إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض؛ ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب؛ ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه..
كيفية معالجة القرآن للأحداث والوقائع
لا يعرض الحوادث عرضًا تاريخيًا مسلسلًا بقصد التسجيل؛ إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث؛ ورسم سمات النفوس وخلجات القلوب وتصوير الجو الذي صاحبها؛ والسنن الكونية التي تحكمها؛ والمبادئ الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محورًا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها؛ ثم يستطرد حولها؛ ثم يعود إليها؛ ثم يجول في أعماق الضمائر وفي أغوار الحياة؛ ويكرر هذا مرة بعد مرة حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر فجلاها. ونقاها وأراحها في مواضعها فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقًا ولا تحس فيها لبسًا ولا دخلًا..
وينظر الإنسان في رقعة المعركة وما وقع فيها- على سعته وتنوعه- ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني وما تناوله من جوانب؛ فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك وأبقى على الزمن وألصق بالقلوب وأعمق في النفوس وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية وحاجات الجماعة الإسلامية في كل موقف تتعرض له في هذا المجال على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان..
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان في أي زمان وفي أي مكان.. وسنعرض لها متجمعة- إن شاء الله- بعد استعراضها متفرقة في النصوص..
الدرس الأول التوكل على الله..
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:121-122].
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره- وقد كان قريبًا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو واستحضار المشهد الأول بهذا النص من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور- الذي يعرفونه- من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله سبحانه معهم وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم. وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي. وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي. والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي بكل تكاليفه إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها وبكل حيويتها كذلك: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
اللمسة الأولى: والله سميع عليم
والإشارة هنا إلى غدو النبي صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة- رضي الله عنها وقد لبس لأمته ودرعه؛ بعد التشاور في الأمر وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها.. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول صلى الله عليه وسلم للصفوف ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل.. وهو مشهد يعرفونه وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ويا له من مشهد الله حاضره! ويا له من موقف الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به وتخالط كل ما دار فيه من تشاور. والسرائر مكشوفة فيه لله. وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر.
اللمسة الثانية: والله وليهما
واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين؛ بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول حين انفصل بثلث الجيش مغضبًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ) فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة؛ وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه ويطغى في ذلك القلب على العقيدة.. العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ولا تطيق لها فيه شريكًا! فإما أن يخلص لها وحدها وإما أن تجانبه هي وتجتويه!
الضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين
(إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
وهاتان الطائفتان- كما ورد في الصحيح- من حديث سفيان بن عيينة- هما بنو حارثة وبنو سلمة. أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم من أول خطوة في المعركة. فكادتا تفشلان وتضعفان. لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته كما أخبر هذا النص القرآني: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا).
قال عمر رضي الله عنه سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: (إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا).. قال: نحن الطائفتان.. بنو حارثة وبنو سلمة.. وما نحب (أو وما يسرني) أنها لم تنزل، لقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)1(1) رواه البخاري ومسلم..
وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر؛ والذي لم يعلمه إلا أهله، حين حاك في صدورهم لحظة؛ ثم وقاهم الله إياه وصرفه عنهم وأيدهم بولايته فمضوا في الصف.. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم.. لتصوير خلجات النفوس وإشعار أهلها حضور الله معهم وعلمه بمكنونات ضمائرهم- كما قال لهم: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)- لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم. ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة؛ وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف ويدب فيهم الفشل ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئًا من هذا وأين يلتجئون. ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
على وجه القصر والحصر.. على الله وحده فليتوكل المؤمنون. فليس لهم- إن كانوا مؤمنين- إلا هذا السند المتين.
رواية القرآن للحادثة تستهدف الإحياء والاستجاشة والتربية والتوجيه
وهكذا نجد في الآيتين الأوليين، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي وفي التربية الإسلامية: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
نجدهما في أوانهما المناسب وفي جوهما المناسب؛ حيث يلقيان كل إيقاعاتهما وكل إيحاءاتهما في الموعد المناسب؛ وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع.. ويتبين- من هذين النصين التمهيديين- كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها؛ بالتعقيب على الأحداث وهي ساخنة! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر؛ ولكنها لا تستهدف القلب البشري والحياة البشرية بالإحياء والاستجاشة وبالتربية والتوجيه. كما يستهدفها القرآن الكريم بمنهجه القويم.
الدرس الثاني: النصر من عند الله
هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون- وقد كادوا- وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي؛ وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم. وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين.
ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة عن المصير الذي انتهت إليه بسبب ذلك الخلل في الصف وبسبب ذلك الغبش في التصور..
معركة بدر ومعركة أحد.. مواطن القوة وأسباب النصر وأسباب الهزيمة
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر- معركة بدر- لتكون هذه أمام تلك. مجالًا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج؛ ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة وأسباب النصر وأسباب الهزيمة. ثم- بعد ذلك- ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله؛ لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء. وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين وفي جميع الأحوال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:123-129].
كفتان غير متوازنتين ولا قريبتين من التوازن
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة- كما أسلفنا- فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها- بين المؤمنين والمشركين- متوازنتين ولا قريبتين من التوازن. كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيرًا لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها؛ فلم يكن معهم- على قلة العدد- إلا القليل من العدة- وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة!
فبهذا كله يذكرهم الله سبحانه ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
إن الله هو الذي نصرهم؛ ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات.
وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة؛ والذي يملك القوة وحده والسلطان. فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر؛ وأن تجعله شكرًا وافيًا لائقًا بنعمة الله عليهم على كل حال.
هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.. ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم، كأنهم اللحظة فيها: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).
قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة
وكانت هذه كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه؛ والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما بلغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. أنه الصبر والتقوى؛ الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: (بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).
فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه سبحانه وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم؛ لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة، وإرادته الفاعلة وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحية الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب. بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط. كما هي في عالم الحقيقة..
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن المؤكدة بشتى أساليب التوكيد استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين على نحو بديع هادئ عميق مستنير.
عرفوا أن الله هو الفاعل- وحده- وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب وبذل الجهد والوفاء بالتكاليف.
فاستيقنوا الحقيقة وأطاعوا الأمر في توازن شعوري وحركي عجيب! ولكن هذا إنما جاء مع الزمن ومع الأحداث ومع التربية بالأحداث والتربية بالتعقيب على الأحداث.. كهذا التعقيب ونظائره الكثيرة في هذه السورة.
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول صلى الله عليه وسلم يعدهم الملائكة مددًا من عند الله؛ إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة- حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا.. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل- من وراء نزول الملائكة- وهو الله. الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته ويتحقق النصر بفعله وإذنه.
(اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
فهو (الْعَزِيزِ) القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر. وهو (الْحَكِيمِ) الذي يجري قدره وفق حكمته والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة..
النصر: من أسبابه ومن نتائجه
ثم يبين حكمة هذا النصر.. أي نصر.. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
إن النصر من عند الله. لتحقيق قدر الله. وليس للرسول صلى الله عليه وسلم ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه؛ ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده. لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة!
(أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ).
أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين.
(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية..
(أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم. أو بأسرهم. أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه.. إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
وعلى أية حال فهي حكمة الله، وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجه النص من مجال هذا الأمر ليجرده لله وحده سبحانه فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك.
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولًا وأخيرًا.
وبذلك يرد أمر الناس- طائعهم وعاصيهم- إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده- سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي صلى الله عليه وسلم وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم ثم ينفضوا أيديهم من النتائج وأجرهم من الله على الوفاء وعلى الولاء وعلى الأداء.
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فسيرد في السياق قول بعضهم: (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ). وقولهم: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا).. ليقول لهم: إن أحدًا ليس له من الأمر من شيء. لا في نصر ولا في هزيمة. إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس. وأما الأمر بعد ذلك فكله لله. ليس لأحد منه شيء. ولا حتى لرسول الله.. فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي. وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث وأكبر من شتى الاعتبارات..
الأمر لله عز وجل في الكون كله
ويختم هذا التذكير ببدر، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره.. يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير: وهو أن الأمر لله في الكون كله، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فهي المشيئة المطلقة المستندة إلى الملكية المطلقة وهو التصرف المطلق في شأن العباد بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض. وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد في المغفرة أو في العذاب. إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل وبالرحمة والمغفرة. فشأنه سبحانه الرحمة والمغفرة: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته بالعودة إليه ورد الأمر كله له وأداء الواجب المفروض وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب.
الهوامش
(1) رواه البخاري ومسلم.
المصدر
“في ظلال القرآن” تفسير سورة آل عمران.
اقرأ أيضا