إن الجهاد شرع لأمن البشرية وخيرها، وأمنها وإنقاذها من استعباد الطواغيت لها، وما يترتب على ذلك من ظلم وإرهاق وشقاء في الدنيا والآخرة.
مقدمة
(والأمة الإسلامية مكلفة أن تنشر التوحيد في العالم، وأن ترفع الظلم والفتنة عن الناس، وتمتعهم بالعدل، والأمن والسلام بكل صنوفه: سلام الفرد، وسلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع ثم سلام الإنسانية في النهاية …
وهذه الخطوط تصور طبيعة السلام العالمي في الإسلام، فليس هو سلاما بالمعنى الضيق أي تجنب القتال بأي ثمن، وأيا كانت الأسس التي يقوم عليها ترك القتال. إن هنالك سلما رخيصة دنية، هي السلم التي تقام على حساب البشرية، وعلى حساب المبادئ العليا للإنسانية، كما أرادها الله في الأرض لبني الإنسان، وهذه هي السلم التي يحذر الله المسلمين منها: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد:۳۵ ] الأعلون لأنكم تمثلون الصورة العليا للحياة، والتي لابد لها من النصر حين يؤمن الناس بها لأنها من كلمة الله: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:۷ ]، ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40-41 ]1(1) انظر: السلام العالمي والإسلام (بتصرف يسير) ص 172-173. .
الجهاد أهداف وغايات
لقد انتضى الإسلام السيف، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل. لا ليكره أحدا على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد.
الحفاظ على العقائد كما الأرواح
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى، والفتنة التي كانوا يسامونها؛ وليكفل لهم الأمن على أنفسهم، وأموالهم، وعقيدتهم. وقرر ذلك المبدأ العظيم ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ . فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم. وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدافع عن عقيدته ودينه.
وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون. يسامون الفتنة عن عقيدتهم، ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى. وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة، ما ترك إسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها! كما شهدت بیت المقدس، وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها، والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها، فانتصروا فيها؛ وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم. وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية في أنحاء من الأرض شتى. وما يزال الجهاد مفروضا عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقا مسلمين!
إزالة الحواجز أمام حرية الاختيار
وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة – بعد تقرير حرية العقيدة – فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقی نظام لتطوير الحياة. جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها. فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولا إكراه في الدين . ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة؛ كما جاء من عند الله للناس كافة. وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا، وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتفتن المهتدين أيضا، فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية؛ وليقيم مكانها نظاما عادلا يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة. وما يزال هذا الهدف قائما، وما يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين!
إقرار حق التشريع لله وحده
وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه. وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها. فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع، إنما هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع ، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء. فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذا لشريعة الله، موکلا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ. حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء، لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد!
هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام. وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته. ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ.
إقامة نظام وإقرار منهج الله في الأرض
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه. وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية، ويزاولون فيها وظيفة الألوهية – بغير حق – ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء. ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض، ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة. لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية. أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار. وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم؛ والإسلام يقوم عليهم يحميهم، ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم، في حدود ذلك النظام.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ۱۹۳].. فلا تكون هناك ألوهية للعبيد في الأرض، ولا دينونة لغير الله.
ألا فارفعوا رؤوسكم واعتزوا بدينكم
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة؛ ولم ينتشر بالسيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه! إنما جاهد ليقيم نظام آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا. ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته…
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:۲۵6] .. نعم ولكن: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: 60]..
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم؛ فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع؛ إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا، وعلى نظم الأرض جميعا، وعلى مذاهب الأرض جميعا. ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله؛ والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي؛ والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به؛ والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت. وإلى أن ترشد البشرية وتعقل، يجب أن يطارده المؤمنون، الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله) 2(2) في ظلال القرآن 2/294-299 (باختصار)..
خاتمة
وبعد فقد وضحت الغاية من الجهاد في الإسلام، وأنه يهدف إلى إنقاذ البشرية مما هي عليه من الكفر والظلم، اللذان هما مصدر الخوف والشقاء، وانعدام الأمن، ويرهب أعداء الله عز وجل الذين هم في الحقيقة أعداء البشرية وأعداء أمنها، ويزيلهم من طريق الحق والأمن والسلام، لينتشر التوحيد في الناس.
الهوامش
(1) انظر: السلام العالمي والإسلام (بتصرف يسير) ص 172-173.
(2) في ظلال القرآن 2/294-299 (باختصار).
اقرأ أيضا
العدل والتوازن في الجهاد في سبيل الله
نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد
الجهاد في الإسلام: أحکام وآداب