفية كلام الله سبحانه وتعالى عن الدنيا أو كلام الرسول – صلى الله عليه وسلم- في غير موضعه، ولم يفهموه حق الفهم، وقد أدبنا الله سبحانه وتعالى في القرآن بأن نذكر القضية ونقيضها حتى يتم التوازن، فلا يذكر عذاب النار إلا ويذكر نعيم الجنة، ولا يذكر الفجار إلا ويذكر الأبرار، فعندما نذم الدنيا يجب أن نبين على أي شيء يقع الذم.

يقول الشيخ رشيد رضا: (ومن أضر ما حدث بعد الخلفاء الراشدين الغلو في التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا ضرة الآخرة على الإطلاق، ومن أكبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ، فزرع أهله في قلوب الأمة الإسلامية فسيل الكسل، وما التكايا التي أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند النصارى)6(6) المنار: 33 / 175.. (والذين لبسوا لبوس الصالحين نفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد، وأكثرهم يريد إنفاق كسب الكاسبين عليهم وهم كسالى لزعمهم أنهم بحب الله مشغولون)7(7) المنار: 4/383. (7) .

هؤلاء البطالون الذين لا يريدون الكد والتعب، ويتخوفون الصراع مع الأعداء، يلجئون إلى حيلة الزهد والانزواء وكيف يكون إذن التمكين في الأرض والحكم بشريعة الإسلام، وهذا كله يختلف عن الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها.

2- الخلل في فهم طبيعة الإنسان

قد يظن بعض الناس أن الأمور الدنيوية أو اللذات الحسية هي نقص في الإنسان بتأثير من الفلاسفة الذين يفكرون تفكيراً خيالياً، ورهبان النصارى الذين يستقذرون الأمور الحسية وهذا غير صحيح، بل هي بوجه من الوجوه كمال إذا لم تطغِ، وإذا لم تصرفه عن الآخرة (والدليل على أن اللذات الجسدية ليست نقصاً: أن عالم الآخرة لا يخلو منها، فهو عالم يكون الإنسان في أعلى أوج الكمال، فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء)8(8) المنار 3/100. ومن هذا الباب يشنع النصارى على نبينا عليه الصلاة والسلام كثرة الزواج، ويحاول بعض المسلمين الرد عليهم بأساليب تبريرية، فالأكل والشرب والزواج ليست عيباً في الإنسان، لأن طبيعته ليست من جنس الملائكة.

3- أسباب نفسية

عندما يفشل بعض الناس في الحياة ولا يستطيعون إعمار الدنيا بالخير والتمكن فيها، واستخلاصها من أيدي الكفار، عندها يلجئون إلى حيلة نفسية وهي التركيز على الزهد، وإقناع النفس أن نعيم الدنيا زائل، والكفار لهم الدنيا ونحن لنا الآخرة، وربما في دخائلهم يحبون الدنيا حباً جماً، لقد انتشر التصوف وازداد بعد ضعف الدولة الإسلامية أو فشلها في الوقوف أمام زحف التتار، فكثرت الزوايا والربط والهروب السلبي من متطلبات الكفاح.

عودة إلى المفهوم الإسلامي

1 – إن ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذكر للدنيا لا يفهم منه إلا التحذير أن يتنافسها المسلمون فتهلكهم، وإلا أنها لا تساوي شيئاً بالنسبة للآخرة لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشتغل بها، فقد دعا وجاهد وأسس دولة الإسلام، وكان بعض كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يدعهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ترك المال وترك الاشتغال بالتجارة.

وكذلك ذم الدنيا الوارد على لسان بعض العلماء (إنما هو راجع إلى أفعال بني آدم التي تقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته)9(9) شرح حديث الزهد لابن رجب ص 47..

2- ربما يتكالب الناس على الدنيا في زمن معين أو في بلد معين، فيأتي عالم رباني ويتكلم عن الدنيا وموقعها بالنسبة للآخرة وذلك فيما يرد الناس إلى التوسط والتوازن، فهذا صحيح وهذا يختلف عن الذي يجعل الفقر هو الأصل، ويذم الدنيا دائماً.

ذكر الخلال في كتابه (الحث على التجارة) حديثاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة) ثم أتى برواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه لم يستطع الجمع بين التجارة والعبادة، وقد علق محقق الكتاب أن الخلال ساق أثر أبي الدرداء ليبين أنه حالة خاصة بمن لديه سعة من المال لينفق على العيال ثم ساق كلام الذهب (الأفضل الجمع بين الأمرين) .

3 – الإسلام يحث على العمل والكسب: قال سفيان بن عيينة: (ليس من حب الدنيا أن تطلب منها ما يصلحك) وعن الإمام أحمد بن حنبل: (أحب الدراهم إلي درهم من تجارة، وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان)10(10) أبو بكر الخلال: الحث على التجارة والصناعة ص35، تحقيق محمود بن محمد الحداد..

وعن سعيد بن المسيب: (لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثاً لمن بعده)11(11) المصدر السابق ص80..

وقد جاء في القرآن عن داود عليه السلام: (وعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ) [الأنبياء: 80] ، وصح عن زكريا عليه السلام أنه كان نجاراً، وأما ما اشتهر … بعدئذ من احتقار للمهن، فهذا شيء أتي به المسلمون من قبل الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يعظمون العمل العقلي ويحتقرون المهن، ويرتبون المجتمع طبقات حسب أهوائهم، إن كتب بعض العلماء توحي بالاحتقار للمهن كقول الإمام الماوردي: (وأشرف الصناعات صناعة الفكر وأرذلها صناعة العمل)12(12) أدب الدنيا والدين، تحقيق د محمد صباح ص243. وهذا قد يكون من أسباب تخلف المسلمين فى الصناعة في الوقت الذي تقدم فيه الأوربيون واستعمروا العالم.

4 – إن الاستمتاع بالدنيا وملاذها والترفه فيها وإن كان بالحلال، ولكنه يوشك أن يؤدي بالمؤمن إلى حبها والتعلق بها، فالمؤمن يبقى على حذر منها ويبتعد عن مواطن الزلل والشبهات، ويعود نفسه على العيش الخشن حتى يكون على استعداد للجهاد في أي وقت، وهذا لا يمنع من لبس الثوب الحسن والنعل الحسن كما سأل أحد الصحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عن التجمل بهذا وحبه للنظافة في مسكنه وثوبه فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله جميل يحب الجمال) وهذا لا ينقص درجته عن الذي يفضل الخشونة في مأكله أو ملبسه.

وأما الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20] قال الشيخ الشنقيطي في تفسيرها: (التحقيق إن شاء الله في مثل هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم)13(13) أضواء البيان 7/393..

وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.

والخلاصة أنه لابد من التوازن الدقيق في هذه المسألة، فلا تكن الدنيا أكبر همنا، وفي نفس الوقت لا نغتر بترهات الصوفية وتخبطات القصاص الوعاظ، ونحن لا نريد تضخيم دور المال ولكن واقع البشرية اليوم يقول إن للاقتصاد دور بالغ، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، وكيف تقوى الدعوة الإسلامية دون أخذ الأسباب، وكيف نريد من شعوب تعيش على فتات موائد الغرب أن تنهض وتساعد في إقامة حكم الله في الأرض.

ولهذا قلنا: إنها معادلة صعبة.

الهوامش

(1) تفسير ابن كثير: 1/200.

(2) في ظلال القرآن: 1/202.

(3) سلسة مقالات أضواء السياسة الشرعية (ج6/1).

(4) أدب الدنيا والدين: 1/132.

(5) شرح حديث الزهد لابن رجب / 75.

(6) المنار: 33 / 175.

(7) المنار: 4/383.

(8) المنار 3/100.

(9) شرح حديث الزهد لابن رجب ص 47.

(10) أبو بكر الخلال: الحث على التجارة والصناعة ص35، تحقيق محمود بن محمد الحداد.

(11) المصدر السابق ص80.

(12) أدب الدنيا والدين، تحقيق د محمد صباح ص243.

(13) أضواء البيان 7/393.

المصدر

مجلة البيان العدد: (27،25) بقلم / محمد العبدة.

اقرأ أيضا

التوازن بين الدنيا والآخرة

«وقالوا إنْ هي إلَّا حياتُنا الدُّنيا» .. دروس وعبر

الفهم الصحيح للورع والزهد

التعليقات غير متاحة