لقد هاجر الرسل، وما هاجروا إلا بعد أن أوذوا وصبروا، ولم يبق من طاقة الإنسان كبشر أن يتحمل؛ لأن الإنسان مهما كان سيؤذى وربما يتحمل لكن إلى متى؟ فكانت الهجرة.

فكان من أسبابها ودوافعها: الفرار بالنفس والسلامة من القتل، ولا يكون ذلك إلا بعد الصبر والتحمل.

أسباب هجرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

هجرة إبراهيم عليه السلام

إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كم تحمل من قومه، وكم صابر مع أبيه! إلى حد أنهم جمعوا له الحطب وأوقدوا له النيران وألقوه فيها، وهو صابر لم يفر.

ويذكر ابن كثير وغيره أنهم حينما صعب عليهم إلقاءه في النار مباشرة لعجزهم وعدم استطاعتهم الدنو منها لشدة لهيبها، جاء الشيطان وأوحى إليهم بعمل المنجنيق، والمنجنيق يرمي بالثقل إلى مسافة بعيدة، إلى أن جيء بإبراهيم ووضع في المنجنيق وهو صابر، ويأتيه جبريل ويقول: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فنعم.

كلمات موجزة، وهذا كما يقولون: لكل مقام مقال؛ لأن الوقت ضيق، ولا حاجة لكثرة الشكوى ولكثرة الكلام، وكأنه يقول: علمه بحالي يغني عن سؤالي، وهل حالي خاف عليه حتى أقول له: ارحمني؟! فإنه مطلع وعالم وراءٍ، وهو يعلم.

فصبر وتحمل وقاوم إلى أقصى حد، فكانت نتيجة صبره ونتيجة اتكاله على الله: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا) [الأنبياء:69] كوني برداً ومع البرد سلام؛ لأن البرد قد يقتل، فتأتي القدرة الإلهية وتسلب النار خاصية إحراقها التي تذيب الحجر وتصهر الحديد؛ لأن الذي خلق إبراهيم وخلق النار واحد، وهو الذي أعطاها قوة الإحراق واللهيب وهو الذي يسلبها منها، بعد هذا خرج هو وسارة وكانت قضيتهما طويلة.

هجرة موسى عليه السلام

نأتي إلى موسى عليه السلام، فإنه لما خرج إلى المدينة، وجد واحداً من شيعته وآخر من عدوه يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته، فضربه فقتله، ثم خرج وقابل الرجل الصالح أو النبي شعيباً، وتزوج ثم رجع، وجاء وكان من أمره أن الله سبحانه وتعالى في عودته يناديه ويناجيه ويبعثه إلى فرعون، فماذا كانت النتيجة؟ فرعون يذبح الأبناء ويستحيي النساء من قبل، والجو جو قاتل، وجاء موسى بالآيات، ولكن فرعون كابر أمام تلك الآيات (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) [النمل:14]، فما كان من موسى عليه السلام وبني إسرائيل وقد أدركهم الضغط والتعذيب والتشريد والإيذاء من فرعون وجنوده إلا أن أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، فخرج، فماذا كانت النتيجة؟ البحر أمامهم وفرعون يكاد أن أدركهم، فيقول أصحاب موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61]، ولكن موسى موقن بالله، فقد خرج بأمر من الله، وهو يعلم بأن الله لن يتخلى عنه (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) [الشعراء:62]، وما دام معه ربه فلم يخاف من فرعون؟ ولم يخش البحر؟ (سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]، أي: يرشدني ماذا أعمل؛ لأن قوة موسى أمام قوة فرعون ليست بشيء.

أيضاً تأتي المعجزة والقدرة الإلهية فتتدخل، فأوحى ربك إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء:63] (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) [طه:77] الماء الرجراج السيال، البحر المتلاطم، فيجمد الماء ويصير طرقاً، والأرض يابسة، وبنو إسرائيل كلهم اثنا عشر سبطاً، كل سبط لهم طريق مستقل يسيرون فيه، والطود الذي بين هذا الطريق وذاك الطريق فيه نوافذ حتى يطمئنوا على بعض، ولا يحدث قلق.

صار الماء جامداً وفيه نوافذ، والذي سلب النار إحراقها سلب الماء سيلانه وأعطاه خاصية اليبوسة والجمود، وترك الطريق لفرعون ولمن جاء، وأغراه الشيطان فدخل، وكانت النتيجة إهلاك فرعون.

أسباب الهجرة النبوية

إذاً: الرسل هاجروا، وما هاجروا إلا بعد أن أوذوا وصبروا، ولم يبق من طاقة الإنسان كبشر أن يتحمل؛ لأن الإنسان مهما كان سيؤذى وربما يتحمل لكن إلى متى؟ فكانت الهجرة.

هجرة المؤمنين هرباً من إيذاء المشركين

أيضاً من أسباب الهجرة ودوافعها في الإسلام: إيذاء المشركين للمؤمنين، وكلنا يعلم ما كان عليه بلال وصهيب وعمار وآل ياسر: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).

بلال يؤتى به في الصحراء في القائلة، في شدة الحر على الرمضاء، لا تقدر أنت أن تمسها بقدمك، ويجرد هو ويطرح عليها، ويؤتى بصخرة حارة وتلقى على بطنه، ويقال له: ارجع عن دين محمد، فيقول: (أحد أحد).

ما الذي كان يقيه هذا الحر؟ ويحمل عنه هذه الصخرة؟ إيمانه بالله ويقينه، كما قال هرقل لـ أبي سفيان: أيرجع أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: هكذا بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب.

أي: الإيمان إذا خالط القلوب فلا يمكن أن ينزع، ولا تقدر أن تخرجه.

فاشتد إيذاء المشركين للمسلمين، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما سلم من إيذائهم، فقد كانوا يعتدون عليه، ويأتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويدافع عنه، وفي بعض المرات جاء أبو بكر يقول: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) [غافر:28]، فتوجهوا إلى أبي بكر وأخذوا يضربونه حتى صرع، وأغمي عليه من كثرة الضرب، الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة، وعندما يسجد يأتي أشقاهم ويقول: إن بني فلان نحروا جزوراً اليوم فليذهب أحدكم ويأتي بسلا الجزور ويضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.

وفي بعض كتب السيرة: أنه وضع قدمه على رقبته وهو ساجد، والمولى يمهله، ويذهب الذاهب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويخبرها، وتأتي فترفع الأذى عن كتفيه.

عثمان بن مظعون كان في جوار رجل من سادات المشركين، فكان يمشي في مكة ويأتي إلى الكعبة، فيرى إخوانه المستضعفين يعذبون من قبل صناديد قريش، فحز هذا في نفسه، قال: أنا أنعم بالطمأنينة والأمن بجوار رجل مشرك وإخواني يعذبون؟! انظروا المروءة والإحساس: أنا آمن وأنعم في أمن رجل مشرك وإخواني في العقيدة يعذبون! ما دام أننا إخوان في العقيدة فيجب أن نكون إخواناً في كل شيء، فذهب للذي أجاره وقال: يا فلان جزيت خيراً، جئت أرد عليك جوارك، قال: لماذا يا ابن أخي، هل آذاك أحد؟ هل تعرض لك أحد؟ قال: لا، ولكني رأيت نفسي أنعم في جوارك وإخواني يعذبون فأردت أن أكون معهم، قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد أن ترد علي جواري فائت علانية في نادي قريش كما أجرتك علانية في نادي قريش، فجاءه في نادي قريش وقال: يا أبا فلان! وفت ذمتك؛ إنك لوفي كريم، ولكني أريد أن أرد إليك جوارك، قال: يا ابن أخي إنك في مأمن، وما السبب؟ قال: أردت أن أكون مثل إخواني يصيبني ما يصيبهم، قال: قبلت.

وخرج من عنده، ويمر بناد من أندية قريش وفيهم لبيد الشاعر المعروف ينشدهم الشعر فجلس، فقال لبيد كلمته المشهورة: ألا إن كل شيء ما خلا الله باطل فقالوا: صدقت.

ثم أكمل البيت: وكل نعيم لا محالة زائل قال له: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، الشاعر يقول ذلك على مقتضى قياس الدنيا؛ لأنه لا يؤمن بالجنة ولا بنعيمها، فالشاعر صادق في معتقده، والناقد للشعر أو للمقالة أو للكلمة يجب أن يراعي جميع الملابسات من كل جهة، ولكن الذي رد عليه لم ينظر من نفس الزاوية وبنفس الفكر الذي نظر به الشاعر، بل بمنظار جديد ألا وهو منظار الإيمان باليوم الآخر؛ فلما رد عليه وقال: كذبت! قطع الشاعر الشعر وقال: ما هذا يا معشر قريش! والله ما سبق أن أحداً رد على قولي قبل اليوم، وجعلها إهانة كبيرة جداً في حقه.

وكانت الشعراء في السابق لهم الكلمة، وكأنه وزير الإعلام في الدولة، وكانت القبيلة تفخر بنبوغ شاعر أو ظهور فارس، لأن هذا يدافع عنها بالكلمة، وهذا يدافع عنها بالقوة، فيحميانها باللسان والسنان.

فقام رجل حمية ولطم عثمان رضي الله عنه على عينه فخضرها، وذلك لأن الكدمة تجعل الدم يحتبس تحت الجلد، فإذا احتبس الدم تحت الجلد اخضر الجلد، ثم بعد زمن يتشرب الجلد الدم، وكان الذي أجاره موجوداً فقال: والله يا ابن أخي لقد كنت في غنىً عن هذا، قال: لا والله! لعيني الأخرى في حاجة لمثل ما أصاب أختها! ما هؤلاء الرجال؟! يضرب على عينه ومجيره يقول: (لقد كنت في غنىً عن هذا، فيقول له: لا، إن عيني السليمة في حاجة لمثل ما أصاب هذه)، وذلك لأنه يعلم أنه أوذي في سبيل الله.

فوقع رضي الله عنه في الشدة والتعذيب مع المسلمين، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان في جوار عمه أبي طالب، وقد أعلنها: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً فكان عنده من يحميه، وأما المسلمون فلم يكن عندهم من يحميهم، فأشفق عليهم ووجههم للهجرة إلى الحبشة.

حصار قريش للمسلمين

توفي عم النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت خديجة رضي الله تعالى عنها.

كانت الشدة التي وجدت في مكة حينئذ لم يسبق لها نظير في العالم، فقد تآمرت قريش على بني هاشم خاصة ليقاطعوهم، وكتبوا الصحيفة الظالمة في خيف بني كنانة، وفيها: لا نزوجهم ولا نتزوج منهم، ولا نبيعهم ولا نبتاع منهم.

فوقع عليهم حصار اقتصادي واجتماعي، وانحصروا في الشعب، هل هناك مضارة أكثر من هذا؟ يقول ابن هشام وغيره: حتى إن بعضهم كان يأكل ورق الشجر خديجة التي كانت ذات أموال طائلة لا تقدر أن تحصل على شيء منها، وكان الرجل يأتي في ظلام الليل إلى فم الشعب بالبعير عليه الطعام ويضربه لينطلق في الشعب! والحصار الاقتصادي من أشد ما يكون على الناس، سواء كان على الأفراد أو الجماعات أو الأمم؛ لأن الإنسان -كما قيل- مدني بطبعه، وقانون الحياة مبناه على المعاوضة، فلو صدق المسلمون في استخدام هذا الحصار لنجحوا، وهو أشد سلاح.

لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وجاء الثلاثة الذين خلفوا يعتذرون، أوقع عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حصاراً، فمنع الناس من الكلام معهم، ثم أمرهم أن يرسلوا زوجاتهم إلى بيوت أهاليهن، قال كعب بن مالك: (أتيت إلى ابن عم لي في بستانه فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام! فقلت له: هل أنا مؤمن أو منافق؟ فما رد علي، فقلت: أتعلم أني أحب الله ورسوله، أم لا؟ فما رد علي، فكانت هذه أشد علي من غيرها.

ابن عمه لا يرد عليه حتى السلام! فالكل قاطعهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما حكى الله عنهم.

إذاً: حينما يفرض حصار على أمة، ويشدد هذا الحصار، فهو أصعب ما يكون عليها؛ لأنك تعطل فيها الجبلة الإنسانية؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، وأنت تقطع عنه هذه المدنية، وتجعله في ضيق شديد، لا يحيا حتى كما يحيا الحيوان، فالحيوان يمكن أن يأكل من أي شيء، لكن إذا منعته المرعى والماء أصبح في طريقه إلى الموت.

كتبت الصحيفة، وقوطع بنو هاشم، وكان البلاء أشد ما يكون على المسلمين، ولما أراد الله إظهار معجزة لرسوله، جاء الرسول إلى عمه وقال: (يا عم! إن الصحيفة التي كتبوها سلط الله عليها الأرضة!).

وفي بعض الروايات: (فأكلت منها لفظ الجلالة!)؛ لأن الصحيفة ظالمة، ولا ينبغي أن يكون لفظ الجلالة في صحيفة ظالمة.

وفي بعض الروايات: (فأكلتها إلا لفظ الجلالة) لأن لفظ الجلالة محترم، ولا تسلط عليه الأرضة، على كل سلط الله الأرضة على الصحيفة، والأرضة هي: حشرة دون النمل الأبيض كما يقولون، فأكلت الصحيفة، وميزت بين لفظ الجلالة وبين غيره، سواء أكلته أو تركته.

فجاء أبو طالب إلى سادات قريش وقال لهم: الآن أفصل بينكم وبين محمد: لقد أخبرني محمد عن الصحيفة بكذا، فافتحوا الكعبة وانظروا فيها الصحيفة فإن كان صادقاً فعليكم أن ترجعوا عن المقاطعة وعليكم أن تنقضوا الصحيفة، وتعلموا أنكم ظالمون في ذلك، وإن كان كذب فيما قال أسلمتكم إياه، وشأنكم به.

وتآمر معهم أيضاً أربعة نفر من الكفار بالليل، فقالوا: كيف نقاطع أبناء عمنا وأرحامنا وأقاربنا، نحن نأكل ونشرب مع زوجاتنا وهم جائعون! فاتفقوا على الدعوة إلى نقضها، وأبو طالب لا يدري ما خبرهم، وهم يدرون عن خبر أبي طالب.

وفي الصباح جاء واحد من هنا، وواحد من هنا، بطريقة منظمة، وقام أحدهم وقال: يا معشر قريش! ما هذه الصحيفة التي كتبناها على بني عمومتنا، إنها لصحيفة ظالمة، ولا ينبغي أن تستمر، فقام الثاني وقال: نعم، إن هذا الحصار لباطل، وقام الثالث من هناك وقال: نعم، هذا الكلام الذي قالوه حق، ونحن لا نرضى بالصحيفة، وقام الرابع فقال مثل مقالتهم، فقال أبو جهل وكان داهية: هذا أمر دُبِّر بليل، أي: ليس وليد الساعة، بل هذا أمر متفق عليه من قبل، فلما قالوا تلك المقالة؛ قام أبو طالب وقال: أنا أكفيكم المهمة، لقد أخبرني ابن أخي بأن الصحيفة سلطت عليها الأرضة، وأخبرني بكذا وكذا، فقاموا إلى الصحيفة فوجدوها كما قال صلى الله عليه وسلم، فانفك الحصار.

قبل الهجرة وقعت شدائد، منها تعذيب الضعفاء: كـ بلال وعمار وياسر وأم عمار، وعندما توفي أبو طالب وتوفيت خديجة اشتد عليهم الأمر وقالوا: هذه سنة الشدة؛ لأن الأمر اشتد فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه المشركون بما لم يكونوا يجرءون عليه من قبل.

وفي هذه السنة ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان من أمر الطائف ما ذكرنا من قبل، ثم رجع ودخل في جوار رجل مشرك، له أبناء أربعة، فأخذ يطوف مع رسول الله ويعلن جواره له، وأبناؤه بالسلاح عند أركان البيت، وجاء أبو سفيان لما رأى هذا المنظر، فقال له: أمجير أم تابع؟ أي: أنت تطوف مع محمد، فهل اتبعته وصرت معه تناصره علينا، أم أنت ما زلت مشركاً معنا وإنما أجرته؟ قال: بل مجير، يعني: وهو لا زال مشركاً، فقال: قد أجرنا من أجرت.

وكان دخوله صلى الله عليه وسلم في جوار رجل مشرك عين الحكمة، ولم يدخل في جوار مسلم حتى لا تكون القضية قضية حماس وحمية، وتقوم حرب أهلية في مكة، والمسلمون في قلة لا يمكنهم أن يقابلوا المشركين، ولو قاتلوهم حينئذ لانتهت الدعوة.

تآمر المشركين على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم

ثم تآمرت قريش بكاملها على الضربة الأخيرة، فقد عجزوا عن رسول الله، وبعض أصحابه قد ذهبوا إلى الحبشة، ولم يبق معهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة ليتآمروا في ذلك.

وعند اجتماعهم طُرِق عليهم الباب، فإذا بشيخ يرتدي ثياب أهل نجد فقالوا: من أنت وماذا تريد؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، علمت باجتماعكم ولن تعدموا مني رأياً، فسمحوا له بالدخول، وكانوا يعرفون أن أهل نجد أهل رأي ومشورة، وكان هذا شيطاناً في صورة إنسان، فقال: علمت أنكم اجتمعتم من أجل محمد، قالوا: نعم، قال: ماذا عندكم؟ قال واحد منهم: نحبسه ونقيده ونتركه حتى يموت، وقال آخر: نخرجه بعيداً عنا ونستريح منه، فإذا بهذا يقول: كل هذه آراء غير سليمة، فقال آخر: نقتله ونستريح، قال: بنو هاشم لا يتركون دمه، وإذا أنتم حبستموه فسيأتي بنو هاشم ويخلصونه، وإن أنتم أخرجتموه فبحلاوة كلامه وطلاوة لسانه سيألب الناس عليكم، ثم يعود ويغزوكم بمن معه، وإن قتلتموه قاتلتكم بنو هاشم، قالوا: ما هو الرأي عندك؟ قال: الرأي عندي أن تندبوا عشرة شباب من عشرة قبائل، ويبيتونه على باب بيته، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن تقاتل القبائل كلها، فإذا تفرق دمه في القبائل فسيقولون: نريد دم ولدنا، فتقولون: نحن كلنا قتلناه، فيتركون طلب القصاص، ويرضون بالدية، والدية دية واحدة، قالوا: هذا هو الرأي.

قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30] يثبتوك أي: يحبسوك، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) صفة المكر من حيث هي مجردة هي صفة ذم؛ ولكن عندما تقول: فلان مكر بفلان، لكن فلان كان أمكر منه، يكون هذا من المدح، أي: كان أذكى منه، وكان أقدر منه على المكر، فتصير صفة مدح للثاني؛ لأنه أبطل مكر الأول، وهنا يقول علماء الكلام وعلماء البلاغة: هذا من أسلوب المشاكلة، ولذا أجمع علماء الكلام على أنه لا يجوز أن تسمي الله بالماكر؛ لأنه قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) في مقابل.

(ومكروا)، لا تقلها وحدها، بل قلها مع أختها، حتى يتبين الفرق ويتبين فيها المدح.

اتفق المشركون على ذلك، فماذا كانت النتيجة؟ رب العزة لم يتخل عن رسوله، وجاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تبت في فراشك الليلة) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ينام مكانه، وخرج صلى الله عليه وسلم تحت ظلال تلك السيوف، وهو يقرأ قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس:9]، وكانوا عشرة قد ألقى الله عليهم النعاس، وكانوا واقفين مستندين على الجدران، والسيوف في أيديهم، فمر من أمامهم ولم يره أحد منهم، ولم يخرج ويتركهم في حالهم، بل أخذ التراب من تحت أقدامهم وجعله على رءوسهم، زيادة في إذلالهم، واعتزازاً بدين الله، وبتأييد الله له.

إن إيذاء المشركين للمسلمين جعلهم يهاجرون، والإيذاء كما وقع على أفراد المسلمين، كذلك وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ذلك الإيذاء التآمر على قتله!

لم تكن الهجرة هروباً بدون موجب، ولا خروجاً بدون صبر، بل تحملوا وصبروا إلى أقصى ما يمكن، عثمان بن مظعون الذي قال: إن عيني السليمة في حاجة إلى ضربة مثل الثانية، هل يوجد صبر أكثر من هذا؟ وآخر يطرح في الصحراء في الرمل الحار وتوضع الصخرة عليه ليرجع عن الدين فيقول: (أحد، أحد) وأم عمار تُغرّق في الماء وتعذب، ثم تقتل بالحربة بطعنة في فرجها! فصبروا إلى ما لا نهاية، وبعد هذا جاء الفرج.

المصدر

كتاب: “دروس الهجرة” عطية بن محمد سالم، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

اقرأ أيضا

من إلهامات الهجرة

العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها

حياة الأنبياء عليهم السلام .. الغربة المعاصرة وسنن التغيير

سنة الابتلاء في حياة الأنبياء ومن سار على دربهم(1)

التعليقات غير متاحة