هذا الكونُ مليءٌ بالشواهدِ التي تدلُّ على عظمةِ الخالقِ سبحانه وتعالى ـ، وكل شاهدٍ من هذه الشواهدِ يوصِلُ إلى الذي يليه حتى يصلَ الأمرُ إلى الشاهدِ الأكبرِ، وهو شهودُ جلالِ الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ وعظمتِهِ…
حقيقةَ تعظيمِ اللهِ تعالى
ذكرَ الهرويُّ رحمهُ الله في (منازلِ السائرينَ) حقيقةَ تعظيمِ اللهِ تعالى فقال: «تعظيمُ الحقِّ سبحانه هو ألا يجعلَ دونَه سببًا، ولا يَرَى عليه حقًّا، أو ينازَع له اختيارًا».
وهذا من دُرَر كلامِه رحمه الله، وقد شَرَحه الإمامُ ابنُ القيمِ فقال: «هذه الدرجةُ تتضمنُ تعظيمَ الحاكمِ سبحانه صاحبَ الخلقِ والأمرِ … وذكر من تعظيمِه ثلاثةَ أشياءَ:
إحداها: أن لا تجعلَ دونَه سببًا، أي لا تجعَلْ للوصْلةِ إليه سببًا غيرَه، بل هو الذي يوصِلُ عبدَه إليه، فلا يوصِلُ إلى اللهِ إلا اللهُ، ولا يقرِّبُ إليه سِوَاه، ولا يُدِني إليه غيرُه، ولا يُتَوصلُ إلى رضاهُ إلا به، فما دلَّ على اللهِ إلا اللهُ، ولا هَدَى إليه سِواه، ولا أَدْنَى إليه غيرُه، فإنه سبحانَه هو الذي جعلَ السببَ سببًا، فالسببُ وسببيتُه وإيصالُه كلُّه خلقُه وفعلُه.
الثاني: أن لا يَرى عليه حقًّا، أي لا تَرى لأحدٍ من الخلقِ لا لك ولا لغيرِك حقًّا على اللهِ، بل الحقُّ للهِ على خلقِه وفي أثرٍ إسرائيلي: أن داودَ عليه السلامُ قال: يا ربّ بحقِّ آبائي عليك. فأوْحَى اللهُ إليه: يا داودُ! أيُّ حقٍّ لآبائِك عليَّ؟ ألستُ أنا الذي هديتُهم ومننْتُ عليهم واصطفيتُهم وليَ الحقُّ عليهم.
وأما حقوقُ العبيدِ على اللهِ تعالى؛ من إثابةٍ لمطيعِهم، وتوبتِه على تائِبِهم، وإجابَتِه لسائِلِهم، فتلك حقوقٌ أحقَّها اللهُ سبحانه على نفسِه بحكمِ وعدِهِ وإحسانِه، لا أنَّها حقوقٌ أحقُّوها هم عليه، فالحقُّ في الحقيقةِ للهِ على عبدِه.
وحقُّ العبدِ عليه هو ما اقتَضَاه جودُه وبرُّه وإحسانُه إليه بمحضِ جودِه وكرمِه، هذا قولُ أهلِ التوفيقِ والبصائرِ.
الثالث: وأما قولُه: ولا ينازِعُ لهُ اختيارًا، أي إذا رأيتَ اللهَ عز وجل قد اختارَ لك، أو لغيرِك شيئًا؛ إما بأمرِه ودينِه، وإما بقضائِهِ وقدرِه، فلا تنازع اختيارَه، بل ارضَ باختيارِ ما اختارَه لك فإن ذلك من تعظيمِه سبحانه. ولا يَرِدُ عليه قَدَرُه عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قَدَّرَها لكنه لم يختَرْها له، فمنازَعتُها غيرُ اختيارِه من عبدِه، وذلك من تمامِ تعظيمِ العبدِ له سبحانه»1(1) مدارج السالكين (2/ 501)..
المؤمنُ المعظِّمُ لربِّه يرضى بما قدَّرَهُ الله عليه، ويصبِرُ على البلاءِ
والمؤمنُ ـ من تعظيمِ ربّه تبارك وتعالى ـ يرى الخيرَ في كلِّ ما يأتي به اللهُ ـ، ويعلَم أنَّ الله تعالى يريدُ به الخيرَ واليسرَ والفلاحَ الذي قد يأتي في ثَوبِ البلاءِ والشدةِ والضيقِ، ولذلك قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْه سراءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له»2(2) أخرجه مسلم (5318)..
إن غيرَ المؤمنِ لا يصيبُه من هذا الخيرِ شيءٌ لأنه لا يعظمُ اللهَ تعالى ولا يرضَى بقضائِه، ويرى لنفسِه الحقَّ على اللهِ تعالى، كما قالَ صاحبُ الجنتينِ: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) [الكهف:36].
أما المؤمنُ المعظِّمُ لربِّه ـ تبارك وتعالى ـ فإنَّه يرضى بما قدَّرَهُ الله عليه، ويصبِرُ على البلاءِ، ويسألُ ربَّه أن يرفَعَ عنه هذا البلاءَ وأن يثبِّتَه على الحقِّ، كما أنه يعودُ باللائمةِ في نزولِ هذا البلاءِ على نفسِه، ويعلمُ أنه مستحقٌّ له وأن اللهَ عز وجل لم يظلمْهُ وإنما ابتلاهُ بذنوبِه تنبيهًا وإيقاظًا حتى يتدارَكَ أمرَهُ، ويصلحَ شأنَهُ، كلُّ ذلك لأنه لا يرى لنفسِه حقًّا على الله تعالى كما قال الناظمُ وأحسن:
ما للعبادِ عليه حقٌّ واجبُ … كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عُذِّبُوا فبعدلِه أو نُعِّموا … فبفَضْلِهِ وهو الكريمُ الواسعُ
من شواهد العظمة
هذا الكونُ مليءٌ بالشواهدِ التي تدلُّ على عظمةِ الخالقِ سبحانه وتعالى ـ، وكل شاهدٍ من هذه الشواهدِ يوصِلُ إلى الذي يليه حتى يصلَ الأمرُ إلى الشاهدِ الأكبرِ، وهو شهودُ جلالِ الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ وعظمتِهِ، وقديمًا قال الأعرابيُّ: «البعرةُ تدلُّ على البعيرِ، ومسيرُ الأقدامِ يدلُّ على المسيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ، وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ، أفلا يدلُّ ذلك على اللطيفِ الخبيرِ».
ولنتأملْ معًا رحلةَ الشواهدِ التي يحكيها لنا الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه اللهُ وهي رحلةُ التأملِ والتفكرِ والنظرِ بعينِ البصيرةِ والمعاينةِ لكلِّ ما حولَنا في هذه الدنيا، ولكلِّ ما سيكونُ في الآخرةِ من مشاهدَ وأهوالٍ وصولًا إلى دارِ المتقينَ الجنةِ، ودارِ الكافرينَ النارِ، ثمَّ مشاهدُ عذابِ أهلِ النارِ وأعظمُهُ حجبُهم عن اللهِ تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين:15]، ونعيمِ أهلِ الجنةِ وأعظمُه رؤيةُ الربِّ العظيمِ في يومِ المزيدِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:22 – 23]، ثم الانتقالُ بعد ذلك إلى مشاهدِ صفاتِ هذا الإلهِ العظيمِ والربِّ الكريمِ، فيكونُ هذا أعظمَ المشاهدِ في قلبِ المؤمنِ. قال الإمامُ ابن القيم 3(3) مدارج السالكين (3/ 250).:
1 – شاهد الدنيا
فأولُ شواهدِ السائرِ إلى اللهِ والدارِ الآخرةِ: أن يقومَ به شاهدٌ من الدنيا وحقارتِها، وقلةِ وفائِها، وكثرةِ جفائِها، وخسةِ شركائِها، وسرعةِ انقضائِها.
ويرى أهلَها وعشاقَها صَرعَى حولَها، قد بَدَّعَتْ بهم4(4) بدّعت بهم: خذلتهم.، وعذبَتْهم بأنواعِ العذابِ، وأذاقتْهم أمرَّ الشرابِ. أضحكَتْهم قليلًا، وأبكَتْهم طويلًا. سَقَتْهم كؤوسَ سُمِّها، بعد كؤوسِ خمرِها. فسكروا بحبِّها. وماتوا بهجرِها.
2 – شاهد الآخرة
فإذا قام بالعبدِ هذا الشاهدُ منها: ترحَّل قلبُه عنها، وسافر في طلبِ الدارِ الآخرةِ وحينئذٍ يقومُ بقلبِه شاهدٌ من الآخرةِ ودوامِها، وأنها هي الحيوانُ حقًا. فأهلُها لا يرتحلون منها، ولا يظْعَنون عنها، بل هي دارُ القرارِ، ومحطُّ الرحالِ، ومنتهى السيرِ، وأن الدنيا بالنسبةِ إليها ـ كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «ما الدُّنيا في الآخرةِ إلا كما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظُرْ بم ترجِعُ؟»5(5) مسلم (2858)، الترمذي (2323)، ابن ماجه (4108).، وقال بعضُ التابعينَ: ما الدنيا في الآخرةِ إلا أقلُّ من ذرةٍ واحدةٍ في جبالِ الدنيا.
3 – شاهد النار
ثم يقومُ بقلبِه شاهدٌ من النارِ، وتَوَقُّدِها واضطرامِها، وبُعْدِ قعرِها، وشدةِ حَرِّها، وعظيمِ عذابِ أهلِها. فيشاهدُهم وقد سِيقوا إليها سُودَ الوجوهِ، زُرقَ العيونِ، والسلاسلُ والأغلالُ في أعناقِهم. فلما انتهوا إليها: فُتِّحتْ في وجوهِهم أبوابُها. فشاهدوا ذلك المنظرَ الفظيعَ، وقد تقَطَّعتْ قلوبُهم حسرةً وأسفًا (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا) [الكهف:53]، فأراهم شاهدُ الإيمانِ، وهم إليها يُدفعونَ. وأتى النداءُ من قِبَلِ ربِّ العالمينَ (وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات:24]، ثم قيلَ لهم (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور:14 – 16]، فيراهم شاهدُ الإيمان. وهم في الحميمِ، على وجوهِهم يُسحبونَ. وفي النارِ كالحطبِ يُسجَرون (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف:41]، فبئسَ اللحافُ وبئسَ الفراشُ.
وإن استغاثوا من شدةِ العطشِ (يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف:29]، فإذا شربوه قطَّع أمعاءَهم في أجوافِهم، وصَهَرَ ما في بطونِهم.
شرابُهم الحميمُ، وطعامُهم الزَّقُّومُ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:36 – 37].
فإذا قام بقلبِ العبدِ هذا الشاهدُ: انخلعَ من الذنوبِ والمعاصي، واتباعِ الشهواتِ. لبسَ ثيابَ الخوفِ والحذرِ، وأخصبَ قلبَهُ من مطرِ أجفانِهِ، وهانَ عليه كلُّ مصيبةٍ تصيبُهُ في غيرِ دينِهِ وقلبِهِ.
وعلى حَسَبِ قوةِ هذا الشاهدِ يكونُ بعدُه من المعاصي والمخالفاتِ. فيذيبُ هذا الشاهدُ من قلبِه الفضلاتِ، والموادَّ المهلكةَ، وينضجُها ثم يخرجُها. فيجدُ القلبُ لذةَ العافيةِ وسُرورَها.
4 – شاهد الجنة
فيقومُ به بعد ذلك: شاهدٌ من الجنةِ، وما أعدَّ اللهُ لأهلِها فيها، مما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، فضلًا عمَّا وصَفَه اللهُ لعبادِهِ على لسانِ رسولِه من النعيمِ المفصَّلِ، الكفيلِ بأعلى أنواعِ اللذَّةِ، منَ المطاعمِ والمشاربِ، والملابسِ والصورِ، والبهجةِ والسرورِ. فيقومُ بقلبِهِ شاهدُ دارٍ قد جعلَ اللهُ النعيمَ المقيمَ الدائمَ بحذافِيرِه فيها.
تربتُها المسكُ، وحصباؤُها الدُّرُّ، وبناؤُها لَبِنُ الذَّهبِ والفضةِ، وقَصَبُ اللؤلؤِ، وشرابُها أحلى من العسلِ، وأطيبُ رائحةً من المسكِ، وأبردُ من الكافورِ، وألذُّ من الزنجبيلِ، ونساؤُها لو بَرَزَ وجهُ إحداهُنَّ في هذه الدنيا لغلبَ على ضوءِ الشمسِ، ولباسُهم الحريرُ من السندسِ والإستبرقِ، وخدمُهم ولدانٌ كاللؤلؤِ المنثورِ، وفاكهتُهم دائمةٌ، لا مقطوعةٌ لا ممنوعةٌ، وفُرشٌ مرفوعةٌ. وغذاؤُهم لحمُ طيرٍ مما يَشْتهونَ، وشرابُهم عليه خمرةٌ لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزفونَ وخُضْرَتُهُم فاكهةٌ مما يتخيرون، وشاهِدُهم حورٌ عينٌ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنونِ، فهم على الأرائكِ مُتكؤونَ، وفي تلك الرياضِ يُحبرونَ، وفيها ما تشتهي الأنفسُ وتلذُّ الأعينُ، وهم فيها خالدونَ.
5 – شاهد يوم المزيد
فإذا انضم إلى هذا الشاهدِ: شاهدُ يومِ المزيدِ، والنظرُ إلى وجهِ الربِّ جلَّ جلالُه، وسماعُ كلامِهِ منه بلا واسطةٍ. كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «بينما أهلُ الجنةِ في نعيمِهم، إذ سطَعَ لهم نورٌ. فرفَعُوا رؤُوسَهم. فإذا الربُّ تعالى قد أشرَفَ عليهم من فوقِهم. وقال: يا أهلَ الجنةِ، سلامٌ عليكم ـ ثم قرأ قولَه تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58]ـ ثم يَتَوارى عنهم. وتبقَى رحمتُه وبركتُه عليهم في ديارِهم»6(6) ابن ماجه (184)، باب (13) فيما أنكرت الجهمية..
فإذا انضمَّ هذا الشاهدُ إلى الشواهدِ التي قبلَه: فهناك يسيرُ القلبُ إلى ربِّه أسرعَ من سيرِ الرياحِ في مهابِّها، فلا يلتفتُ في طريقِه يمينًا ولا شمالًا.
6 – شاهدُ جلالِ الربِّ وعظمتِهِ
هذا، وفوقَ ذلك: شاهدٌ آخرَ تضمحِلُّ فيه هذه الشواهدُ، ويغيبُ به العبدُ عنها كلِّها. وهو شاهدُ جلالِ الربِّ تعالى، وجمالِه وكمالِه، وعزِّه وسلطانِه، وقيوميتِه وعلوِّه فوقَ عرشِه، وتكلُّمِه بكتبِه وكلماتِ تكوينِه، وخطابِه لملائكتِه وأنبيائِه.
فإذا شاهدَه شاهدَ بقلبِه قيومًا قاهرًا فوقَ عبادِه، مستويًا على عرشِه، منفردًا بتدبيرِ مملكتِه، آمرًا ناهيًا، مرسِلًا رسلَه، ومُنْزِلًا كتبَه. يرضَى ويغضَبُ، ويثيبُ ويعاقبُ. ويعطِي ويمنعُ، ويعزُّ ويذلُّ. ويحبُّ ويغضبُ. ويرحمُ إذا استُرحِمَ، ويغفرُ إذا استُغفِرَ، ويعطِي إذا سُئِلَ، ويجيبُ إذا دُعِيَ، ويقيلُ إذا استُقيلَ.
أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأعزُّ من كلِّ شيءٍ، وأقدرُ من كلِّ شيءٍ، وأعلمُ من كلِّ شيءٍ، وأحكمُ من كلِّ شيءٍ.
فلو كانت قُوى الخلائقِ كلِّهم على واحدٍ منهم، ثم كانوا كلُّهم على تلك القوةِ، ثم نُسبت تلك القوى إلى قوةِ اللهِ تعالى لكانتْ دونَ قوةِ البعوضةِ بالنسبةِ إلى قوةِ الأسدِ.
ولو قُدِّرَ جمالُ الربِّ تعالى لكان دونَ سراجٍ ضعيفٍ بالنسبةِ إلى عينِ الشمسِ.
ولو كانَ علمُ الأولينَ، والآخرينَ على رجلٍ منهم، ثم كان كلُّ الخلقِ على تلكَ الصفةِ، ثم نُسبَ إلى علمِ الربِّ تعالى لكانَ ذلك بالنسبةِ إلى علمِ الربِّ كنقرةِ عُصفورٍ في بحرٍ.
وهكذا سائرُ صفاتِهِ، كسمعِه وبصرِه، وسائرِ نعوتِ كمالِه. فإنَّه يسمعُ ضجيجَ الأصواتِ باختلافِ اللغاتِ، على تفننِ الحاجاتِ. فلا يشغَلُه سمعٌ عن سمعٍ. ولا تُغلطُه المسائلُ. ولا يتبرمُ بإلحاحِ الملِحِّينَ.
سواءٌ عندَه من أسرَّ القولَ ومن جهرَ به. فالسِّر عنده علانيةٌ. والغيبُ عنده شهادةٌ.
يرى دبيبَ النملةِ السوداءِ، على الصخرةِ الصماءِ، في الليلةِ الظلماءِ. ويرى نياطَ عروقِها، ومجاري القوتِ في أعضائِها.
يضعُ السماواتِ على إصبعٍ من أصابعِ يدِه، والأرضَ على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والشجرَ على إصبعٍ، والماءَ على إصبعٍ. ويقبضُ سماواتِه بإحْدَى يديه، والأرضينَ باليدِ الأخرى. فالسماواتُ السبعُ في كفِّه كخردلةٍ في كفِّ العبدِ.
ولو أنَّ الخلقَ كلَّهم من أولِهم إلى آخرِهم قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطُوا باللهِ عز وجل. لو كشفَ الحجابَ عن وجهِه لأحرقَتْ سُبحاتُه ما انتهى إليه بصرُه من خلقِه.
فإذا قامَ بقلبِ العبدِ هذا الشاهدُ: اضْمَحَلَّتْ فيهِ الشواهدُ المتقدمةُ، من غيرِ أنْ تعدَمَ. بل تصيرُ الغلبةُ والقهرُ لهذا الشاهدِ، وتندرجُ فيه الشواهدُ كلُّها. ومَنْ هذا شاهِدُه: فله سلوكٌ وسيرٌ خاصٌّ، ليسَ لغيرِه ممن هو عن هذا في غفلةٍ، أو معرفةٍ مجملةٍ.
فصاحبُ هذا الشاهدِ: سائرٌ إلى اللهِ في يقظتِهِ ومنامِهِ، وحركتِهِ وسكونِهِ وفطرِهِ وصيامِهِ، لهُ شأنٌ وللناسِ شأنٌ. هو في وادٍ والنَّاسُ في وادٍ.
7 – شاهدُ التوحيدِ
فإذا طلعتُ شمسُ التوحيدِ، وباشَرَتْ جوانُبَها الأرواح، ونورُها البصائِرَ، تجلَّتْ بها ظلماتُ النفسِ والطبعِ، وتحركتْ بها الأرواحُ في طلبِ من ليس كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ، فسافرَ القلبُ في بيداءِ الأمرِ، ونَزَلَ منازلَ العبوديةِ، منزلًا منزلًا، فهو ينتقلُ من عِبادةٍ إلى عبادةٍ، مُقيم على معبود واحد.
فلا تزالُ شواهدُ الصفاتِ قائمةً بقلبِهِ، توقظُه إذا رقدَ، وتذكِّرُهُ إذا غفلَ، وتحدُو به إذا سارَ، وتقيمُهُ إذا قعدَ.
إن قام بقلبِه شاهدٌ من الربوبيةِ والقيوميةِ رأى أنَّ الأمرَ كلَّهُ للهِ. ليس لأحدٍ معه من الأمرِ شيءٌ (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:2 – 3]. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس:107]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر:38]، (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون:84 – 89].
إن قامَ بقلبِه شاهدٌ من الإلهيةِ: رأى في ذلك الشاهدِ الأمرَ والنهيَ، والنبواتِ، والكتبَ والشرائعَ، والمحبةَ والرضى، والكراهةَ والبغضَ، والثوابَ والعقابَ، وشاهدَ الأمرَ نازلًا ممن هو مستوٍ على عرشِهِ، وأعمالُ العبادِ صاعدةٌ إليهِ، ومعروضة عليه. يجزي بالإحسانِ منها في هذه الدارِ وفي العقبى نضرةً وسرورًا، ويقدمُ إلى ما لم يكنْ عن أمرِهِ وشرعِهِ منها فيجعلُهُ هباءً منثورًا.
وإن قامَ بقلبِه شاهدٌ من الرحمةِ: رأى الوجودَ كلَّه قائمًا بهذهِ الصفةِ، قدْ وَسِعَ من هي صفتُه كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وانتهتْ رحمتُهُ إلى حيثُ انتهى علمُه، فاستوى على عرشِه برحمتِهِ، لتسعَ كلَّ شيءٍ، كما وَسِعَ عرشُهُ كلَّ شيءٍ.
وإنْ قامَ بقلبه شاهدُ العِزَّة والكبرياءِ، والعظمةِ والجبروتِ: فله شأنٌ آخر.
وهكذا جميعُ شواهدِ الصفاتِ، فما ذكرنا إنما هو أدنى تنبيهٍ عليها. فالكشفُ والعيانُ والمشاهدةُ لا تتجاوزُ الشواهدَ البتةَ.
الهوامش
(1) مدارج السالكين (2/ 501).
(2) أخرجه مسلم (5318).
(3) مدارج السالكين (3/ 250).
(4) بدّعت بهم: خذلتهم.
(5) مسلم (2858)، الترمذي (2323)، ابن ماجه (4108).
(6) ابن ماجه (184)، باب (13) فيما أنكرت الجهمية.
المصدر
كتاب: تعظيم الله جل جلاله «تأملات وقصائد»، أحمد بن عثمان المزيد ص23-36.