لقد وضع الإسلام الميزان الحق لكرامة المرأة، وأعطها حقوقها كاملة غير منقوصة، ورفع عن كاهلها وزر الإهانات التي لحقت بها عبر التاريخ، والتي صنعتها أهواء الأمم، وأعلن إنسانيتها الكاملة، وأهليتها الحقوقية التامة، وصانها عن عبث الشهوات وفتنة الاستمتاع بها استمتاعاً جنسياً حيوانياً، وجعلها عنصراً فعالاً في نهوض المجتمعات وتماسكها وسلامتها.
مقدمة تاريخية
لا بد لي قبل أن أبداً حديثي عن “المرأة بين الفقه والقانون” من استعراض تاريخي لأوضاع المرأة الاجتماعية والقانونية في المجتمعات القديمة حتى ظهور الإسلام ثم فيما بعد ذلك في أوروبا في القرون الوسطى والعصور الحديثة، ومن الواضح لكل دارس منصف لهذه الأوضاع أن المرأة برغم التباين في موقف الأمم والشرائع من القسوة عليها أو الرحمة بها أنها قبل الإسلام لم تنل مكانتها الاجتماعية وحقوقها القانونية التي تستحقها بما يتفق مع رسالتها العظيمة التي خصها الله بها، ولا مع مكانتها التي ينبغي أن نعترف بها، وإليكم بعض الحديث عن ذلك.
حقوق المرأة عند اليونان
كانت المرأة في المجتمع اليوناني أول عهده بالحضارة محصنة وعفيفة لا تغادر البيت، وتقوم فيه بكل ما يحتاج إليه من رعاية، وكانت محرومة من الثقافة لا تسهم في الحياة العامة بقليل ولا كثير، وكانت محتقرة حتى سموها رجساً من عمل الشيطان، وكان الحجاب شائعاً في البيوتات العالية، أما من الوجهة القانونية فقد كانت المرأة عندهم كسقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق وهي مسلوبة الحرية والمكانة في كل ما يرجع الى حقوقها المدنية، ولم يعطوها حقاً في الميراث، وأبقوها طيلة حياتها خاضعة لسلطة رجل وكلوا إليه أمر زواجها فهو يستطيع أن يفرض عليها من يشاء زوجاً، وعهدوا إليه بالإشراف عليها في إدارة أموالها، فهي لا تستطيع أن تبرم تصرفاً دون موافقته، وجعلوا للرجل الحق المطلق في فصم عرى الزوجية بينما لم يمنحوا المرأة حق طلب الطلاق إلا في حالات استثنائية، بل وضعوا العراقيل في سبيل الوصول الى هذا الحق، ومن ذلك أن المرأة إذا أرادت أن تذهب الى المحكمة لطلب الطلاق تربص بها الرجل في الطريق فأسرها وأعادها قسراً الى البيت.
أما في اسبارطة فقد توسعوا في إعطائها شيئاً من الحقوق المدنية فأعطوها شيئاً من الحق في الإرث والبائنة (الدوطة) وأهلية التعامل، وما كان ذلك عن سماحة منهم واعتراف بأهلية المرأة، وإنما كان لوضع المدينة الحربي حيث كان أهلها في حرب وقتال، فكان الرجال يشتغلون بالحرب دائماً ويتركون التصرف في حال غيبتهم للنساء، ومن هنا كانت المرأة في اسبارطة أكثر خروجاً الى الشارع وأوسع حرفة من أختها في اثينا وسائر مدن اليونان، ومع هذا فقد كان أرسطو يعيب على أهل اسبارطة هذه الحرية والحقوق التي أعطوها للمرأة ويعزو سقوط اسبارطة وانحلالها الى هذه الحرية والحقوق.
وفي أوج حضارة اليونان تبدلت المرأة واختلطت بالرجال في الأندية والمجتمعات، فشاعت الفاحشة حتى أصبح الزنى أمراً غير منكر، وحتى غدت دور البغايا مراكز للسياسة والأدب، ثم اتخذوا التماثيل العارية باسم الأدب والفن، ثم اعترفت ديانتهم بالعلاقة الآثمة بين الرجل والمرأة، ثمن آلهتهم “افروديت” التي خانت ثلاثة آلهة وهي زوجة إله واحد وكان من أخدانها رجل من عامة البشر فولدت “كيوبيد” إله الحب عندهم! ثم لم يشبع غرائزهم ذلك حتى انتشر عندهم الاتصال الشاذ بين الرجل والرجل، وأقاموا لذلك تمثال “هرموديس وارستوجتين” وهما في علاقة آثمة، وكان ذلك خاتمة المطاف في حضارتهم فانهارت وزالوا.
حقوق المرأة عند الرومان
أما عند الرومان فقد كان الأمر عندهم في العصر القديم أن الأب ليس ملزماً بقبول ضم ولده منه الى أسرته ذكراً كان أو أنثى، بل كان يوضع الطفل بعد ولادته عند قدميه، فإذا رفعه وأخذه بين يديه كان دليلاً على أنه قبل ضمه الى أسرته، وإلا فإنه يعني رفضه لذلك، فيؤخذ الوليد الى الساحات العامة أو باحات هياكل العبادة فيطرح هناك، فمن شاء أخذه إذا كان ذكراً، وإلا فإن الوليد يموت جوعاً وعطشاً وتأثراً من حرارة الشمس أو برودة الشتاء.
وكان لرب الأسرة أن يدخل في أسرته من الأجانب من يشاء، ويخرج منها من أبنائه من يشاء عن طريق البيع، للذكر فقط أما البنت فكانت تظل خاضعة لرب الأسرة ما دام حياً.
وكانت سلطة رب الأسرة على أبنائه وبناته تمتد حتى وفاته مهما بلغ سن الأبناء والبنات، كما كانت له سلطة على زوجته وزوجات أبنائه وأبناء أبنائه، وكانت هذه السلطة تشمل البيع والنفي والتعذيب والقتل، فكانت سلطته سلطة ملك لا حماية، ولم يلغ ذلك إلا في قانون جوستنيان (المتوفى 565 م) فإن سلطة الأب فيه لم تعد تتجاوز التأديب.
وكان رب الأسرة هو مالك كل أموالها فليس لفرد فيها حق التملك، وإنما هم أدوات يستخدمها رب الأسرة في زيادة أموالها، وكان رب الأسرة هو الذي يقوم بتزويج الأبناء والبنات دون ارادتهم.
أما الأهلية المالية فلم يكن للبنت حق التملك، وإذا اكتسبت مالاً أضيف الى أموال رب الأسرة ولا يؤثر في ذلك بلوغها ولا زواجها وفي العصور المتأخرة في عصر قسطنطين تقرر أن الأموال التي تحوزها البنت عن طريق ميراث أمها تتميز عن أموال أبيها. ولكن له الحق في استعمالها واستغلالها، وعند تحرير البنت من سلطة رب الأسرة يحتفظ الأب بثلث أموالها كملك له ويعطيها الثلثين.
وفي عهد جوستنيان قرر أن كل ما تكتسبه البنت بسبب عملها أو عن طريق شخص آخر غير رب أسرتها يعتبر ملكاً لها، أما الأموال التي يعطيها رب الأسرة فتظل ملكاً له، على أنها وإن أعطيت حق تملك تلك الأموال فإنها لم تكن تستطيع التصرف فيها دون موافقة رب الأسرة.
وإذا مات رب الأسرة يتحرر الابن إذا كان بالغاً، أما الفتاة فتنقل الولاية عليها الى الوصي ما دامت على قيد الحياة، ثم عدل ذلك أخيراً بحيلة للتخلص من ولاية الوصي الشرعي بأن تبيع المرأة نفسها لولي تختاره. ويكون متفقاً فيما بينهما أن هذا البيع لتحررها من قيود الولاية فلا يعارضها الولي الذي اشتراها في أي تصرف تقوم به.
وإذا تزوجت الفتاة أبرمت مع زوجها عقداً يسمى “اتفاق السيادة” أي بسيادة الزوج عليها، وذلك بإحدى ثلاث طرق:
1 – في حفلة دينية على يد الكاهن.
2 – بالشراء الرمزي أي يشتري الزوج زوجته.
3 – بالمعاشرة الممتدة بعد الزواج الى سنة كاملة.
وبذلك يفقد رب الأسرة سلطته الأبوية على ابنته وتنتقل هذه السلطة الى الزوج. وعلى الجملة فقد تحولت السلطة على المرأة – في عهد الازدهار العلمي للقانون الروماني – من سلطة ملك الى سلطة حماية ولكنها مع ذلك ظلت قاصرة الأهلية.
فبينما كانت قوانين الألواح الاثني عشر تعتبر الأسباب الثلاثة الآتية أسباباً لعدم ممارسة الأهلية وهي: السن، والحالة العقلية، والجنس أي الأنوثة وكان فقهاء الرومان القدامي يعللون فرض الحجر على النساء بقولهم: لطيش عقولهن، جاء قانون جوستنيان ينص على أنه يشترط لصحة التعاقد أهلية حقوقية وأهلية فعلية واقعية.
أما الأهلية الحقوقية فيعتبر فاقداً لها:
1 – الرقيق.
2 – الأجانب في العقود الوطنية كالعقود الشفهية بالوعد كالعهود الكتابية الخاضعة لسلطة رئيس أسرة وهن البنات والزوجات.
وأما الأهلية الفعلية الواقعية فيعتبر فاقداً لها:
1 – الأولاد (الصغار) والمعتوهون.
2 – السفهاء في الحالة التي يصبحون فيها مدينين.
3 – البنات والسيدات البالغات الخاضعات لسلطة رئيس أسرة (أب وزوج) وذلك في الحالات التي يصبحن فيها مدينات دون إذن من سيدهن.
4 – النساء البالغات المستقلات، وذلك في الحالة التي يصبحن فيها مدينات دون إذن من الوصي عليهن.
غير أن هذه الحالة الأخيرة من فقدان الأهلية قد زالت مع زوال الوصاية على النساء في الامبراطورية السفلى، لكن هؤلاء النساء البالغات المستقلات ظللن فاقدات الأهلية عند تحمل دين الغير دون نفع لهن، فلسن أهلاً لأن يتحملن ديناً عن أزواجهن ولا أي واحد من الناس1(1) انظر في: المدخل الى تاريخ الحقوق الرومانية للدكتور معروف الدوالبي والمرأة عند اليونان، والمرأة عند الرومان للدكتور محمود سلام زناتي..
حقوق المرأة في شريعة حمورابي
كانت المرأة في شريعة حمورابي تحسب في عداد الماشية المملوكة، حتى أن من قتل بنتاً لرجل كان عليه أن يسلم بنته ليقتلها أو يتملكها.
حقوق المرأة عند الهنود
وكان علماء الهنود الأقدمون يرون أن الإنسان لا يستطيع تحصيل العلوم والمعارف ما لم يتخل عن جميع الروابط العائلية.
ولم يكن للمرأة في شريعة منو حق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعاً وجب أن تنتمي الى رجل من أقارب زوجها، وهي قاصرة طيلة حياتها، ولم يكن لها حق في الحياة بعد وفاة زوجها بل يجب أن تموت يوم موت زوجها وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد، واستمرت هذه العادة حتى القرن السابع عشر حيث أبطلت على كرهٍ من رجال الدين الهنود.
وكانت تقدم قرباناً للآلهة لترضى، أو تأمر بالمطر أو الرزق.
وفي بعض مناطق الهند القديمة شجرة يجب أن يقدم لها أهل المنطقة فتاة تأكلها كل سنة.
وجاء في شرائع الهندوس: ليس الصبر المقدر، والريح، والموت، والجحيم، والسم، والأفاعي، والنار، أسوأ من المرأة.
في أمثال الأمم القديمة
يقول المثل الصيني: أنصت لزوجتك ولا تصدقها.
ويقول المثل الروسي: لا تجد في كل عشرة نسوة غير روح واحدة.
ويقول المثل الأسباني: احذر المرأة الفاسدة. ولا تركن الى المرأة الفاضلة.
ويقول المثل الإيطالي: المهماز للفرس الجواد والفرس الجموح، والعصا للمرأة الصالحة والمرأة الطالحة.
حقوق المرأة عند اليهود
كانت بعض طوائف اليهود تعتبر البنت في مرتبة الخادم، وكان لأبيها الحق في أن يبيعها قاصرة، وما كانت ترث إلا إذا لم يكن لأبيها ذرية من البنين وإلا ما كان يتبرع به لها أبوها في حياته.
ففي الإصحاح الثاني والأربعين من سفر أيوب: “ولم توجد نساء جميلات كنساء أيوب في كل الأرض، وأعطاهن أبوهن ميراثاً بين اخوتهن”.
وحين تحرم البنت من الميراث لوجود أخ لها ذكر يثبت لها على أخيها النفقة والمهر عند الزواج، إذا كان الأب قد ترك عقاراً فيعطيها من العقار، أما إذا ترك مالا منقولا فلا شيء لها من النفقة والمهر ولو ترك القناطير المقنطرة.
وإذا آل الميراث الى البنت لعدم وجود أخ لها ذكر لم يجز لها أن تتزوج من سبط آخر، ولا يحق لها أن تنقل ميراثها الى غير سبطها.
واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم، وقد جاء في التوراة: “المرأة أمرُّ من الموت، وإن الصالح أمام الله ينجو منها، رجلاً واحداً بين ألف وجدت، أما المرأة فبين كل أولئك لم أجد”.
حقوق المرأة عند المسيحيين
لقد هال رجال المسيحية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش والمنكرات، وما آل اليه المجتمع من انحلال أخلاق شنيع، فاعتبروا المرأة مسؤولة عن هذا كله، لأنها كانت تخرج الى المجتمعات، وتتمتع بما تشاء من اللهو، وتختلط بمن تشاء من الرجال كما تشاء، فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأن العزب عند الله أكرم من المتزوج، وأعلنوا أنها باب الشيطان، وأنها يجب أن تستحيي من جمالها لأنه سلاح إبليس للفتنة والإغراء.
قال القديس “ترتوليان”: إنها مدخل الشيطان الى نفس الإنسان. ناقضة لنواميس الله، مشوهة لصورة الله أي الرجل.
وقال القديس سوستام: إنها شر لا بد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة.
وفي القرن الخامس اجتمع مجمع “ماكون” للبحث في المسألة التالية:
هل المرأة مجرد جسم لا روح فيها؟ أم لها روح؟
وأخيراً قرروا أنها خلو من الروح الناجية (من عذاب جهنم) ما عدا أم المسيح.
ولما دخلت أمم الغرب في المسيحية كانت آراء رجال الدين قد أثرت في نظرتهم الى المرأة، فعقد الفرنسيون في عام 586 للميلاد (أي في أيام شباب النبي عليه الصلاة والسلام) مؤتمراً للبحث: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ وأخيراً قرروا أنها إنسان خلقت لخدمة الرجل فحسب.
واستمر احتقار الغربيين للمرأة وحرمانهم لحقوقها طيلة القرون الوسطى حتى ان عهد الفروسية الذي كان يظن فيه أن المرأة احتلت شيئاً من المكانة الاجتماعية حيث كان الفرسان يتغزلون بها ويرفعون من شأنها، لم يكن عهد خير لها بالنسبة لوضعها القانوني والاجتماعي، فقد ظلت تعتبر قاصرة لا حق لها في التصرف بأموالها دون إذن زوجها.
ومن الطريف أن نذكر أن القانون الانجليزي حتى عام 1805 كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات (نصف شلن – ربع ليرة سورية) فقد حدث أن باع انجليزي زوجته عام 1931 بخمسمائة جنيه، وقال محاميه في الدفاع عنه: إن القانون الانجليزي قبل مائة عام كان يبيح للزوج أن يبيع زوجته، وكان القانون الانجليزي عام 1801 يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغي عام 1805 بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر.
ولما قامت الثورة الفرنسية (نهاية القرن الثاني عشر) وأعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة، لم تشمل المرأة، فنص القانون المدني الفرنسي على أنها ليست أهلاً للتعاقد دون رضا وليها إن كانت غير متزوجة، وقد جاء النص فيه على أن القاصرين هم: الصبي والمجنون والمرأة، واستمر ذلك حتى عام 1938 حيث عدلت هذه النصوص لمصلحة المرأة، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة.
حقوق المرأة عند العرب قبل الإسلام
وإذا عدنا الى البيئة العربية قبل الإسلام، وجدنا المرأة العربية مهضومة في كثير من حقوقها، فليس لها حق الإرث، وليس لها على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، ولا لتعدد الزوجات حد معين، ولم يكن عندهم نظام يمنع تمكين الزوج من النكاية بها، كما لم يكن لها حق في اختيار زوجها، ولقد كان رؤساء العرب وأشرافهم فحسب يستشيرون بناتهم في أمر الزوج، كما نستنتج ذلك من بعض القصص التاريخية.
وكان الرجل إذا مات وله زوجة وأولاد من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، ويعتبرها إرثاً كبقية أموال أبيه، فان أراد أن يعلن عن رغبته في الزواج منها طرح عليها ثوباً، وإلا كان لها أن تتزوج بمن تشاء.
وكانوا يتشاءمون من ولادة الأنثى، وكانت بعض قبائلهم تئدها خشية العار، وبعضهم كان يئدها ويئد أولاده عامة خشية الفقر، ولم تكن هذه عادة فاشية في العرب، وإنما كانت في بعض قبائلهم، ولم تكن قريش منها.
وكل ما كانت تعتز به المرأة العربية في تلك العصور على أخواتها في العالم كله، حماية الرجل لها، والدفاع عن شرفها، والثأر لامتهان كرامتها.
الإسلام وضع الميزان الحق لكرامة المرأة
في أواخر القرن السادس الميلادي، ووسط هذا الظلام المخيم من قضية المرأة في جميع أنحاء العالم المتمدن وغير المتمدن يومئذ، انطلق من جزيرة العرب، من فوق رمالها الدكناء، وسهولها الجرداء، وجبالها الحمراء، من مكة: انطلق صوت السماء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يضع الميزان الحق لكرامة المرأة، ويعطيها حقوقها كاملة غير منقوصة، ويرفع عن كاهلها وزر الإهانات التي لحقت بها عبر التاريخ، والتي صنعتها أهواء الأمم، يعلن إنسانيتها الكاملة، وأهليتها الحقوقية التامة، ويصونها عن عبث الشهوات وفتنة الاستمتاع بها استمتاعاً جنسياً حيوانياً، ويجعلها عنصراً فعالاً في نهوض المجتمعات وتماسكها وسلامتها.
مبادئ الإسلام في المرأة
وتتلخص المبادئ الإصلاحية التي أعلنها الإسلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالمرأة في المبادئ التالية:
أولاً: إن المرأة كالرجل في الإنسانية سواء بسواء، يقول الله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) [النساء: 1] ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: “إنما النساء شقائق الرجال”2(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم..
ثانياً: دفع عنها اللعنة التي كان يصقلها بها رجال الديانات السابقة، فلم يجعل عقوبة آدم بالخروج من الجنة ناشئاً منها وحدها، بل منهما معاً.
يقول تعالى في قصة آدم: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) [البقرة: 36].
ويقول عن آدم وحواء: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وُري عنهما من سوآتهما) [الأعراف: 20].
ويقول عن توبتهما (قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23].
بل إن القرآن في بعض آياته قد نسب الذنب إلى آدم وحده فقال: (وعصى آدم ربه فغوى) [الأحزاب: 35].
ثم قرر مبدأ آخر يعفي المرأة من مسؤولية أمها حواء وهو يشمل الرجل والمرأة على السواء: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) [البقرة: 36].
ثالثاً: إنها أهل للتدين والعبادة ودخول الجنة إن أحسنت، ومعاقبتها إن أساءت، كالرجل سواء بسواء، يقول الله تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) [النحل: 97].
ويقول تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) [آل عمران: 195].
وانظر كيف يؤكد القرآن هذا المبدأ في الآية الكريمة التالية: (إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيراً والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) [الأحزاب: 35].
رابعاً: حارب التشاؤم بها والحزن لولادتها كما كان شأن العرب ولا يزال شأن كثير من الأمم ومنهم بعض الغربيين كما تحققت ذلك بنفسي، فقال تعالى منكراً هذه العادة السيئة: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون) [النحل: 59].
خامساً: حرم وأدها وشنع على ذلك أشد تشنيع فقال: (وإذا الموءودة سئلت: بأي ذنب قتلت) [التكوير: 09].
وقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) [الأنعام: 100].
سادساً: أمر بإكرامها: بنتاً، وزوجة، وأماً.
– أما إكرامها كبنت فقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة:
منها قوله صلى الله عليه وسلم: “أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمّها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها الخ … “3(3) رواه البخاري (5083)..
– وأما إكرامها كزوجة ففي ذلك آيات وأحاديث كثيرة: منها:
قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم: 21].
وقوله صلى الله عليه وسلم: “خير متاع الدنيا الزوجة الصالحة، إن نظرت اليها سرتك، وإن غبت عنها حفظتك”4(4) رواه بألفاظ قريبة منه مسلم وابن ماجه..
– وأما إكرامها كأم ففي آيات وأحاديث كثيرة:
قال الله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً ووضعته كرها) [الأحقاف: 15].
وجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “من أحق الناس بصحبتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك! “5(5) رواه البخاري ومسلم..
وجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أريد الجهاد في سبيل الله، فقال له الرسول: هل أمك حية؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها فثم الجنة”6(6) رواه الطبراني..
سابعاً: رغب في تعليمها كالرجل، فقد مر معنا قوله صلى الله عليه وسلم: “أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها الخ … “.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”7(7) رواه البيهقي..
وقد اشتهر هذا الحديث على ألسنة الناس بزيادة لفظ “ومسلمة” وهذه الزيادة لم تصح رواية، ولكن معناها صحيح، فقد اتفق العلماء على أن كل ما يطلب من الرجل تعلمه يطلب من المرأة كذلك.
قال الحافظ السخاوي: قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث “مسلمة” وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحاً8(8) “المقاصد الحسنة” ص 277..
ثامناً: أعطاها حق الإرث: أماً، وزوجة، وبنتاً: كبيرة كانت أو صغيرة أو حملاً في بطن أمها.
تاسعاً: نظم حقوق الزوجين، وجعل لها حقوقاً كحقوق الرجل، مع رئاسة الرجل لشؤون البيت، وهي رئاسة غير مستبدة ولا ظالمة. قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) [البقرة: 228].
عاشراً: نظم قضية الطلاق بما يمنع من تعسف الرجل فيه واستبداده في أمره فجعل له حداً لا يتجاوزه، وهو الثلاث، وقد كان عند العرب ليس له حد يقف عنده، وجعل لإيقاع الطلاق وقتاً، ولأثره عدة تتيح للزوجين العودة الى الصفاء والوئام.
الحادي عشر: حد من تعدد الزوجات فجعله أربعاً وقد كان عند العرب وعند غيرهم من الأمم التي تبيح التعدد غير مقيد بعدد معين.
الثاني عشر: جلعها قبل البلوغ تحت وصاية أوليائها، وجعل ولايتهم عليها ولاية رعاية وتأديب وعناية بشؤونها وتنمية لأموالها، لا ولاية تملك واستبداد.
وجعلها بعد البلوغ كاملة الأهلية للالتزامات المالية كالرجل سواء بسواء.
ومن تتبع أحكام الفقه الإسلامي لم يجد فرقاً بين أهلية الرجل والمرأة في شتى أنواع التصرفات المالية كالبيع، والإقالة، والخيارات، والسلم، والصرف، والشفعة، والإجارة، والرهن، والقسمة، والبينات، والإقرار والوكالة، والكفالة، والحوالة، والصلح، والشركة، والمضاربة، والوديعة، والهبة، والوقف، والعتق، وغيرها.
النتيجة
من هذه المبادئ الإثنى عشر نعلم أن الإسلام أحل المرأة المكانة اللائقة بها في ثلاث مجالات رئيسية:
1 – المجال الإنساني: فاعترف بإنسانيتها كاملة كالرجل وهذا ما كان محل شك أو إنكار عند أكثر الأمم المتمدنة سابقاً.
2 – المجال الاجتماعي: فقد فتح أمامها مجال التعلم وأسبغ عليها مكاناً اجتماعياً كريماً في مختلف مراحل حياتها منذ طفولتها حتى نهاية حياتها، بل إن هذه الكرامة تنمو كلما تقدمت في العمر: من طفلة الى زوجة، الى أم، حيث تكون في سن الشيخوخة التي تحتاج معها الى مزيد من الحب والحنو والإكرام.
3 – المجال الحقوقي: فقد أعطاها الأهلية المالية الكاملة في جميع التصرفات حين تبلغ سن الرشد، ولم يجعل لأحد عليها ولاية من أب أو زوج أو رب أسرة.
الهوامش
(1) انظر في: المدخل الى تاريخ الحقوق الرومانية للدكتور معروف الدوالبي والمرأة عند اليونان، والمرأة عند الرومان للدكتور محمود سلام زناتي.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم.
(3) رواه البخاري (5083).
(4) رواه بألفاظ قريبة منه مسلم وابن ماجه.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه الطبراني.
(7) رواه البيهقي.
(8) “المقاصد الحسنة” ص 277.
المصدر
كتاب: “المرأة بين الفقه والقانون” مصطفى السباعي، ص13-27.