اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف.

قبائل قريش

كانت قريش قبائل تنتمي إلى أب واحد، ولكنها لم تكن سواء في السيادة والشرف، فمنها ما كان متقدماً فيهما، ومنها ما كان متأخراً لا يكاد يذكر له شيء منهما، ومنها ما كان بين هذا وذاك، لا هي بالنابهة المتألفة فيهما ولا هي بالخاملة ميتة الذكر. . .

وكانت المنافسة على السيادة والشرف تدور بين ثلاث من قبائل قريش، هاشم وأمية ومخزوم، وكانت هذه المنافسة تشتد أحياناً حتى تغدو قريبة من العداء المستحكم، ولكن التقدم كان دائما من نصيب بني هاشم وكانت القبيلتان الأخريان، أمية ومخزوم، تحاولان أن تصعدا سلم الشرف والسيادة لتلحقا بهاشم، ولكن هيهات هيهات. . فقد بقي بنو هاشم سادة قريش وبقيت أمية ومخزوم بعدهم تجريان وراءهم تحاولان أن تلحقا بهم وتنافساهم.

لهذه المنافسة المتقدة على الشرف والسيادة برز من تلك القبيلتين رجال يذكرون إذا ما عدت رجال قريش، ويحضرون اذا ما عقدت مجالس قريش، تلك المجالس التي خصصت لها ندوة قريش التي لا يحضرها إلا راسخ في السيادة معرق في الشرف. . .

بنو مخزوم والدعوة الى الإسلام

عندما عرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة الإسلام على قريش، تلقاها زعماء القبائل، ومنهم بنو مخزوم، على أنها مكرمة من مكارم السيادة والشرف تتنافس عليها القبائل ويتسابق إليها الرجال، فأبى هؤلاء الأشراف أن يقروا لبني هاشم بالنبوة، وناصبوا رسول الله العداء، أما العقلاء من شباب قريش فقد تلقوا دعوة الإسلام بالقبول، فأقبلوا على رسول الله مصدقين وعلى دعوة الإسلام مؤمنين.

كان بنو مخزوم من أكثر القبائل القرشية عداء للرسول ودعوته، أبوا أن يكون النبي من قبيلة أخرى غيرهم وقد بالغوا في العداء ولجّوا فيه حتى ظهر من بينهم فرعون هذه الأمة، أبو جهل عمرو بن هشام، كما ظهر من بينهم واحد من زمرة المستهزئين بالدعوة: الوليد بن المغيرة. . .

وعلى هذا العداء الشديد من زعماء بني مخزوم وسادتهم، فقد آمن من عقلاء شبابهم نفر آثروا الحق والصدق على التنافس على رموز الدنيا البالية الفانية، فقد كان من بين السابقين إلى الإسلام، سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة المخزوميان. .

موقف الوليد بن المغيرة من الإسلام

كان الوليد بن المغيرة سيد بني مخزوم، وكانت له في قريش مكانة سامية واحترام عظيم، وكان هو في نفسه عظيماً، لا يرى لأحد عليه فضل، ولا يرى أحداً أحق منه بزعامة قريش وسيادتها، فقد كان القرشيون خاصة، والعرب عامة، يعتبرون العز والسيادة للكاثر مالا وولداً، وقد آتى الله الوليد مالاً وولداً، فكيف لا يرى نفسه سيد قريش وقد كان عنده من المال ما مكنه من كسوة الكعبة بمفرده سنة وتكسوها قريش مجتمعة سنة أخرى حتى سُمي بينهم بالعِدْل. . أي أنه يعدل قريشاً كلها مالا. . . ثم كيف لا يرى نفسه سيد قريش وكبيرها وقد آتاه الله ولداً يصول بهم ويجول بين رجال قريش وقبائلها. . . فقد كان له من الأولاد: خالد بن الوليد، وعمارة بن الوليد، وأبو قيس بن الوليد، وهشام بن الوليد، والوليد بن الوليد.

وعندما عرض رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الإسلام على قريش فزع الناس إلى الوليد يسألونه الرأي، فما كان منه إلا أن قال لهم قبل أن يسمع للرسول وقبل أن يستمع إلى القرآن: أينزل الوحي على محمد ويتركني أنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود سيد ثقيف. . ونحن عظيما القريتين!

وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة الوليد هذه ورد عليها فقال: (وقالوا: لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخْرياً، ورحمه ربك خير مما يجمعون) [الزخرف:31-32].

كانت هذه ردة الفعل الأولى لدى الوليد بن المغيرة. . انه لا يقبل أن ينزل القرآن على فتى يتيم فقير في قريش ويترك هو كبير القوم وأكثرهم مالاً وولداً. . .

ولكن. . هل يتراجع الوليد عن هذا الموقف عندما يقابل الرسول ويستمع إليه؟

لقد كانت الفصاحة في قريش، وكان الوليد على درجة عالية من الفصاحة والتذوق للفصيح، ولكنه كان يتحاشى أن يستمع للقرآن أو أن ينصت لحديث الرسول، ولكن هذا الموقف لم يستمر، فقد مر ذات يوم رسول الله وهو يقرأ القرآن، فقرعت آياته أذنيه، فوقف فأنصت، فأثرت آيات القرآن في قلبه، فانطلق حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال لهم: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن. . . والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وان أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه. ثم انصرف إلى منزله مفكرا فيما سمع من محمد وفيما قال لقومه من بني مخزوم.

قال بنو مخزوم: لقد صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها.

قال أبو جهل: أنا أكفيكموه. .

وانطلق أبو جهل حتى دخل على الوليد وجلس إلى جانبه متصنعاً الحزن والأسى، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟

قال أبو جهل: كيف لا أحزن وهذه قريش تجمع لك مالاً ليعينوك على كبر سنك، ويزعمون أنك زيّنت كلام محمد وصبأت لتصيب من فضل طعامه وتنال من ماله؟

فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟

ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يُخنق؟

قالوا: اللهم لا.

قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟

قالوا: اللهم لا.

قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟

قالوا: اللهم لا.

قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟

قالوا: اللهم لا.

ثم التفت الناس الوليد وقالوا: فما هو إذن؟

فروّى قليلاً يفكر في هذا الأمر ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده، ما هذا الذي يقوله إلا سحر يؤثر.

ونزل القرآن مرة ثانية يحكي موقف الوليد ويقرّعه ويتوعده، فقال – جل من قائل -: (ذرني ومن خقلت وحيدا، وجعلتُ له مالاً ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن ازيد، كلا انه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا، انه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم ادبر واستكبر، فقال ان هذا الا سحر يؤثر، ان هذا الا قول البشر، سأصليه سقر. . . ) [المدثر:11-26] .

مصير أولاد الوليد

أما عمارة بن الوليد فقد كان أنهد فتى في قريش وأجمله، بلغ من إعجاب قريش بشبابه وجماله أن عرضوه على أبي طالب ليتخذه ولدا بدلاً من محمد – عليه السلام -، على أن يأخذوا محمداً فيقتلوه.

قالوا: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً، فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله. . . فإنما هو رجل برجل!

قال أبو طالب: لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟

وخرج القوم من عند أبي طالب وقد أجمعوا على عداوته، وتشديد الوطأة على محمد ومن تبعه منهم.

وأمر رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من أسلم بالهجرة الى الحبشة فراراً بدينهم من أذى قريش، فأرسلت قريش وراءهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد يغرون بهم النجاشي لعله يردهم عن دينهم أو يسلمهم الى قريش تسومهم سوء العذاب..

وكان مع عمرو بن العاص في رحلته الى النجاشي امرأته، فراودها عمارة عن نفسها، فأسرها عمرو حتى أغرى به النجاشي، فكاد له هذا حتى قتله طريداً شريداً في صحاري الحبشة.

وأما أبو قيس بن الوليد فقد قُتل بمكة كافرا، ولم تذكر المصادر التي بأيدينا كيف كان قتله، وأغلب الظن أنه قتل في أثناء فتح مكة.

وأما خالد بن الوليد، فهو سيف الله المسلول، وصاحب الفتوحات المجلّية في جبهتي فارس والروم. . . لم يزل معانداً لرسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حتى أسلم بعد الحديبية، فشارك في غزوة مؤتة، فأظهر من الكفاية الحربية والمهارة الإدارية ما استحق عليه لقباً من ألقاب الإسلام الخالدة. . سيف الله. . رضى الله عنه وأرضاه.

أما هشام بن الوليد فهو ذو الأعصاب المتوفزة والمزاج الحاد، قتل أبا أزيهر الدوسي على مرأى من الناس ومشهد، تلبية لوصية أبيه التي أقر فيها أنه متجنّ على الرجل، ومع ذلك أوصى بقتله عصبية جاهلية، فاستجاب هشام للوصية، وقال حين أقدم على قتله يصف نفسه:

لساني طويل فاحترس من شدائه…عليك، وسيفي من لساني أطول!

وبقي هشام على كفره إلى يوم الفتح. . فأسلم، وكان من طائفة المؤلفة قلوبهم. ..

هشام وابن عمه عياش

أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي قبل دخول رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دار الأرقم، فهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة مع زوجته، وفي الحبشة ولد له ولد أسماه عبد الله، ثم عاد من الحبشة مع من عاد منها من المسلمين المهاجرين، وأخذت وطأة قريش تزداد شدة وعنفاً على المسلمين، وقررت كل قبيلة أن تتكفل بمن آمن منها، فتكيل له العذاب، ولا ترفعه عنه حتى يرتد عن دينه.

وجاء نفر من بني مخزوم الى هشام بن الوليد يستأذنونه في تعذيب ابن عمه عياش بن أبي ربيعة. . .

قالوا له: إنا قد أردنا أن نعاقب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا، وإنا نستأذنك في عياش، قال هشام: هذا عياش فعليكم به فعاتبوه، وإياكم ونفسه، وقال:

ألا لا يقتلن أخي عُيَيْش فيبقى بيننا أبدا تلاحي

احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلاً. . .

فعاد القوم من حيث أتوا، وقال بعضهم لبعض: اللهم العنه، فمن يغرر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب عياش في أيدينا لقتل أشرفنا رجلاً!

وانصرفوا عن عياش فلم يؤذوه.

عياش يهاجر مع عمر بن الخطاب

عندما أذن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، اتّعد عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي أن يخرجوا من مكة فرادى وأن يلتقوا عند مكان في ظاهر مكة يقال له ” التناصب ” وقالوا: أيُّنا لم يصبح عندنا فقد حُبس، فليمض صاحباه.

فأصبح عند التناصب عمر وعياش، وحبس هشام، فمضيا حتى قدما المدينة ونزلا في بني عمرو بن عوف بقباء.

أبو جهل يردّ عياشاً

وخرج أبو جهل واخوه الحارث بن هشام حتى أتيا قباء، وقالا لعياش – وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما -: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تعود.

ورق لها عياش، وعزم على العودة معهما. . . فلما علم عمر بذلك أتاه مسرعاً وقال له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو أذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.

قال عياش، أبرّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.

قال له عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.

فأبى عياش إلا أن يخرج معهما. . .

فلما أبى إلا الخروج قال له عمر: أما إذا فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.

وخرج عياش راكباً ناقة عمر، وخرج معه أبو جهل والحارث بن هشام وقد بيتا له أمرا. . .

وعندما ابتعدوا عن المدينة التفت أبو جهل إلى عياش وقال له: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟

قال عياش: بلى. . . وأناخها ليتحول عنها لأبي جهل، فلما استوى على الأرض عدا عليه الرجلان فأوثقاه وربطاه. . . وساقا به إلى مكة على هذه الحال.

وعندما دخل أبو جهل وأخوه الحارث مكة يسوقان بعياش موثقا، وأهل مكة من حولهم معجبون بفعلهم، قال لهم أبو جهل: يا أهل مكة؛ هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا!

أبو جهل يحبس عياشاً

لم يستطع أبو جهل أن يعذب عياشاً لمقامه من هشام بن الوليد، فحبسه في السجن الذي حبس به سلمة بن هشام المخزومي من قبل.

وكان سلمة بن هشام – رضي الله عنه – ممن أسلم مبكرا وممن هاجر إلى الحبشة، فلما عاد منها فيمن عاد من المسلمين عدا عليه أبو جهل – لعنه الله – وضربه وعذبه وحبسه ومنع عنه الطعام والشراب في محاولة لرده عن دينه، ولكن سلمة ثبت، فلما يئس منه أبو جهل حبسه في بيت من بيوت مكة وجعل عليه عيناً لا تفارقه. . .

رسول الله يدعو للحبيسين

وتناقل الناس خبر الحبيسين وما يلقيانه من عنت في محبسهما وما يبديانه من جلد وصبر وثبات على الإيمان عظيم، فكان رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو لهما في صلاة الصبح ويقول: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين. . .

ولما طال حبسهما أخذ رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو لهما كلما فرغ من صلواته ويقول: اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. .

الوليد بن الوليد بن المغيرة يقع في أسر المسلمين

ونشبت معركة بدر، ودارت الدائرة على أنصار الأصنام، فانفرط عقدهم، وفروا في فوضى واضطراب، فلحق بهم المسلمون يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً، وكان ممن وقع في أيدي المسلمين أسيراً الوليد بن المغيرة المخزومي، فقد أسره عبد الله بن جحش – رضي الله عنه -.

وعندما رأت قريش أن تفادي أسراها قدم إلى المدينة خالد بن الوليد وهشام بن الوليد يسعيان في فداء أخيهما الوليد وأخذ خالد وهشام في مساومة عبد الله بن جحش في فداء الوليد، فأبى عبد الله بن جحش إلا أربعة آلاف درهم وشكّة (1) أبيهم الوليد بن المغيرة.

وتأبى خالد أن يطوع بهذا الفداء. . . وكان الوليد بن الوليد أخاه لأبيه. .

وطاع به هشام بن الوليد. . . وكان الوليد أخاه لأبيه وأمه. . .

وتلاحى خالد وهشام. . . فقال هشام لخالد: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا أضعاف ذلك لقبلت عند ذلك سكت خالد سكوت المغلوب على أمره، ودفعت الدية الى عبد الله بن جحش. . .

إسلام الوليد بن الوليد

وخرج هشام وخالد بأخيهما الوليد قاصدين مكة، ولما وصلا ذا الحليفة أفلت منهما وأتى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وشهد بالشهادتين.

وتبعه أخواه فما أدركاه إلا وهو يعلن إسلامه أمام رسول الله – عليه السلام -، فقال له خالد معاتباً: هلا كان هذا قبل أن تفتدى وتخرج مأثرة أبينا من أيدينا فاتبعت محمداً إذ كان هذا رأيك؟

قال الوليد: ما كنت لأسلم حتى أفتدى بمثل ما افتدي به قومي، وحتى لا تقول قريش إنما أتبع محمداً فراراً من الفدى. وأمن الوليد من أذى أخويه عندما رأى ما رأى من لينهما معه، فعاد معهما إلى مكة إذ كان له هناك مال رجا أن يبيعه ثم يكر عائداً إلى المدينة.

أخوال الوليد يحبسونه

وعندما وصل الوليد إلى مكة وسمع أخواله بإسلامه عدوا عليه فقيدوه وحبسوه، ويبدو أن ذلك كان عن رضاً من أخويه هشام وخالد، وإلا فما كان لأخواله أن يفعلوا به ذلك وأخواه يأبيانه، فما كان لأحد أن يفتات عليهما وهما من هما عزة ومنعة وسيادة.

الرسول يدعو للوليد

وعندما علم رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بحبس الوليد قرنه في الدعاء مع الأسيرين قبله، سلمة وعياش، فكان يقول في صلاة الفجر من كل يوم: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف.

نجاة الوليد من الأسر

ورقت أم الوليد لابنها، وما راقها أن يحبس إخوتها فلذة كبدها، فانسلت إليه في محبسه فحلّت وثاقه وأطلقته، وأخذت تحثه على اللحاق برسول الله والمسلمين وتقول:

هاجر وليد وبع المساقة

واشتر منها جملاً أو ناقة

وارمِ بنفسٍ عنهم مشتاقة

وانطلق الوليد عائداً إلى المدينة المنورة، وانضم إلى الفئة المؤمنة فيها، مشاركاً في جهادها لإعلاء كلمة الله في الأرض.

الوليد يشكو للرسول من مرض به

كان الوليد يفزع في منامه، وربما كان ذلك مما لاقاه في أسر أخواله، فجاء إلى رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال له: يا رسول الله، إني أجد وحشة في منامي.

فقال له رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا اضطجعت للنوم فقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون. . . فإنه لا يضرك.

الوليد في عمل فدائي

التفت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى الوليد بن الوليد وسأله عن عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، فقال الوليد: تركتهما في ضيق وشدة وعنت، وهما في وثاق؛ رجل أحدهما مع رجل صاحبه.

فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن حوله: من لي بعياش وسلمة؟

قال: أنا لك بهما يا رسول الله.

قال عليه الصلاة والسلام: انطلق حتى تنزل بمكة على القين (2) ، فإنه قد أسلم، فتغيب عنده واطلب الوصول إلى عياش وسلمة. . .

وانطلق الوليد مستخفيا، فدخل مكة، ونزل عند القين، وأخذ يتحسس أخبار الأسيرين ليعرف موضع حبسهما. وخرج ذات ليلة فالتقى امرأة تحمل طعاماً، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟

قالت: أريد هذين المحبوسين.

فعرف الوليد أنها تعني صاحبيه، فانطلق خلفها وهي لا تشعر به، وما هو إلا أن رآها تدخل بيتاً فأدرك أنه المكان الذي فيه الأسيرين.

نظر الوليد إلى محبس صاحبيه فرآه لا سقف له يقيهما حر الصيف أو برد الشتاء، فأدرك مدى الشدة التي وقعا فيها والمحنة التي يعانيان منها، فقرر أن يسرع في إنقاذهما حتى يخلصهما مما هم فيه من بلاء وشدة.

انقلب الوليد مسرعاً إلى حيث مخبأه في بيت القين، فقد حرص أن لا ترتاب به المرأة التي أوصلت الطعام إلى المحبوسين، وانتظر حتى تيقّن من انصرافها، ثم استبرأ الطريق المؤدي إلى محبس الأسيرين، ثم انسل حتى أتى هذا البيت الذي لا سقف له، فتسوّره، ثم قفز إلى حيث الأسيرين، فوجدهما يرسفان في قيد من حديد، فأخذ مروة (حجراً صلداً) فوضعه تحت القيد، ثم أهوى على القيد بسيفه فقطعه. . . ومنذ ذلك الحين سمي سيفه بذي المروة.

وما أن تحرر الأسيران من قيدهما حتى نهضا وعانقا أخاهما، ثم هرع الثلاثة الى الباب فحطموه، وانطلقوا جميعاً يسلكون طريقاً غير مطروق يضللون به أهل مكة. . .

ونذر أهل مكة بالنبأ، فقد صاح فيهم صائح ممن كانوا يترددون على الأسيرين للتشفي والاستهزاء بهما: يا أهل مكة أدركوا سلمة وعياشاً فقد فرا من محبسهما. . .

وما أسرع ما انطلق خالد بجماعة من فرسان مكة في محاولة لرد الأسيرين، ولكنه لم يدركهما، فانكفأ بمن معه الى مكة، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الفشل والخيبة. . .

ولما علمت أم سلمة بفرار ابنها وبالمحاولة التي حاولها أهل مكة لرده، قالت تدعو له بالنجاة:

اللهُمّ ربّ الكَعْبَةِ المُسَلَّـمَهْ             أظهـِرْ على كلّ عَدُوٍّ سَلَمَهْ

لهُ يدانِ في الأُمورِ المُبْهَمَهْ            كَفٌّ بها يُعطى وكفٌّ مُنْعِمَهْ

ونجى الله عياشاً وسلمة والوليد، فانطلقوا يجدون في السير، يحدوهم شوق غامر للقاء الرسول وصحبه، وكلما اقتربوا من المدينة زاد شوقهم وسرورهم، فاشتدوا في السير، وبالغوا فيه، وودوا لو أنهم استطاعوا أن يركبوا الريح أو أن تكون لهم أجنحة يطيرون بها الى الأحبة محمد وصحبه.

وعثر الوليد في سيره فدميت أصبعه، فلم يبال بما أصابها، وقال:

ما أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت

ووصل ركب الثلاثة إلى المدينة، ودخلوا مسجد الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وكان لقاء.

الوليد وإسلام أخيه خالد

عندما اعتمر رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عمرة القضية ضاقت نفس خالد، فخرج من مكة حتى لا يرى مواكب المسلمين وهي تطوف حول الكعبة، وحتى لا يسمعها وهي ترفع أصواتها بالتهليل والتكبير.

وعندما اجتمعت قوافل الإسلام حول الكعبة التفت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الى الوليد بن الوليد أخى خالد وقال له: أين خالد؟

قال الوليد: يأتي به الله يا رسول الله.

قال – عليه السلام -: ما مثل خالد من جُهّل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره.

وأسرع الوليد فكتب بما قاله رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى أخيه خالد، ورغّبه في الإسلام، ودعاه لمقابلة الرسول والاستماع إليه، فكان ذلك أول دخول الإسلام إلى قلب البطل المخزومي، وسرعان ما حزم أمره وشد رحاله إلى مدينة الرسول وانضم إلى موكب النور الإلهي. .

مرض الوليد وموته

ومرض الوليد بن الوليد بن المغيرة مرضاً شديداً، وأحس بدبيب الموت يسري في جسده، وعاده رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال له الوليد: يا رسول الله، حُسِرت، وأنا ميت، فكفني في فضل ثوبك واجعله مما يلي جلدك. .

ومات الوليد من ليلته، وكفنه رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في قميصه.

ودخل رسول الله على أم المؤمنين أم سلمة، وهي ابنة عم الوليد، فنعاه إليها.

قالت أم سلمة – رضي الله عنها -: جزعت حين مات الوليد بن الوليد جزعاً لم أجزعه على ميت، فقلت: لأبكين عليه بكاء تحدث به نساء الأوس والخزرج، وقلت: غريب توفي في بلاد غربة، فاستأذنت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فأذن لي بالبكاء، فأنشأت أقول:

يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة

قد كان غيثاً في السنين، ورحمه فينا منيرة

ضخم الدسيعة ماجداً، يسمو إلى طلب الوتيرة

مثل الوليد بن الوليد ابي الوليد كفى العشيرة

فلما سمعها رسول الله – عليه السلام – قال لها: لا تقولي هكذا يا أم سلمة، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد.

وتجمعت نساء الأنصار في بيت أم سلمة، وأخذن في البكاء على الوليد، ولما ارتفعت أصواتهن ووصلت الى مسامع الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لمن حوله من الصحابة: ما اتخذوا الوليد إلا حنانا.

رضي الله عنه الوليد بن الوليد بن المغيرة ومن دخل الإسلام من ذويه بني مخزوم. . .

الهوامش

(1) شكة الوليد بن المغير هي عدته الحربية، وكانت درعاً فضفاضة وسيفاً وبيضة (البيضة: غطاء الرأس في الحرب) .

(2) القين: الحداد، ويبدو أن حداداً كان بمكة، ليس بها حداد غيره.

المصدر

كتاب: “فدائيون من عصر الرسول” أحمد عبد اللطيف الجدع، ص133-150.

اقرأ أيضا

عبد الله بن أنيس فدائي من عصر الرسول

عمير بن عدي الخطمي

جهاد السلطان بيبرس

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

التعليقات غير متاحة