على المسلم أن يزِن أقوال الناس وأفعالهم بالميزان الصحيح، الذي أمرنا الله به، لا بالأهواء والعواطف، والميزان هو الكتاب والسنة وإجماع السلف.

وتتوالى جرائم الصهاينة ولا رادع

في صباح يوم الأربعاء أصيبت مراسلة الجزيرة شرين أبو عاقلة برصاصة في رأسها أودت بحياتها من قبل الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين، وكانت شرين تنافح على مدى سنين طويلة عن قضيتها العادلة قضية فلسطين، وكان لها أثر في نقل الحقائق وفضح إجرام الصهاينة فقتلت ظلمًا عمدًا عدوانا؛ حيث تعمد القناص إصابتها في الرأس مع أنها كانت لابسة لزي الصحفيين، لكن هذا الكيان المجرم لا يفرق بين صحفي وغيره، وبين طفل وكبير، مما يذكرنا بالحادث المؤلم الذي قتل فيه الطفل محمد الدرة قتلا متعمدًا..

وما كنت لأكتب هذا المقال لولا أني رأيت بعض الإسلاميين يترحم عليها، ويصفها بالشهيدة، مع أنها ماتت على الكفر!!

ومهما كان تعاطفنا مع شرين لما قدمته للقضية الفلسطينية.. ولكونها قتلت ظلمًا وغدرا.. إلا أن هناك ثوابت ومحكمات شرعية يجب أن نقف عندها، فمن مات على الكفر لا يجوز الترحم عليه ولا الاستغفار له أو وصفه بالشهادة مهما قدم من حسنات، ولو كان أقرب قريب، كالوالدين..

ثوابت ومحكمات شرعية: لا يجوز الترحم والاستغفار لمن مات على الكفر

وقد كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك، وكان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدافع، ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلامه حرصًا شديدًا لما كان بينهما من القرابة والصلة، إلا أن الله جل  وعلا لم يرد أن يسلم أبو طالب -لحكمة بالغة-، فلما مات على الكفر تأثر النبي صلى الله عليه وسلم تأثرا بالغا، وحزن حزنا شديدًا، وقال: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك»، فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (1).

وروى الطبري بإسناد حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآية، فكانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية(2).

فلما نزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله:

﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ الآية.

وروى الطبري بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾(3) .

وروى الطبري بسند حسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾، يعني: استغفر له ما كان حيا ، فلما مات أمسك عن الاستغفار له(4).

وروى الطبري بسند حسن عن قتادة قال: ﴿تَبَيَّنَ لَهُ﴾ حين مات، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه، يعني في قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (5).

وقال تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

وإذا لم يجز الاستغفار لمن مات على الكفر، فلا يجوز التًرحم عليه من باب أولى؛ لأن التًرحم فيه معنى الاستغفار وزيادة، فالاستغفار طلب إزالة السيئات -فهو تخلية-، والرحمة طلب إنزال الحسنات والخيرات -فهو تحلية-، وقد كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يدعو لهم بالرحمة، ومع ذلك لم يفعل، بل كان يدعو لهم بالهداية، فعن أبي موسى، قال: كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله، فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم»(6).

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتًرحم على الأحياء منهم فمن باب أولى الأموات؛ لانقطاع التوبة عنهم بموتهم على الكفر.

قال الإمام النووي: الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع(7).

وقال ابن بطال: فرض على جميع المؤمنين متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين ولا يستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم(8).

قال تعالى: ﴿.. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

من الشهيد؟!

كذلك لا يجوز وصف من قتل من المسلمين بالشهادة إلا إذا قتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته، فأما من قاتل حمية أو عصبية أو شجاعة أو من أجل المغنم فليس قِتلته في سبيل الله، ولا يوصف بأنه شهيد هذا في المسلم ، فمن باب أولى إذا مات على الكفر ،فعن أبي موسى رضي الله عنه ، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(9).

وفي البخاري أيضًا : ..فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا ».(10).

وإنما الذي أجازه بعض أهل العلم تعزية الذمي من أهل الكتاب أو الكافر غير المحارب  بعبارة لا تتضمن الدعاء له بالرحمة والاستغفار، وإنما بعبارة مجملة نحو: نوصيكم بالصبر وتقوى الله، وعوضكم الله خيرا ..

ومما تقدم من الأدلة يتبين لنا أنه لا يجوز التًرحم والاستغفار لمن مات على الكفر، سواء مات على اليهودية أو النصرانية أو الوثنية أو مرتدا عن الإسلام ؛ لأنه بموته على ذلك تبين له أنه عدو لله ، وتبين أنه من أصحاب الجحيم، وأن لا مجال للتوبة حتى يستغفر له أو يتًرحم عليه، وكل كافر هو عدو لله لعصيانه أمر الله الذي خلقه ورزقه وبين له طريق الخير وطريق الشر ببعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وحذره من الموت على الكفر، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾، وما يقدمه الكافر من أعمال خير وبر فإنه يعطى بها في الدنيا، فإن الله لا يظلم أحدًا، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمِل خيرا  ولا شرا في الدنيا، إلا آتاه الله إياه -أي: جازاه عليه في الدنيا-. فأما المؤمن -أي: في الآخرة- فيريه حسناته وسيئاته، فيغفر الله له سيئاته. وأما الكافر فيرد حسناته، ويعذِبه بسيئاته(11) .

وقال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ﴾.

فالكافر حسناته يجازى بها في الدنيا؛ من توسيع الرزق والصحة والذكر بين الناس ونحو ذلك،  وأما الآخرة فليس لو فيها نصيب..

أهم الدروس والعبر من هذه الحادثة المحزنة

ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

1- أن على الإنسان أن يخاف أن يموت يهوديا أو نصرانيا أو مرتدا عن الإسلام ، لأن ذلك هو الخسران المبين ، قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾، وقال تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام  ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾، فليس هناك  ذنب أعظم من أن تجعل لله ندا  وهو خلقك، أو تدعي له الولد.

وقال جل وعلا: ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:133]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو في سجوده: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»(12) وكان من دعائه كل صباح ومساء: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت»(13).

أن على المسلم أن يزِن أقوال الناس وأفعالهم بالميزان الصحيح، الذي أمرنا الله به، لا بالأهواء والعواطف، والميزان هو الكتاب والسنة وإجماع السلف، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[النساء:59]..

وانكشفت عورات الصهاينة

2- تظهر في هذه الجريمة حقيقة الإجرام الصهيوني وغدره، وحقيقة دعواه في الديمقراطية، حتى أنه لم يتحمل صوتا إعلاميا حرا ينقل الحقيقة، فأقدم على تصفيته.

حجم القضية الفلسطينية الحقيقي في حس الأمة

3- الجدل المثير والتعاطف العجيب حول مقتل شرين المناصرة للقضية الفلسطينية يدل على أن هذه القضية ستظل حية في الأمة، مهما طبع المطبعون، وتخاذل المتخاذلون، ولابد للحق أن ينتصر يوما.

يخربون بيوتهم -الدين الإبراهيمي- بأيديهم

4- إن الدعوة إلى الدين الإبراهيمي الجديد إنما هي صرخة في واد ونفخة في رماد،  وأول من سينقضها هم أربابها وصانعوها.  كما أنها مخالفة للسنن الكونية، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود:117-118].

5- خطورة الإعلام وقدرته على التأثير البالغ وتغيير الموازين والقيم؛ فمع وجود آلاف العلماء والدعاة المعتقلين والمقتولين ظلما إلا أنه لا بواكي لهم..

6- خطورة العولمة التي ميعت قضايا كثيرة في العقيدة والشريعة، والتي من شأنها إقرار الأديان الباطلة والمذاهب المادية المنحرفة.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين..

الهوامش

(1) رواه البخاري (4675).

(2) رواه الطبري (17332) بإسناد حسن .

(3) رواه الطبري (17343).

(4) رواه الطبري (17346).

(5) رواه الطبري (17341).

(6) رواه التًرمذي (2739) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني .

(7) شرح  المهذب ( 5/144).

(8) شرح البخاري له( 3/351).

(9) رواه البخاري(2810) ومسلم( 1094).

(10) رواه البخاري (4234) وفي رواية عنده (6707) : «كلا، والذي نفسي بيده..».

(11) رواه الطبري ( 24/550 ) وسنده حسن.

(12) رواه التًرمذي (3522) وحسنه، وصححه الألباني.

(13) رواه أبو داود (5191) وحسنه الألباني.

اقرأ أيضا

الولاء والبراء على أساس العقيدة من هدي الأنبياء

المرأة وخدمة العقيدة

خصائص الميزان الإلهي

 

التعليقات غير متاحة