مقدمة
إن من تأمل كتاب الله عز وجل، وتدبر آياته البينات، وجد موضوعها الأساس هو توحيد الله عز وجل، والأمر بعبادته وحده، وذكر ما أعده للموحدين من النعيم المقيم، وما أعده للمشركين من النكال والعذاب الأليم، وضمنه ما شرعه لعباده من الشرع الحكيم، الذي يحققون به عبادة الله عز وجل، واستسلامهم له، وإسلامهم لحكمه. وهذا هو حقيقة دين الإسلام، إسلام الوجه لله بعبادته وحده، والتسليم لأمره وحكمه، حيث إن العبودية الصادقة لا تتحقق إلا بالإسلام والتسليم والانقياد لله رب العالمين.
الآيات في ذكر الإسلام والتسليم والمسلمين كثيرة جدا، والتي يبين فيها الله سبحانه وتعالى حقيقة دين الإسلام، وأنه الاستسلام والتسليم لله عز وجل ، والانقياد له سبحانه بإخلاص العبادة له ، وتوحيده، والتسليم لحكمه وأمره. ويحسن الوقوف عند ثلاث آیات کریمات من هذه الآيات، يتجلى فيها حقيقة التسليم لله عز وجل ، وإخلاص التوحيد والانقياد له سبحانه وتعالى، وذلك من خلال أقوال بعض المفسرين في شرحهم لها.
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: ۱۳۰ – ۱۳۱].
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ۸۸ – ۸۹]
الآية الثالثة: قوله سبحانه في وصف خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ۸۳ – ۸۶].
حقيقة التسليم وملة إبراهيم عليه السلام
شرح الآية الأولى:
يقول الإمام ابن کثیر:
(يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيها ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ۷۸- ۷۹]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزخرف: ۲6 – ۲۷]، ولهذا وأمثاله قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: عن طريقته ومنهجه،. فيخالفها ويرغب عنها ﴿إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ ، أي: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بترکه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفى في الدنيا للهداية والرشاد، من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء – فترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ۱۳].
وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:۱۳۱] أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا1(1) تفسير ابن كثير1/ 541 -546، ط. طيبة (باختصار يسير)...
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله عند هذه الآيات:
الاستسلام ذروة سنام الدين وقطب رحاه
(فقسم سبحانه الخلائق قسمين: سفيها لا أسفه منه، ورشیدا. فالسفيه من رغب عن ملته إلى الشرك، والرشيد من تبرأ من الشرك قولا وعملا وحالا، فكان قوله توحيدا وعمله توحيدا وحاله توحيدا ودعوته إلى التوحيد، وبهذا أمر الله سبحانه جميع المرسلين من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 51 – ۵۲]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ۲5. |
… وهذا في القرآن كثير، بل هو أكثر من أن يذكر، وهو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وذروة سنامه وقطب رحاه، وأمرنا تعالى أن نتأسى بإمام هذا التوحيد في نفيه وإثباته، كما قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
… وإذا تدبرت القرآن من أوله إلى آخره رأيته يدور على هذا التوحيد وتقريره وحقوقه.
قال شيخنا: والخليلان هم أكمل خاصة الخاصة توحيدا، ولا يجوز أن يكون في الأمة من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء، فضلا عن الرسل، فضلا عن أولي العزم، فضلا عن الخليلين، وكمال هذا التوحيد أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا، بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء، يحب من أحب وما أحب، ويبغض من أبغض وما أبغض، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه..)2(2) مدارج السالكين 3/428 (باختصار)..
ويقول سید قطب من الله تعالى :
هذه هي ملة إبراهيم … الإسم الخالص الصريح.. لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه، سفيه عليها، ومستهتر بها.. إبراهيم الذي اصطفاه ربه في الدنيا إماما، وشهد له في الآخرة بالصلاح.. اصطفاه ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾.. فلم يتلكأ، ولم يرتب، ولم ينحرف، واستجاب فور تلقي الأمر.
﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾..
هذه هي ملة إبراهيم.. الإسلام الخالص الصريح.. ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه، وجعلها وصيته في ذريته، ووصى بها إبراهيم بنیه، کما وصى بها يعقوب بنيه. ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه، ثم لا يلبون وصيته، ووصية جده وجدهم إبراهيم ! )3(3) في ظلال القرآن 1/115-116..
ما هو القلب السليم؟
الآيتان الثانية والثالثة:
- قوله تعالى في دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:87-89.[
- وقوله سبحانه في الثناء على خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ۸۳ – 84].
وكلتا الآيتين ورد فيها ذكر القلب السليم. فما حقيقة القلب السليم عند أهل المعاني والتفسير؟
يقول الشيخ السعدي في تفسيره:
والقلب السليم معناه: الذي سلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنوب. ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله، وهواه تابعا لما جاء عن الله)4(4) تفسير السعدي ص593..
ومن أحسن ما وقفت عليه في تعريف القلب السليم تعريفا جامعا شاملا ما ذكره الإمام ابن القيم في أكثر من موطن في كتبه، ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى:
(وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم.
والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحکیم غیر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فسلم في محبته مع تحكيمه لرسوله صلى الله عليه وسلم في خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده .
فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شركة بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة، ومحبة، وتوکلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء. وخلص عمله وأمره كله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحاكم لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال: من أقوال القلب، وهي العقائد. وأقوال اللسان، وهي الخبر عما في القلب. وأعمال القلب، وهي الإرادة والمحبة والكراهية وتوابعها. وأعمال الجوارح، فيكون الحكم عليه في ذلك كله دقه وجله: لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1]، أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر)5(5) التفسير القيم 2/70-72..
ومن تعريفاته الجامعة للتسليم والقلب السليم قوله رحمه الله تعالی :
(اعلم أن التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر أو شهوة تعارض الأمر أو إرادة تعارض الإخلاص أو اعتراض يعارض القدر والشرع. وصاحب هذا التخلص هو صاحب القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به)6(6) مدارج السالكين 2/147-148..
الهوامش
(1) تفسير ابن كثير1/ 541 -546، ط. طيبة (باختصار يسير).
(2) مدارج السالكين 3/ 428 (باختصار).
(3) في ظلال القرآن1/ 115-116.
(4) تفسير السعدي ص593.
(5) التفسير القيم 2/ 70-72.
(6) مدارج السالكين 2/ 147-148.
اقرأ أيضا
أصل الإسلام والتسليم .. لماذا الحديث عنه؟
إبراهيم وإسماعيل إذ يجسدان معنى التسليم