لما علم عدو الله إبليس بأن القلب هو الملك على سائر الأعضاء، أجلب عليه بالوساوس والشهوات، وصار يحاول إفساد قلوب بني آدم بشتى الوسائل التي يستطيعها.

مفسدات القلوب كثيرة ويجمعها خمسة أمور:

قال الله تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) [الإسراء: 22].

وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد: 25].

الأول: كثرة مخالطة الناس

فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، يوجب له تشتتًا وتفرقًا، وهمًا وغمًا، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عن مصالحه بهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم ومجالسهم.

فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟.

وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة؟.

وكل المشتركين في تحصيل غرض، يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزنًا، وانقلبت تلك المودة بغضًا، ولعنة من بعضهم لبعض إلا ما شاء الله.

ومحكم القول في أمر الخلطة:

أن يخالط الإنسان الخلق في الخير كالجمعة والجماعة .. والأعياد والحج .. والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. والعلم والجهاد .. والنصيحة وبذل المعروف .. ويعتزلهم في الشر .. وفضول المباحات.

فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، فليحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه، والصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة.

وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس إلى مجلس طاعة لله إن أمكنه، فإن عجز عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين.

وليكن فيهم حاضرًا غائبًا، قريبًا بعيدًا، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم، ورقى به إلى الملأ الأعلى، مع الأرواح العلوية الزكية، ولا ينال هذا إلا بتوفيق الله وعونه.

المفسد الثاني: ركوبه بحر التمني

وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، والخيالات، والأماني الكاذبة، وتلك بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية.

والناس متفاوتون في ذلك، وكل بحسب حاله:

فمِن متمَنٍّ للقدرة والسلطان .. وللضرب في الأرض .. والتطواف في البلدان .. أو متمنٍّ للأموال والأثمان .. أو للنسوة والمردان .. أو للعب واللهو .. أو للشهوات واللذات.

وصاحب الهمة العالية، أمانيه تحوم حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويكون سبباً للفوز بالجنة.

فالقلوب جوالة منها ما يطوف حول العرش .. ومنها ما يطوف حول الحش.

والذي يتمنى الخير، ربما جعل الله أجره كأجر فاعله، كالقائل: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان الذي يتقى الله في ماله، ويصل فيه رحمه.

وكما تمنى النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يكون متمتعًا وقد قرن، فأعطاه الله ثواب القران بفعله، وثواب التمتع الذي تمناه بأمنيته، فجمع له بين الأجرين، والله غني كريم.

الثالث: التعلق بغير الله تبارك وتعالى

وهذا أعظم مفسدات القلب على الإطلاق .. فليس عليه أضر من ذلك .. ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه .. فليحذره العبد.

فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عزَّ وجلَّ بتعلقه بغيره، والتفاته إلى ما سواه.

فهو لا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل.

فأعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله.

وأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، وصاحب ذلك مذموم مخذول كما قال سبحانه: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) [الإسراء: 22].

الرابع: الطعام

والمفسد للقلب من الطعام نوعان:

أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات وهي نوعان:

محرم لحق الله كالميتة والدم ولحم الخنزير، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.

ومحرم لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وما أخذ بغير رضا صاحبه، إما قهرًا، وإما حيلة.

الثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حده كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يشغله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤونة البطنة حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها، شغله بمزاولة تصريفها والتأذي بثقلها، وقوي عليه مواد الشهوة، ووسع عليه طرق مجاري الشيطان، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فكثرة الأكل يوسع طرق الشيطان في الإنسان، والصوم يضيق مجاريه، ويسد عليه طرقه.

الخامس: كثرة النوم

فكثرة النوم تميت القلب، وتثقل البدن، وتضيع الأوقات، وتورث كثرة الغفلة والكسل.

والنوم درجات، فمنه المكروه جدًا، ومنه الضار غير النافع للبدن.

وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أنفع وأحمد من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه.

وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران.

ويكره النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، ووقت نزول الأرزاق والبركات، وأول النهار ومفتاحه، ومنه ينشأ النهار.

وأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات.

وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه، أو نقص منه، أثر عندهم في الطبيعة.

ومن النوم الذي لا ينفع، النوم أول الليل عقيب غروب الشمس، وهو مكروه شرعًا وطبعًا.

وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجره مورث لآفات عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضًا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل.

وشياطين الإنس والجن يقتحمون النفس البشرية بسلاحين:

أحدهما: سلاح الشهوات، لإفساد سلوكه فيغوى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59].

الثاني: سلاح الشبهات، لإفساد فكره فيضل: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 7].

وقد حث الله المؤمنين على مجاهدة هؤلاء الأعداء بسلاحين أمضى وأقوى:

أحدهما: سلاح الصبر، وبه يجتث شجرة الشهوات والأهواء.

الثاني: اليقين الذي يحطم الشبهات والأوهام كما قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].

والذنوب والخطايا، والمعاصي والسيئات، توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.

فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.

ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، وضعف عن الطاعة.

والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.

فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا.

فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان.

وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب ونعيمه وحياته لا يتم إلا بهذا .. وهذا كما قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»1(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598)..

وهذا يدل على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما.

وكما أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، فكذلك الذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه.

فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، وخروجهما فيه راحة البدن والقلب.

وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»2(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (142)، ومسلم برقم (375)..

فالماء والغسل لإزالة الأوساخ والأدران عن البدن، والتوبة والاستغفار لإزالة الآثام والذنوب التي تراكمت على القلب.

فالأول به جمال الظاهر، والثاني به جمال الباطن والظاهر.

الهوامش

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598).

(2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (142)، ومسلم برقم (375).

المصدر

كتاب: “موسوعة فقه القلوب” محمد بن إبراهيم التويجري ص1353-1358.

اقرأ أيضا

القلوب ثلاثة: صحيح .. وسقيم .. وميت

أمراض القلوب .. أسباب وتجربة للمداواة

من أسباب حياة القلوب

مع القلوب الصخرية

التعليقات غير متاحة