من حكم الله تعالى في نزول المصائب بالمؤمنين أن فيها رحمة للمؤمنين وتكفيرا لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم، وفي كارثة الزلازل نيلاً للشهادة الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: «وصاحب الهدم شهيد».
جبر الله مصابكم يا أهلنا في تركيا وبلاد الشام
الحمدلله كاشف الكربات ومقيل العثرات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأحسن الله عزاءكم يا أهلنا في تركيا وبلاد الشام وعظم الله أجركم وغفر الله لموتاكم وتقبلهم في الشهداء وشفى الله جرحاكم وعوضكم خيراً مما أُخذ منكم، وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب وما أوصانا به سبحانه (إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون) .
وإننا نذكر أنفسنا ومن أصابهم هذا المصاب الجلل والمسلمين عامة بالأمور التالية:
الأمر الأول︎: آيات تورث في القلب الرضى وحسن الظن بالله سبحانه
نذكر بقوله تعالى: (مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن یُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ یَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ).
وبقوله سبحانه: (مَاۤ أَصَابَ مِن مُّصِیبَةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَاۤۚ إِنَّ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣱ * لِّكَیۡلَا تَأۡسَوۡا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُوا۟ بِمَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورٍ).
وبقوله تعالى: (قُل لَّن یُصِیبَنَاۤ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ).
وبقوله تعالى: (وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ * ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰجِعُونَ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَیۡهِمۡ صَلَوَ ٰتࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةࣱۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ).
الله أكبر ، ما أعظم هذه الآيات وما أعظم أثرها لمن تدبرها في تخفيف المصائب وتخفيف وقعها على النفوس!
إن المسلم العارف بربه وأسمائه الحسنى يُدرك أن لهذا الكون مالك عزيز عليم حكيم رحيم لطيف، لا يكون في ملكه إلا ما علمه وكتبه في الأزل وأذن به وخلقه عن علم وإرادة وحكمة ورحمة بالغة، قال تعالى: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).
فإذا أيقن العبد المؤمن بهذه المسلّمات وأيقن بأن الله عز وجل أرحم بعبده من نفسه؛ رضي بقضاء ربه، وأحسن الظن بمولاه واستقر في قلبه أن اختيار الله سبحانه لعبده ولو كان مكروهاً هو خير من اختيار العبد لنفسه، (وَاللهُ يَعلَمُ وَأنتُمْ لا تَعلَمُونَ).
فإذا تمكنت هذه المعاني في القلب حَمِدَ العبدُ ربَّه ورضي وسلّم وخفَّ وقع المصيبة عليه، ولا يتعارض ذلك مع حزن القلب ودمع العين ما دام أن في القلب الرضى وحسن الظن بالله سبحانه.
الأمر الثاني: في البلاء رحمة للمؤمنين وعظة وعبرة
من حكم الله تعالى في نزول المصائب بالمؤمنين أن فيها رحمة للمؤمنين وتكفيرا لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم، وفي كارثة الزلازل نيلاً للشهادة الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»1(1) متفق عليه..
ولا يخفى أن الموت تحت الأنقاض يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «وصاحب الهدم شهيد»، وفي هذا اصطفاء من الله عز وجل لمن مات بالهدم، وفي هذا خير عظيم .
وأما مصائب الكفار فهي سخط الله عز وجل وغضبه وعقوبته نازلة عليهم . عن أَبِي مُوسَى الأشعري – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ»2(2) رواه أحمد وأبو داود ..
كما أنه في إنزال المصائب بالناس عظة وعبرة للناجين منهم والبعيدين عنهم، لعلهم يتوبون ويرجعون . قال الله عز وجل: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) وقال تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا..) وقال سبحانه: (ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ).
الأمر الثالث: الزلازل عذاب استئصال للكافرين
إن الزلازل جند من جند الله عذب بها كثيرا من الأقوام السابقه كقوم صالح وشعيب ولوط حيث جاء ذكر الرجفة في عذاب قوم صالح وشعيب وفي قوم لوط جاء في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) وذلك بالزلازل التي جعلتهم تحت أنقاض بيوتهم وكما في قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) .
وما يفعله الغرب الكافر من محادة لله عز وجل وكفر به ومخالفة للفطرة من إقرار فعل قوم لوط وإعلانه والدعوة إليه، والربا المتوحش وغيرها من الجرائم هو من موجبات عقوبة الله عليهم، والله عز وجل يمهل ولا يهمل، فإياك أن تيأس من نصر الله للمؤمنين وإهلاكه للكافرين بجند من جند الله عز وجل التي لا قوة لأحد بها ولا طاقة، (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
الأمر الرابع: ما ينبغي فعله عند نزول المصائب كالزلازل وغيرها
– كثرة الاستغفار وتجديد التوبة والرجوع إلى الله عز وجل؛ ودعائه لكشف الكربة ورفع البلاء؛ فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة .
– ومن ذلك الصدقة على الفقراء والمحتاجين والملهوفين وهذا من أسباب رفع البلاء .
– ومن ذلك الفزع الى الصلاة، كما قال الله عز وجل: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)
– ومما ينبغي فعله استثمار الحدث والمصيبة بتذكير الناس بربهم ووعظهم في الإقلاع عن الذنوب وترك المنكرات .
روى ابن أبي شيبة وغيره ، عن نافع عن صفية قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر فخطب الناس فقال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم3(3) “المصنف” (2/358)..
وذُكر أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه4(4) ابن كثير تتفسير سورة الإسراء (آية:60)..
الأمر الخامس: بعض الحكم من موت الأطفال في هذه الكوارث
قد يقال في مثل هذه الكوارث إذا كانت مكفرة للذنوب ورافعة للدرجات، فما شأن الأطفال الذين قضوا تحت الأنقاض، فهؤلاء لا ذنوب لهم، فالجواب أن الله عز وجل أرحم بهم من والديهم، وتحديد صوره الرحمة ونوعها ليست إلى المخلوق الضعيف الجاهل، بل الرحمة الحقيقية هي التي يحددها الله عز وجل أرحم الراحمين، فما يحصل للأطفال من موت في مثل هذه الكوارث لاشك بأنها رحمة من الله تعالى بهم، قد نعلم بعض حكمها ويخفى علينا البعض الآخر، ومما يظهر لنا من حكم الله تعالى ورحمته: أنه سبحانه اختارهم إليه وجعلهم يدخلون الجنه بغير حساب ولا سابق عذاب ولو بلغوا فما يُدرى ما يكون عملهم، فهل بعد دخول الجنة من رحمة؟!
الأمر السادس: التذكير بزلزال الأرض الأعظم يوم القيامة
حدوث هذه الزلازل المفاجئة وما يحصل في أثنائها من رعب وخوف وهلع يذكرنا بزلزال الأرض الأعظم يوم القيامة، حيث إن الزلزال في ذلك اليوم ليس قاصراً على بقعة من بقع الأرض، وإنما الكرة الأرضية بأكملها تهتز بذلك الزلزال الرهيب وتدك، فيا لله كيف ستكون تلك الزلزلة ؟! (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).
الأمر السابع: الزلازل تذكير بنعمة تسخير الأرض وتذليلها
كما أنه في هذه الزلازل المفاجئة تذكيراً بنعمة الله تعالى على عباده باستقرار الأرض وثباتها واطمئنان الإنسان على ظهرها بالمشي في مناكبها، وتسخيرها لعباده لعمارتها والاستفادة من خيراتها ظاهراً وباطناً .
(أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارࣰا وَجَعَلَ خِلَـٰلَهَاۤ أَنۡهَـٰرࣰا وَجَعَلَ لَهَا رَوَ ٰسِیَ وَجَعَلَ بَیۡنَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ).
ولا تُدرك هذه النعم إلا برؤية اضطراب الأرض ورجفتها وعدم الثبات عليها .
الأمر الثامن: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة
إن من الناس من ترده المصائب والكوارث إلى ربه سبحانه فيحاسب نفسه ويعلم أن ما أصابه بسبب ذنبه وتقصيره، ويعلم أنها من عند الله وأن الله سبحانه قد أذن في ذلك لحكمة يريدها الله، ونذيراً لعباده ليتنبهوا من المعاصي ويحذروا من خطرها، وليعلموا أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة فتراه داعياً مستغفراً .
ومن الناس من يكون مريض القلب، غافلا عن حِكمة الله عزوجل في أقضيته الكونية والشرعية، فيظن بالله تعالى غير الحق ظن أهل الجاهلية، ويخسر ما يُستفاد من هذه الكوارث العظيمة . فيزعم أن هذا ليس له علاقة بقضاء الله وقدره وحكمته، ويزعم أن ذلك إنما يحدث بأسباب مادية لا دخل لتدبير الله فيها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً
وهذا هو الذي ينادي به اليوم المنافقون الماديون من علمانيين وزنادقة متأسين بسلفهم الدهريين الذين قال الله عزوجل فيهم: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ).
الأمر التاسع: تجلي وحدة المؤمنيين واصطفافهم في الأزمات
قال رسول صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»5(5) رواه مسلم ..
فهذا مثل عظيم يصور أخلاق المؤمنين فيما بينهم، ورحمة بعضهم لبعض وتعاطفهم وتآلفهم عند المصائب والكوارث، فالواجب علينا تجاه إخواننا المنكوبين هناك أن نقف معهم في بلاءهم، وأن يبذل الواحد منا ما يستطيع بما يخفف مصابهم بالمال والطعام والدواء والإيواء والدعاء، نسأل الله عز وجل أن يرحم ميتهم وأن يشفي جريحهم، ويجبر مصاب أهليهم وذويهم، وأن يعيذنا من القسوة والغفلة، ونسأله سبحانه أن يرزقنا التوبة النصوح والإنابة الصادقة إليه، إنه قريب مجيب.
الهوامش
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد وأبو داود .
(3) “المصنف” (2/358).
(4) ابن كثير تتفسير سورة الإسراء (آية:60).
(5) رواه مسلم .