إذا كان البلاءُ سُنةَ اللهِ تعالى في حياة الناس كافة، فإن أصحاب الرسالات خاصة أشدُّ تعرضاً للبلاء، فهم ينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل، ويهْدون إلى الخير فيعاديهم أنصار الشر، ويأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر، وبذلك فهم يحيون في دوامة الابتلاءات والمحن، فتلك سُنَّة الله تعالى.

التعرض للأذى والصد عن سبيل الله عز وجل من قبل أعداء الدعوة وأنصار الباطل

يعد هذا المعلم من الثوابت في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل إنه سنة من سنن الله سبحانه في عباده المؤمنين؛ فما من نبي ولا داعية مخلص إلا وتعرض للأذى والاستهزاء ووقوف المفسدين في طريق دعوته يصدون عنها ويشوهونها ويؤذونه بصنوف الأذى والابتلاء، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34]، ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل ابن عم خديجة رضي الله عنها وأخبره بما رأى في غار حراء من نزول الوحي قال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم»، قال نعم . لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا)1(1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي الحديث رقم (3)..

الابتلاء من السنن الربانية

إذن فالأذى والصد عن سبيل الله عز وجل من قبل أنصار الباطل هو من السنن الثابتة في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبالتالي في كل دعوة خير وإصلاح على مدار التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإن إدراك هذا المعلم وهذه السنة مهم جدا للمصلحين وأنصار الحق في دعوتهم إلى الله عز وجل، وذلك حتى يتم توطين النفوس على هذه السنة والاستعداد لها بالصبر واليقين والاستعانة بالله عز وجل، وأن لا يستغرب الدعاة إلى الله تعالى هذه السنة ويفاجأوا بها؛ فيحصل ما يحصل عند البعض من اليأس أو الخوف أو وهن العزيمة وإيثار السلامة.

ابتلاءات وشدائد وتمحيصات في حياة الأنبياء

ونستعرض الآن بعض صور الأذى والصد عن سبيل الله عز وجل والتي تعرض لها أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وذلك حتى يعلم الدعاة في هذا الزمان وفي كل زمان أن لهم أسوة من الأنبياء في ما يتعرضون له من أذى وصد عن سبيل الله عز وجل فيقتدون بصبرهم، ويهتدون بهديهم ، ويتسلون بما أصابهم. وسأحاول إن شاء الله تعالى عقد التشابه بين صور الصد والأذى في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين تلك الصور التي يتعرض لها دعاة الخير وأنصار الحق في كثير من بلدان المسلمين اليوم. ومن هذه الصور ما يلي:

١-  السخرية من أنبياء الله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام ورميهم – من قبل الباطل – تارة بالسحر، وتارة بالجنون والسفاهة وتارة بالكذب والضلالة.

والشواهد من القرآن على هذا كثيرة منها:

قوله تعالى عن قوم نوح عليه السلام: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الأعراف: 60].

وقال عز وجل عن قوم هود عليه السلام: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الأعراف: 66] .

وقال تعالى عن مشركي العرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: 5] وقال عز وجل مخبرا عن هذا الموقف الموحد من المشركين مع أنبيائهم عليهم السلام: ﴿كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾[الذاریات: 52-53].

وصدق الله العظيم، فإن هذا الأسلوب الرخيص من الأذى والسخرية يتكرر في كل زمان يتواجه فيه الحق والباطل؛ حيث نجد سخرية الطواغيت وأتباعهم من أهل الحق وأتباع الأنبياء فيرمونهم بسفاهة العقل، وسذاجة التفكير، وسطحية الرؤية .. إلخ هذه التهم التي يقذفونهم بها زورا وبهتانا ويملأون بها وسائل إعلامهم المختلفة؛ ليشوهوهم عند الناس وينفروهم منهم. وذلك ما تطفح به الصحف الخبيثة بأقلام أعداء هذا الدين من علمانيين وغيرهم؛ فهذا أحدهم يستهزئ في مقال له بالحجاب، ويصف عقول الداعين له بالانحطاط الفكري، ويصف من يدعو إلى ترك نحت التماثيل والصور المجسمة خوفا من عبادتها والرجوع إلى الوثنية، بأنه ذو عقل خرافي. ويصف كاتب آخر علماء الإسلام بضيق الأفق والهمجية.. إلى غير ذلك من الترهات والمسائل الجاهلية التي واجه بها المشركون الأولون أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام. فما على دعاة الحق الا أن يصبروا ويهتدوا بهدي سلفهم الكريم من الأنبياء والمرسلين الذين واجهوا مثل هذا الأذى بل أشد.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأنعام: 34].

۲- اتهام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم بأنهم طلاب دنیا وملك وليسوا مخلصين فيما ينادون به.

ومن ذلك: قوله تعالى عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا: ﴿ … مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ… ﴾ [المؤمنون : 24].

وقوله تعالى عن فرعون وقومه مع موسى وهارون عليهما السلام: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 78].

وقوله تعالى أيضا عن مقولة فرعون لموسى عندما رأى معجزة العصى: ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ﴾ ]طه: 57].

هذا ما يقوله الأفاكون عن صفوة الناس ، وأزهد الناس، وأخلص الناس لرب العالمين!!!، لكنه الأذى، ولبس الحق بالباطل، وإثارة الدهماء على أنصار الحق بمثل هذه الافتراءات التي يعلم أصحابها أن الأنبياء وأتباعهم أبعد ما يكونون عنها. وهذا الأسلوب الاستهلاكي الرخيص هو نفسه الذي يتبع من أعداء الحق في كل زمان ومكان؛ فكم سمعنا وقرأنا عن مثل هذه التهم الباطلة التي يروجها زنادقة العصر بوسائلهم الإعلامية المختلفة من أن الدعاة إلى الله عز وجل والمنادين بتحكيم شرعه يستترون بالدين لمآرب يخفونها، أو أنهم طلاب حكم وسلطة فحسب !!! وكم تردد في وسائل الإعلام الظالمة في أكثر بلدان المسلمين مثل هذه الافتراءات، وهذه تهويشات يراد منها التشويه وإثارة دهماء الناس على أهل الخير ودعاة الحق. وهي بعينها تلك التي قالها الجاهليون الأولون لأنبيائهم من قبل.

يعلق الشيخ العدوي على قول الملأ من قوم فرعون: ﴿… وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ… ﴾ [يونس: ۷۸]. فيقول : (وهذه الكلمة من ملأ فرعون هي إذكاء لشعور الرفعة وأبهة السلطان، وتأريث للعداوة والبغضاء لموسى وصاحبه؛ لأنه يحاول بعمله هذا أن يسلب فرعون ملکه، ويقضي على نفوذه وعظمته، وهي دسيسة خبيثة دنيئة ألفناها من بطانات الرؤساء، وتعودناها من حواشي السوء إذا كرهوا رجلا دسوا عليه تلك الدسيسة، واتهموه بتلك التهمة؛ لأنهم يعلمون أن الرؤساء لا تتأثر بشيء تأثرها بما يمس سلطانها، ويتعلق بسلطانها، فإذا لقنوهم تلك الكلمة فإنهم لا يناقشونهم فيها، ولا يطلبون عليها دليلا ولا شبه دلیل من ذلك المبلغ الدساس، وهي طبيعة من طبائع التسلط وخلق من أخلاقه لا تخص رجلا دون آخر ولا تتعلق بجيل دون جيل. .

وقد يعلم ملأ فرعون أن موسى عليه السلام وأخاه هارون لا يريدان ملكا وإنما يريدان إصلاحا في الأرض وإنقاذا لبني إسرائيل من بطش فرعون وظلمه، ولكن بطانات السوء تأبى إلا أن تظهر المصلح بتلك الصورة التي من شأنها أن يطير لها لب فرعون ومن على شاكلته من الظلمة المستبدين، لذلك لجأوا إلى تلك الدسيسة: دسيسة أنهما يريدان ملكا ولا يريدان رسالة)2(2) دعوة الرسل. محمد العدوي ص 221 (بتصرف)..

٣- اتهام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالفساد والإفساد وإثارة الفتن .

ويتضح هذا جليا من قوله تعالى عن المقولة الجائرة لفرعون اللعين:

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26]، وقال تعالى عن الملأ من قوم فرعون: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ  …﴾ [الأعراف: 127].

يعلق صلاح الخالدي على آية غافر فيقول:

(ما هي الأسباب التي سيقدمها فرعون إلى قومه؟ ويبرر بها قتل موسى؟ إنها في قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾.

هما سببان: الأول: الحفاظ على الدين ، فموسى عدو للدين، وفرعون حريص عليه. الثاني: الحفاظ على الأمن فموسى ضد الأمن وفرعون هو حامي الأمن!!!

فرعون الكافر، الذي قال لقومه: ﴿أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى﴾ وقال لهم: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ أصبح غيورا على الدين، حارسا له من التغيير والتبديل الذي يتهدده على يد موسی!!! وفرعون المفسد بطغيانه وكفره المخرب بتجبره وتكبره أصبح داعية إصلاح وخير وأمن ورفاه !!!

وهذا التعليل الفرعوني هو الذي يلجأ إليه الظالمون في محاربة الحق وأهله؛ يقدم الظالم نفسه للناس على أنه: المؤمن المتدين، الحريص على الإيمان، الحريص على الفضائل، الغيور على الأخلاق، الراغب في التعمير والتقدم والأمن والازدهار. بينما يقدم هذا الطاغية الدعاة إلى الله على أنهم: مفسدون مخربون، ضالون مضلون، أعداء الله والأمة والوطن، وحلفاء الشيطان ورؤوس الفتنة، ودعاة الضلال، ولهذا يجب القضاء عليهم قبل تحقيق أهدافهم الشيطانية)3(3) مع قصص السابقين صلاح الخالدي ص 104، 105 (بتصرف يسير)..

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالی عند هذه الآية:

(أليست هي بعينها كلمة كل ظالم مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟

إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان على توالي الأزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مکرورة، تعرض بين الحين والحين)4(4) في ظلال القرآن ( 5/3087 ) (بتصرف يسير)..

ألا ما أشبه الليلة بالبارحة، ألا ما أشبه مقولة الصادين عن سبيل الله عز وجل في هذا العصر بمقولة إخوانهم الجاهليين الغابرين. إنها نفس التهم والأباطيل لكنها تلبس في عصرنا لبوس يفتن السذج من الناس . كيف لا وقد جندت لها وسائل الإعلام ومکر الليل والنهار الذي لا يفتأ يصف دعاة التوحيد والخير والصلاح بأنهم أصحاب فتنة، ودعاة إرهاب وتطرف وفرقة .

إن مما يعزي الدعاة إلى الله عز وجل ويصبرهم على هذه التهم أنها قيلت لسلفهم الطاهر من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله عز وجل.

الهوامش

(1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي الحديث رقم (3).

(2) دعوة الرسل. محمد العدوي ص 221 (بتصرف).

(3) مع قصص السابقين صلاح الخالدي ص 104، 105 (بتصرف يسير).

(4) في ظلال القرآن ( 5/3087 ) (بتصرف يسير).

اقرأ أيضا

تاريخ الأنبياء .. وسنن الصراع بين الحق والباطل

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

التفكر في سِيَر الأنبياء .. والنظر في أيام الله

 

التعليقات غير متاحة