حينما يفتقد الناس الميزان الحق الذي لا تتأرجح به الأهواء، ولا يغيب عنه شيء فإن الناس يتخبطون ويكونون في أمر مريج؛ لأنهم يرجعون في وزنهم للأشياء إلى أهوائهم وإلى ما كان عليه آباؤهم الظالمون الجاهلون، وحينئذ تأتي هذه الموازين الجاهلية بالعجب في: تناقضها، وظلمها، وقصورها، وجهلها، وتقلبها، واعوجاجها.
أقوال المفسرين في حقيقة الميزان
يحسن قبل ذكر هذه الخصائص أن نلم إلمامة سريعة ببعض أقوال المفسرين عند قوله تعالى: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾، والتي سيتبين لنا فيها أن ﴿الْمِيزَانَ﴾ يراد به العدل في كل شيء، وليس محصورا في وزن الأشياء المحسوسة في كفتي الميزان؛ خاصة إذا تدبرنا هذه الآية في سياقها، ووصلناها بما قبلها وما بعدها من الآيات.
يقول الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7- 9].
يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ أي: العدل؛ كما قال سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، وهكذا قال هاهنا: ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن: 8] أي: خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالعدل. ولهذا قال: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ أي: لا تبخسوا الوزن، بل زنوا بالحق والقسط؛ كما قال سبحانه: ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الإسراء: 35])1(1) تفسير ابن كثير4/270..
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب؛ لما بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك، فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الأمور حتى تعرف التماثل والاختلاف، وتضع من الآلات الحسية ما تحتاج إليه في ذلك؛ كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك. وهذا من وضعه تعالى الميزان؛ قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ ، وقال أكثر المفسرين: هو العدل، وقال بعضهم: هو ما يوزن به ويعرف العدل، وهما متلازمان)2(2) الرد على المنطقيين1/384..
ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – عند هذه الآيات: (وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾: میزان الحق ؛ وضعه ثابتا راسخا مستقرا، وضعه لتقدير القيم: قيم الأشخاص والأحداث والأشياء؛ كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة، ووضعه في المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن؛ ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ فتغالوا وتفرطوا، ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ ومن ثم يستقر الوزن بالقسط بلا طغيان ولا خسران)3(3) في ظلال القرآن 6/3449..
ويقول القاسمي – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية : (﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: الاستقامة في الطريقة، وملازمة حد الفضيلة ونقطة الاعتدال في جميع الأمور وكل القوى)4(4) محاسن التأويل15/282..
ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى -: (﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ أي: العدل بين العباد في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء، والمقادير والمساحات التي يضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل فيها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم)5(5) تفسير السعدي148/5..
هذا هو میزان الله عز وجل الذي يجب أن توزن به الأمور والأشياء، وأن يكون هو الحاكم، والمصدر الذي ينطلق منه المسلم في وزنه وتقويمه ومواقفه كلها؛ لأنه الميزان العادل الشامل، المبرء من الجهل والهوى والنقص والظلم، وأما ما يقوله الناس ويفعلونه ويصطلحون عليه مما يخالف میزان الله عز وجل فلا يجوز بحال أن يلتفت إليه أو يحسب له حساب؛ لأنه يأتي منصبغا بصبغة البشر المتمثلة في النقص والجهل والظلم والهوى؛ ومحدودية الزمان والمكان، والنظرات الجزئية، وفي ذلك يقول سید قطب الله رحمه الله:
(فالإنسان لأنه أولا محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان؛ إذ هو حادث في زمن؛ يبدأ بعد عدم، وينتهي بعد حدوث، ومتحيز في مكان – سواء كان فردا أو كان جيلا أو كان جنا – لا يوجد إلا في مكان، ولا ينطلق وراء المكان . كما أنه لا يوجد إلا في زمان ولا ينطلق وراء الزمان – ولأنه محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك، يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدوث كينونته في الزمان والمكان، وحدود وظيفته كذلك.
ولأنه فوق أنه محدود الكينونة – بهذه الاعتبارات كلها – محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته، فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله .
الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه ، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجيء تفكيره محکوما بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها … يجيء تفكيره جزئیا… يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر، ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر.. فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه ؛ لأن هذه كلها ممتدة في الزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينونة الإنسان ذاته، ومجال إدراكه .. وذلك كله فوق ما يعتور هذا التفكير عن عوامل الضعف والهوى، وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان!)6(6) خصائص التصور الإسلامي ص 154، 155..
وبعد هذه المقدمة الإجمالية لخصائص الميزان الإلهي نأتي لذكر بعض مفردات هذه الخصائص التي تبين عظمة هذه الخصائص وكمالها وعدلها وشمولها. وفي ذكرها بيان لما يضادها من الموازين البشرية القاصرة الجاهلة الظالمة المعوجة .
من خصائص الميزان الإلهي
الخاصية الأولى: الربانية
هذه هي الخاصية الكبرى التي تستلزم جميع الخصائص الأخرى التي تنبثق منها ؛ لأن خاصية الربانية تتضمن صفات الكمال والجمال والجلال والعدل والحكمة والرحمة واللطف، والتي هي صفات للرب العظيم، الإله الحق، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا، والذي كل ما في هذا الكون من خلق وتكوين، ومن أمر وشرع، فإنما هو مقتضى أسمائه – سبحانه – الحسنى وصفاته العليا .
ووصفنا للميزان الحق بأنه رباني يعني أنه يتسم بصفات واضعه سبحانه من الكمال، والعدل، والشمول، والتوازن، والثبات، والبراءة من صفات النقص والعيوب ؛ قال سبحانه: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 138].
الخاصية الثانية: التوحيد
وهذه الخاصية هي صلب الميزان الإلهي، وهي من لوازم ربوبية الله عز وجل؛ حيث إنه الملك الحق، الخالق الرزاق، العليم الحكيم، له الأسماء الحسنی والصفات العلا، ويلزم على هذا أن لا تصرف العبادة إلا له سبحانه لا شريك له .
وإذا صح توحيد العبد لربه سبحانه وانقاد لأمره، وتبرأ من الشرك وأهله، ووالی حزب الله وأولياءه وتعبد لله وحده بأسمائه وصفاته صحت حينئذ موازينه ، وصحت معاييره التي يزن بها الناس والأشياء والقيم ؛ لأنه ينطلق من توحيده سبحانه ويزن كل شيء حسب قربه وبعده من التوحيد، وحسب تقواه لله عز وجل.
أما إذا ضعف التوحيد، وقل وازع الدين فإن الموازين المادية تغلب ويكون لها الاعتبار في وزن الأمور، ولا تسأل عندئذ عن اضطراب الموازين، وتناقضها، وظلمها، وقصورها، وانحرافها .
يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – عن خاصية التوحيد وأثرها في الانضباط والاستقامة والعدل في الموازين: (إن التوحيد ينشئ في العقل والقلب آثارا منفردة، لا ينشئها تصور آخر؛ كما أنه ينشئ في الحياة الإنسانية مثل هذه الآثار كذلك.
إنه ينشئ في القلب والعقل حالة من “الانضباط” لا تتأرجح معها الصور، ولا تهتز معها القيم، ولا يتميع فيها التصور ولا السلوك.
فالذي يتصور الألوهية على هذا النحو، ويدرك حدود العبودية كذلك: يتحدد اتجاهه، كما يتحدد سلوكه، ويعرف على وجه الضبط والدقة من هو؟ وما غاية وجوده؟ ما حدود سلطاته؟ كما يدرك حقيقة كل شيء في هذا الكون، وحقيقة القوة الفاعلة فيه. ومن ثم يتصور الأشياء ويتعامل معها في حدود مضبوطة، لا تميع فيها ولا تأرجح. وانضباط التصور ينشئ انضباطا في طبيعة العقل وموازينه، وانضباطا في طبيعة القلب وقيمه. والتعامل مع سنن الله بعد ذلك والتلقي عنها يزيد هذا الانضباط ويحكمه ويقويه .
ندرك هذا حين نوازن بين المسلم الذي يتعامل مع ربه الواحد الخالق الرزاق القادر القاهر المدبر المتصرف، وبين غيره من أصحاب التصورات التي أشرنا إليها ؛ سواء من يتعامل مع إلهين متضادين: إله للخير وإله للشر! ومن يتعامل مع إله موجود ولكنه حال في العدم ! ومن يتعامل مع إله (المادة) الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يثبت على حال! إلى آخر الركام الذي لا يستقر العقل أو القلب منه على قرار.
وإن هذا التصور لينشئ في القلب والعقل «الاستقامة» ؛ فالإنسان الذي يدرك من حقيقة ربه ، ومن صفاته، ومن علاقاته به ذلك القدر المضبوط لا شك يستقيم في التعامل معه بقلبه وعقله، ولا يضطرب ولا يطيش!
والمسلم يعرف من تصوره لربه، وعلاقته به ما يحب ربه وما يكره منه ، ويستيقن أن لا سبيل له إلى رضاه إلا الإيمان به، ومعرفته بصفاته، والاستقامة على منهجه وطريقته)7(7) خصائص التصور الإسلامي ص326، 327 بتصرف يسير ..
الخاصية الثالثة: الثبات
وهذه الخاصية منبثقة من الخاصية الكبرى: (الربانية)؛ فبما أنه میزان رباني، صادر عن الله عز وجل، العالم بما كان وبما يكون، ويستوي عنده الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه میزان ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان، ولا يضطرب ولا يتناقض. ودور العقل البشري إزاء هذا المیزان هو التلقي والاستجابة والتطبيق في واقع الحياة. وتظل التغيرات في الحياة وأشكال الأوضاع في ظاهر الحياة محكومة بالمقومات والقيم الثابتة لهذا الميزان الثابت، وتكون الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت .
وهذه الخاصية في هذا الميزان هي التي تضمن ثبات المبادئ والقيم والأخلاق مهما تغير الزمان والمكان، وهي التي تبث الطمأنينة في الضمير السليم في المجتمع السليم؛ لأن الطمأنينة إلى ثبات هذا الميزان هي التي تضمن الراحة النفسية للفرد، وتضمن للمجتمع الإسلامي مبادئ وموازين ثابتة يتحاكم إليها هو وحكامه على السواء؛ فلا تناقض في الميزان، ولا معاییر مختلفة تحكمها الأهواء.
وثبات هذا الميزان ينشأ من أن هناك حالتين اثنتين للحياة البشرية، ولا علاقة بالزمان أو المكان في تقدير هاتين الحالتين، بل هما ثابتتان في كل زمان ومكان؛ لأنهما في ميزان الله ثابتتان لا تتغيران. وهاتان الحالتان تتعاوران في الحياة البشرية على مدى الزمان واختلاف المكان : حالة الهدی وحالة الضلال مهما تنوعت ألوان الضلال؛ حالة الحق وحالة الباطل مهما تنوعت ألوان الباطل؛ حالة النور وحالة الظلام مهما تنوعت ألوان الظلام ؛ حالة الكفر وحالة الإيمان مهما تنوعت ألوان الكفر. والانطلاق من هاتين الحالتين الثابتتين وما يتولد عنهما من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة هو الميزان الثابت الذي تحاكم إليه أحوال البشر ومواقفهم وقيمهم وتقديراتهم)8(8) انظر: خصائص التصور الإسلامي ص67..
والحمد لله الذي هدانا لهذا الميزان الثابت الحق العدل، الذي أنزله الله على عباده: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشوری: 17]، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
الخاصية الرابعة: خاصية الشمول والتوازن
ويقال هنا أيضا ما قيل في الخصائص السابقة ؛ فما دام أنه میزان رباني المصدر فلا جرم أن يقال هنا أيضا: إنه میزان شامل لكل نواحي الكينونة البشرية ، ولكل نواحي الحياة، وهو شمول متوازن، عدل لا يطغى فيه جانب على جانب، وسط بين الإفراط والتفريط ؛ ذلك لأنه من الله العليم الرحيم الخبير اللطيف الحكيم القوي العزيز، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا .
يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: (وهو – من ثم – شامل، متوازن، منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولا، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيرا، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري ، وإلى توازن هذه الأطوار جميعا؛ بما أن منزله هو صانع هذا الإنسان: الذي خلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير . فليس أمامه – سبحانه – مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة. ومن ثم فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكل جوانب کینونته، ولكل أطوار حياته .. المتوازن مع كل جوانب کینونته، ومع كل أطوار حياته .. الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.
وهو – من ثم – الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان ، وفي كل زمان، بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله ، وأخلاقه وأعماله.. ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هناك میزان آخر يرجع إليه، وليس هناك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن.. إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59])9(9) خصائص التصور الإسلامي ص 68، 69..
الخاصية الخامسة: اعتبار الإيمان باليوم الآخر
إن الانطلاق من الإيمان باليوم الآخر ليعد من أبرز سمات الميزان الإلهي؛ وذلك لما لعقيدة اليوم الآخر من أثر في وزن الناس والقيم والأغراض والربح والخسارة والتكريم والإهانة، وغير ذلك .
وإذا أردنا الوقوف على آثار الإيمان باليوم الآخر في تصحيح الموازين وانضباطها ودقتها وعدلها فلننظر إلى شخصين: أحدهما: قد استقر اليقين باليوم الآخر في قلبه، وظهر ذلك في أقواله وأعماله وأحواله، وآخر : لا يؤمن باليوم الآخر من الكفرة والمشركين، أو كان غافلا عن ذلك كحال أكثر المسلمين اليوم. ثم نقارن بينهما في وزنهما للأمور، وحكمهما على الأشياء، ومواقفهما وأحوالهما ؛ إننا سنجد عند المقارنة البون الشاسع، والتباين الكبير في موازينهما ومواقفهما وانضباطهما واستقامتهما .
يقول سید قطب – رحمه الله تعالى -: (والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل، وتؤرجح في أكفهم میزان القيم؛ فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا، ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا ؛ لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض، فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون، ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود، والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة، ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة!
ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون؛ فلكل منهما میزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا، وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونوامیس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة ، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء)10(10) في ظلال القرآن5/2759..
وقد ضرب الله عز وجل لنا في القرآن أمثلة وقصصا ظهر لنا فيها أثر الإيمان باليوم الآخر من عدمه في وزن الأمور، ومن هذه الأمثلة:
أولا: قصة قارون مع قومه
قال الله تعالى : ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 79-80].
يذكر الله سبحانه في هذه القصة صنفين من قوم قارون : الصنف الأول الذي يمثله قارون في عتوه واستکباره، ورکونه إلى الدنيا ، وغفلته عن الآخرة ، فكان ميزانه میزان الدنيا الهابط السافل: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: 78]، فلم ينسب النعمة والعطاء إلى الله، بل جحد ذلك، وخرج على قومه فرحا بطرا. وهذا هو شأن أهل الدنيا وموازينهم.
ويتبع قارون في هذه المواقف الهابطة أولئك الذين انخدعوا بزينته ، وتمنوا مكانه، فقالوا: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ حيث جعلوا میزان الحظ والنصيب هذه الدنيا الفانية .
أما الصنف الثاني: فيمثل أهل الآخرة الذين صحت موازينهم، وربطوها بنظرتهم لهذه الدنيا وفنائها، وبالآخرة ودوامها، وأنها أكبر درجات وأكبر تفضيلا، فقالوا لقارون مقولتهم الكريمة: ﴿لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ الآيات [القصص: 76-77].
كما ظهر هذا الميزان النظيف في نصيحة أهل العلم من قوم قارون لمن اغتر بزينة قارون، فقالوا لهم: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 80].
المثال الثاني : قصة موسى صلى الله عليه وسلم مع سحرة فرعون
وقد قص الله سبحانه هذه القصة في أكثر من سورة من القرآن ؛ قصها في سور: الأعراف، یونس، طه، الشعراء، وغيرها .
وقد ظهر لنا في هذه القصة العظيمة أثر الإيمان باليوم الآخر في النظرة إلى الحياة الدنيا ووزنها وقيمتها وأعراضها، فكان من سحرة فرعون موقفان متضادان تماما:
الموقف الأول: قبل إيمانهم بالله والدار الآخرة؛ فكانت موازينهم واهتماماتهم موازين الدنيا وزخرفها، وفكرهم فيها وحدها ؛ قال تعالى عن حالتهم هذه: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: 41-42]، فهمهم قبل الإيمان المنصب والأجر، هذا كل اهتماماتهم.
الموقف الثاني بعد وضوح الحق وإيمانهم بالله سبحانه والدار الآخرة ؛ حيث كان لهم شأن آخر و میزان آخر، ألا وهو میزان الآخرة، والطمع في مغفرة الله والثواب الجزيل في جنات النعيم ؛ قال تعالى عن موقفهم من فرعون عندما هددهم بالقتل والصلب بعد سجودهم لله تعالى: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ [طه: 73-72] فكانوا في الصباح سحرة فجرة وفي المساء أتقياء بررة. وما ذاك إلا من تحولهم عن الكفر بالله واليوم الآخر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
الهوامش
(1) تفسير ابن كثير4/270.
(2) الرد على المنطقيين1/384.
(3) في ظلال القرآن 6/3449.
(4) محاسن التأويل15/282.
(5) تفسير السعدي148/5.
(6) خصائص التصور الإسلامي ص 154، 155.
(7) خصائص التصور الإسلامي ص326، 327 بتصرف يسير .
(8) انظر: خصائص التصور الإسلامي ص67.
(9) خصائص التصور الإسلامي ص 68، 69.
(10) في ظلال القرآن5/2759.
اقرأ أيضا
الميزان الحق في الأقوال والأعمال والأخلاق
قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (1-2) مظاهر التخلف