سبق الفتح المنظم لبلاد “السند” سلسلة من الحملات والغزوات قام بها المسلمون، لمعرفة طبيعة البلاد وجمع المعلومات عنها، كما حدث لبلاد ما وراء النهر. وكانت البداية مبكرة في عهدة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وتتابعت الغزوات بعده في خلافة كل من عثمان وعلي ومعاوية -رضي الله عنهم.
بلاد السند..حدودها ومدنها
انقسمت شبه القارة الهندية في القديم إلى قسمين جغرافيين كبيرين، هما: “بلاد السند والبنجاب” و”بلاد الهند”.
وبلاد السند هي البلاد المحيطة بنهر السند “Indus”، الذي كان يسمى من قبل بـ “نهر مهران”، وينبع من عيون في أعالي السند وجبالها من أرض قشمير “كشمير”، ويصب في بحر السند “المحيط الهندي”. وتمتد هذه البلاد غربا من إيران، إلى جبال “الهمالايا” في الشمال الشرقي، تاركة شبه القارة الهندية في جنوبها. وتكون -الآن- جزءا كبيرا من دولة باكستان الحالية.
ومن مدن السند: مدينة “الديبل” “مكان كراتشي الحالية”، “قندابيل”، و”قيقان”، و”لاهور”، و”قصدار”، و”الميد”، و”الملتان” المجاورة للهند، وتقع على أعلى رافد من روافد نهر مهران.
وكان العرب يطلقون على “السند” من الأسماء: “ثغر الهند”، لأنه كان في ذلك الوقت المعبر إلى بلاد الهند11- راجع: أطلس التاريخ الإسلامي، للدكتور حسين مؤنس “الخريطة ص118″ دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين، للدكتور بطاينة ص”236” موسوعة التاريخ الإسلامي للدكتور أحمد شلبي “الجزء الثاني: الدولة الأموية ص139”..
حملات وغزوات سبقت الفتح المبارك
وقد سبق الفتح المنظم لبلاد “السند” سلسلة من الحملات والغزوات قام بها المسلمون، لمعرفة طبيعة البلاد وجمع المعلومات عنها، كما حدث لبلاد ما وراء النهر. وكانت البداية مبكرة في عهدة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وتتابعت الغزوات بعده في خلافة كل من عثمان وعلي ومعاوية -رضي الله عنهم، وحقق المسلمون فيها انتصارات عديدة، وغنموا مغانم كثيرة، إلى أن جاء عهد الوليد ابن عبد الملك “86-96هـ”، فجاء عهد الفتح المنظم لهذه البلاد.
وبعد أن استقام الأمر للحجاج بن يوسف الثقفي في جنوبي بلاد فارس، وتوطدت أقدام المسلمين هناك، وقضى على تمرد الملك “رتبيل” ملك سجستان، وأخضع بلاده بدأ يعد العدة لفتح إقليم “السند” نهائيا، فأرسل عدة ولاة قتلوا في الغزو واحدا بعد آخر، إلى أن استقر رأيه على تعيين قائد كبير أسند إليه هذه المهمة وهو ابن أخيه وصهره “محمد بن القاسم الثقفي”، الذي عرف بفاتح السند، وكان واليا على فارس في سن السابعة والعشرين من عمره، وجهزه بما يكفل له النجاح من عدة وعتاد، وأمده بستة آلاف جندي من أهل الشام، إضافة إلى ما كان معه من الجنود، فاجتمع تحت قيادته نحو عشرين ألفا في تقدير بعض المؤرخين، وأنفق الحجاج على الجيش ستين ألف ألف “60.000.000” درهم.
ويمكن تلخيص مراحل الفتح التي قام بها محمد بن القاسم في الخطوات الآتية:
1- سار محمد بن القاسم بجنده من “شيراز” إلى “مكران”، وأقام بها أياما واتخذ منها قاعدة للفتح ونقطة انطلاق، ثم فتح “قنزابور”، ثم “أرمائيل”.
2- تقدم لفتح “الديبل”، وتقع -الآن- قريبة من كراتشي في باكستان، وجعل عتاده وأزواده في سفن أرسلها بالبحر من “أرمائيل”، وحاصر “الديبل”، ونصب عليها المنجنيق، وفتحها بعد قتال عنيف دام ثلاثة أيام، وهدم “البد” الكبير بها، وكل “بد” آخر “والبد: كل تمثال أو معبد لبوذا” ثم حولها إلى مدينة إسلامية، وأزال منها كل آثار البوذية، وبنى بها المساجد وأسكنها أربعة آلاف مسلم.
3- كان لفتح المسلمين مدينة “الديبل” أثر كبير على أهل “السند” فسارعوا يطلبون الصلح، فصالحهم محمد بن القاسم ورفق بهم، ثم سار إلى مدينة “البيرون” “حيدار أباد السند حاليا” فصالح أهلها، وجعل لا يمر -بعد- بمدينة إلا فتحها صلحا أو عنوة، حتى بلغ نهر “مهران”، فعبر النهر، وفاجأ “داهر” ملك السند، والتقى معه في معركة حامية “93هـ” قتل فيها الملك، وانفض جمعه. وبمقتله استسلمت بقية بلاد السند، وأصبحت جزءا من بلاد الإسلام.
4- مضى محمد بن القاسم يستكمل فتحه، فاستولى على مدن وحصون كثيرة إلى أن اجتاز نهر “بياس” واقتحم مدينة “الملتان” في إقليم البنجاب في جيش عداده خمسون ألفا من الجنود والفرسان “عشرهم فقط من الجيش الأصلي الفاتح، ومعظمهم ممن انضم إلى المسلمين بعد نجاحهم في المعارك السابقة”، فاستولى على المدينة بعد قتال عنيف، وقضى على كل التماثيل والمعابد البوذية هناك، وغنم مغانم كثيرة من الذهب والفضة، ولهذا سميت “الملتان” بيت “أو ثغر” الذهب.
وقد اتبع ابن القاسم في هذه المدينة ما اتبعه في المدن الأخرى التي فتحها، من حيث التنظيمات المالية والإدارية والعسكرية، فعين الحكام على كورها المختلفة، وترك بها حامية من الجنود، وأخذ العهود والمواثيق على أعيان المدينة بأن يعملوا على استقرار الأمن.
5- وفي أثناء وجود محمد بن القاسم في “الملتان” جاءه خبر وفاة الحجاج، فاغتم لذلك، لكنه واصل فتوحاته حتى أتم فتح بلاد السند، وجاءته قبائل “الزط” و”الميد” -المعروفين بقطع الطرق البرية والبحرية- مرحبين به، وتعهدوا له بالطاعة والعمل على سلامة الطرق في البر والبحر.
6- انتهت أعمال ابن القاسم الحربية بإخضاع إقليم “الكيرج” على الحدود السندية الهندية وهزيمة ملكه “دوهر” ومقتله؛ ودخول أهله في طاعة المسلمين22- تفاصيل الأحداث في تاريخ خليفة بن خياط ص”206-213″، ص”318″، تاريخ اليعقوبي “2/ 231-234″، ص”288-290″، فتوح البلدان للبلاذري ص”530، 531، 532، 540-543″، والكامل في التاريخ لابن الأثير “4/ 250، 251”..
كيف كانت نهاية محمد بن القاسم رحمه الله
وكان محمد بن القاسم يتطلع إلى فتح إمارة “كنوج” “قنوج” أعظم إمارات الهند والتي كانت تمتد من السند إلى البنغال، فاستأذن “الحجاج” فأذن له، وبينما هو على أتم الاستعداد لذلك كخطوة أولى نحو الوصول إلى “كشمير” وإتمام فتح كل السند والهند إذ وصله موت الحجاج “95هـ”، ومن بعده بستة أشهر الخليفة الوليد بن عبد الملك “96هـ”، وتولى أخوه سليمان الخلافة، وكان سليمان ينقم على “الحجاج” وصنائعه، لأنه أقر “الوليد بن عبد الملك” على خلع بيعة “سليمان” وعقدها لابنه عبد العزيز بدلا منه، ومن ثم فما أن تولى حتى عزل محمد بن القاسم عن ولاية السند، وأمر به مقيدا إلى دمشق حيث عذب حتى الموت، دون أن يشفع له جهاده في سبيل نشر الإسلام في مناطق استعصت على المسلمين طويلا، بل كان الاعتبار الأهم هو للأهواء الشخصية33- راجع الكامل في التاريخ، لابن الأثير “4/ 286، 287”..
ويعلق الدكتور عبد الله جمال الدين على مقتل ابن القاسم بقوله: “وإن المرء ليعجب كيف تنتهي حياة ذلك الشاب بهذه الصورة المريرة، وهو الذي فتح كل بلاد السند، ونشر الإسلام في كافة أرجائها في فترة قياسية لم تتجاوز السنوات الثلاث؟ كيف يواجه محمد بن القاسم هذا المصير المؤلم ويجزى ذلك الجزاء المهين؟ لقد تضاءلت أمام أعماله الحربية والسياسية عظمة الإسكندر “المقدوني” وشهرته، إذ بينما عجز الإسكندر قبل ألف عام عن الاستيلاء على قسم ضئيل من الهند كان سكانه أقل من ربع السكان زمن ابن القاسم استطاع هذا الفتى أن يخضعها ويلحقها بالدولة الإسلامية من غير كبير عناء. وقد قال مؤرخ إنجليزي: لو أراد ابن القاسم أن يستمر بفتوحاته حتى الصين لما عاقه عائق، ولم يتجاوز أحد من الغزاة فتوحاته إلى أيام الغرنويين. لقد كان واحدا من عظماء الرجال في كل العصور”44- د. عبد الله جمال الدين: التاريخ والحضارة الإسلامية في الباكستان “أو السند والبنجاب” إلى آخر فترة الحكم العربي “ص80، 81”..
استئناف الفتوحات في عهد عمر بن عبد العزيز بعد توقفها
ومهما يكن من أمر فقد توقفت الفتوحات في جبهة السند بمجرد مغادرة محمد بن القاسم البلاد، وانكمش المسلمون في المناطق التي تم فتحها من قبل، وتركت الأوضاع السياسية السيئة في عاصمة الخلافة “دمشق” تأثيرها على الاستقرار والأمن في شبه القارة الهندية، فقامت الثورات والفتن في بعض المناطق الخاضعة للمسلمين، وحاول بعض أمراء السند وملوكها الذين قد فروا إلى كشمير وغيرها العودة إلى البلاد، ونجح بعضهم في استعادة سلطانه ونفوذه، مستفيدا من الاضطرابات الداخلية في العالم الإسلامي55- د. عبد الله جمال الدين: المرجع السابق ص”81″..
ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة “99-101هـ” كتب إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام والطاعة، فدخلت بلاد السند كلها في طاعة المسلمين، وأسلم أهلها وملوكها وتسموا بأسماء العرب، وبهذا أصبحت بلاد السند بلاد إسلام. ثم عادت واضطربت في أواخر بني أمية، إلى أن انتظمت في خلافة أبي جعفر المنصور -العباسي- “136-157هـ” وفي أيامه افتتحت “كشمير” ودخلت في دولة الإسلام66- راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير “4/ 323” “أحداث سنة 100هـ”، وأطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس، ص”131”..
ولا بد من الإشارة إلى أن الفتح العربي الإسلامي للسند لم يكن فتحا عسكريا فحسب، وإنما -كما حدث في الجبهات الأخرى- تنقلت العشائر العربية إلى هناك، وحمل العرب إلى البلاد نفس أسلوبهم في الحياة، كما انتشرت الثقافة الإسلامية والعربية في المدن التي ستؤسس فيما بعد، مما ساعد على نشر الإسلام والعربية، بل هاجرت إلى الهند نفس الصور الفكرية التي طبعت العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري، كما انتقلت إليها فرق ودعايات الخوارج والشيعة77- د. عبد الله جمال الدين: مرجع سابق، ص”82، 83″..
الهوامش
1- راجع: أطلس التاريخ الإسلامي، للدكتور حسين مؤنس “الخريطة ص118″ دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين، للدكتور بطاينة ص”236” موسوعة التاريخ الإسلامي للدكتور أحمد شلبي “الجزء الثاني: الدولة الأموية ص139”.
2- تفاصيل الأحداث في تاريخ خليفة بن خياط ص”206-213″، ص”318″، تاريخ اليعقوبي “2/ 231-234″، ص”288-290″، فتوح البلدان للبلاذري ص”530، 531، 532، 540-543″، والكامل في التاريخ لابن الأثير “4/ 250، 251”.
3- راجع الكامل في التاريخ، لابن الأثير “4/ 286، 287”.
4- د. عبد الله جمال الدين: التاريخ والحضارة الإسلامية في الباكستان “أو السند والبنجاب” إلى آخر فترة الحكم العربي “ص80، 81″.
5- د. عبد الله جمال الدين: المرجع السابق ص”81”.
6- راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير “4/ 323” “أحداث سنة 100هـ”، وأطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس، ص”131″.
7- د. عبد الله جمال الدين: مرجع سابق، ص”82، 83”.
المصدر
كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ17-21.
اقرأ أيضا
موجز عن الفتوحات الإسلامية في الشرق
المد والجزر في تاريخ الإسلام .. الدافع للتمكين