الدول والحكومات قسمان: دولة شعارها الجباية، ودولة شعارها الهداية، وكل لها طابع خاص ونفسية خاصة، ورجال ممتازون، ولكل نتائج متميزة.

دولة الجباية غايتها جمع الأموال وزيادة الأرباح

فميزان الأشياء ومناط الاحكام في دولة الجباية هو تضخم الميزانية وكثرة الدخل والإيراد، ورفاهية رجال الحكومة واحتفال الحضارة وزهو المدنية، وإن كان ذلك بامتصاص دماء الفقراء، وشقاء الفلاحين والعملة، والضرائب المجحفة والمكوس المرهقة، فلا يعني هذا الضرب من الحكومة إلا بما يزيد في مواردها وماليتها، وبما يهيئ لها أسباب الفخار والزينة والأبهة، بما يهيئ للأمراء والوزراء، وأبنائهم وأبناء أبنائهم، والمتصلين بهم ورجال الحكومة وأسرهم وخدمهم أسباب الترف والتنعم والبذخ، وبما يبنون به قصورا فاخرة، ويشترون به أملاكا واسعة، في داخل البلاد وخارجها.

تغفل هذه الحكومة تربية الجمهور الدينية والخلقية، وتعطل الحسبة والرقابة على الأخلاق والنزعات، وتتغافل عن كل ما ليس بسبيلها، وما لا يجر عليها فائدة مالية أو قوة سياسية، وقد تبيح منكرا أو محرما إذا كانت تجني منه نفعا، وتحرم مباحا إذا كانت تخاف منه خطرا سياسيا أو خسارة مالية، ولا يزال الجشع والنهامة للمال تدفعها وتزين لها خطتها، حتى تفرض ضرائب على العبادات، وعلى الموت والحياة، وهكذا تتحول من حكومة ساهرة على مصالح الجمهور وراحتهم ومن مربية وحارسة للأمة، إلى شركة تجارية كبيرة لا يهمها إلا جمع الأموال وزيادة الأرباح.

دولة الإسلام: شعارها الهداية والإصلاح، لا الجباية والكفاح

أما الدولة التي شعارها الهداية، فمهمتها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعيارها تحسن أخلاق الجمهور، وسمو روحهم وتحليلهم بالفضائل وإقبالهم على الآخرة، وزهدهم في الدنيا والقناعة في المعيشة، واجتنابهم المحرمات والمعاصي، وتنافسهم في الخيرات، ولو كان ذلك على حساب ميزانيتها وخسارة ماليتها، فتنصب الوعاظ، وترسل الدعاة، وتشجع الحسبة، وتمنع الخمور، وتنكر على الفجور، وتحرم الملاهي والمعازف، وتطارد المستهترين والخلعاء، وتمنع كل ما يفسد على الناس عقيدتهم وأخلاقهم، ويفسد الحياة المنزلية، وتغص في حكمها المساجد، وتقفر الحانات، ويزدهر الدين والتقوى، وتضمحل المعاصي والجنايات، ويقوم أهل الدين والصلاح وينشطون ويتحمسون، ويتوارى الفجار والملحدون وينكمشون، ويكون ما وصفه الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض: أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41].

الفروق الواضحات بين رجال حكومة الهداية وحكومة الجباية

يمتاز جهاز حكومة الهداية بأسره عن جهاز حكومة الجباية بأسره، يمتاز عنه في النزعات والروح، والسيرة والمعاملة والسلوك، فنرى في الأول التطوع والاحتساب، وروح الخدمة والإيثار، والأمانة والتضحية والوفاء، بينما نرى في رجال حكومة الجباية معاكسة القانون ورجاله والاجتهاد في معاجزته والتفلت منه، والكبر والتجبر، والأثرة والخيانة، والنفاق والزور، وفشو الرشوة إلى حد يدعو الإنسان بين الركن والمقام أن لا يبتلى منهم، فلا ينال الإنسان حقه من العدل والراحة، ولا يتمتع بحقوقه المدنية إلا إذا رضخ من ماله لهذا وقدم طعمة لذاك. ويستفحل الأمر ويجل الخطب، حتى لا يرى أحد في هذه الحكومة أنه خادم أمة وأمين حكومة، لا يعد نفسه إلا جابيا – ولكن لنفسه وعياله – قد منحته الحكومة فرصة جمع الأموال، فلا يريد أن تفلته هذه الفرصة ويتخلف عن قافلة الجباة الشخصيين، وقد اشتد بها الجد، وجد بها السير.

أمثلة من التاريخ لكل من حكومات الجباية والهداية

أما حكومات الجباية فلا تحتاج إلى تمثيل ولا إلى شرح وبيان، فإنها هي السائدة الفاشية في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، وقد جربها الإنسان وعرفها في كل عصر، أما حكومات الهداية فهي نادرة جدا، فلنضرب لها مثلا:

بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى الإسلام فالتف حوله: {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم اذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّن، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [الكهف:13- 14]. وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم، واضطهاد وبلاء وعذاب، وقد قيل لهم من قبل: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت:2- 3] فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتواة كالجبال، وقالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأحزاب: 22]. حتى أذن الله في الهجرة، ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها في الأرض، ويقيموا القسط، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، فقد عرف أنهم إذا تولوا وسادوا “أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر”.

جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتي الأمطار بالخصب والزرع

وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتي الأمطار بالخصب والزرع، وكما تأتي الأشجار بالفاكهة والثمر، فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الإسلامية. ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذي تحملوه من قريش وغيرهم، وما لقوه في مكة وغيرها.

جاءت الحكومة بما يتبعها من عزة وشوكة، ورجال وأموال، وكنوز وخزائن، وجباية وخراج، ورفاهة ونعيم، وكان المجال واسعا جدا لجمع الأموال وحكم الرجال، ورفاهية الحال إذا اختاروا طريق الملوك والسلاطين في فرض الضرائب الكثيرة، والإتاوات المتنوعة والمكوس الجائرة.

الصحابة يسيرون على خطى رسولهم

التفت القوم فإذا دولتهم الوليدة على مفترق الطرق – طريق الجباية وطريق الهداية – هنالك سمعوا هاتفا يقول: “ويحكم إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يبعث جابيا وإنما بعث هاديا وأنتم خلفاؤه” فلم يترددوا في إيثار جانب الهداية على جانب الجباية، واتخاذ الدعوة والهداية شعارا ومبدأ لحكومتهم فكان ذلك.

لقد علموا أنهم لو آثروا جانب الجباية وأطلقوا أيديهم في أموال الناس، واسترسلوا إلى النعيم، ورتعوا في اللذات، لم يحل بينهم وبين ذلك أحد، ولم يقف في سبيلهم واقف. ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك فقد غشّوا إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وقضوا نحبهم بدون أن يأكلوا ثمار غرسهم، لقد خانوا أولئك الذين لم يعرفوا إلا الجهاد والتعب والجوع والسغب، ولقد وصلوا إلى الحكومة على جسر من متاعبهم وإيثارهم.

أفيجوز لهم أن يستغلوها لمصلحتهم وشهواتهم، وأبنائهم، ويتمرغوا في النعيم، ويسرفوا في الأكل والشرب؟ لقد ظلموا إذن عثمان بن مظعون، وحمزة بن عبد الملطب، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، وسعد بن معاذ، وكثيرا من رفقتهم الذين لم يروا شيئا من الفتوح والغنائم، ولم يشبعوا أياما متوالية، وقف القوم ولم يطب لهم الأكل والشرب، وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم ولم يأخذوا من الدنيا إلا البلاغ.

تأسست دولة الإسلام وفتحت فارس وبلاد الروم، والشام ونقلت إلى عاصمة الإسلام – المدينة المنورة – كنوز كسرى وقيصر، وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين، وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطُرَفها وزخارفها، ما لم يدر قط بخلدهم، وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش، وفي جشوبة المطعم وخشونة الملبس، لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم، ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر، فإذا بهم اليوم يتحكمون في أموال الأباطرة والأكاسرة، فإذا أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل، لقد كانت – والله – هذه محنة عظيمة، تزول فيها الجبال الراسيات، وتطير لها القلوب من جوانحها، وتعمش لها العيون، ولكنهم سرعان ما فطنوا أنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب، بل أنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وإمامتهم ومبادئهم، وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبدا، وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء الأنبياء والمرسلين، وحملة الدعوة المؤمنين المخلصين.

كان لهم أن يؤسسوا ملكا عربيا عظيما على أنقاض الدولة الرومية والفارسية، وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل، فقد ورثوا امبراطوريتين: الفارسية والرومية، وجمعوا بين موارد دولتين، فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط، وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط، فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترف بموارد الامبراطوريتين ويبذخ بذخا لم يبذخه أحدهما.

كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة، ولكنهم سمعوا القرآن يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص: 83]. وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته:

“فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم”1(1) رواه البخاري ومسلم..

فهتفوا عن آخرهم قائلين:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، وهكذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين، وعاشوا في الحكومة كرجال الدعوة، وفي الدنيا كرجال الآخرة، وملكوا أنفسهم في هذا التيار الجارف، الذي سال قبلهم بالمدنيات والحكومات، والشعوب والأمم، وسال بالمبادئ والأخلاق، والعلوم والحكم.

ما زال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم تحت قيادة سعد بن أبي وقاص ووصولهم إلى الشط الثاني من غير أن يصابوا في نفس أو مال أو متاع حادثا غريبا من أغرب ما وقع في التاريخ، إن الحادث لغريب، ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين في عهد الخلافة الراشدة وعصر الفتوح الإسلامية الأولى خاضوا بحر مدنية الروم وفارس وهو مائج هائج، وعبروه ولم يفقدوا شيئا من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم، ووصلوا إلى الشط الثاني، ولم تبل ثيابهم، ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الإسلامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم، ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم، في المعيشة وتخشنهم في أوج الفتوح الإسلامية.

دخول الهرمزان المدينة ومقابلته أمير المؤمنين

حكى الطبري دخول الهرمزان المدينة، ومواجهته لعمر رضي الله عنه قال: هيأوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين مكللا بالياقوت، وعليه حليته كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله، فلم يجدوه فسألوا عنه، فقيل: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، وانطلقوا يطلبونه في المسجد فلم يروه، فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلددكم تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد متوسدا برنسه، وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه نزع برنسه ثم توسد فنام، فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرة في يده معلقه، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هُوَ ذا، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه، وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان! قال: فينبغي له أن يكون نبيا. فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا ثم نظر إلى الهرمزان فقال: “الهرمزان”؟ قالوا: نعم! فتأمله وتأمل ما عليه وقال أعوذ بالله من النار وأستعين الله، وقال: الحمد لله الذي أذل هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بهدي نبيكم ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة، فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلمه. فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء، فرمي عنه بكل شيء عليه إلا شيئا ليستره، وألبسوه ثوبا صفيقا فكلمه2(2) تاريخ الطبري (ج 4 ص 37).“.

خلافة علي بن أبي طالب

ويصف ضرار بن ضمرة علي بن أبي طالب في خلافته بعد وفاة علي لمعاوية، ويقول: “إنه ليستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان – والله – غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جَشُب3(3) ما جشب: ما غلظ وخشن.، كان والله كأحدنا يجيبنا اذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: “يا دنيا أبي تعرضت، أم لي تشوفت؟ هيهات هيهات!! غري غيري، قد بتتّك ثلاثا لا رجعة لي فيك. فعمرك قصير، وعيشك حقير وخطرك كبير. آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق4(4) صفة الصفوة لابن الجوزي ج 1.“.

شعار الدولة الإسلامية الأولى

كان شعار الدولة الإسلامية الأولى الهداية والدعوة الى الله وخدمة الناس، فكانت الدولة تخسر أموالا عظيمة في سبيل الأخلاق والدين، وكانت إذا خيرت بين أرواح الرجال ومبالغ من المال اختارت الأرواح وخسرت الأرباح، وتطيب بذلك نفسا وتقر به عينا، وإذا كان عكس ذلك فكسبت الأموال وخسرت الرجال، حزنت لذلك وحزن المسلمون كحزنهم على ملك زائل وسلطان راحل، وقد فضل الخلفاء الراشدون وخامسهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن يدخل المجوس والنصارى في الإسلام ويعفوا من الجزية، فيخسر بيت مال المسلمين مقدارا عظيما من المال، ويكسب الدين الإسلامي والأمة الإسلامية رجالا يتخلصون من النار، وإذا كسب وربح بيت المال على حساب الإسلام حزنوا حزنا شديدا.

حدّث الطبري عن زياد بن الزبيدي، قال: “جمعنا في مصر ما في أيدينا من السبايا واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين نفتح القرية، قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نحرت النصارى ثم حازوه إليهم ووضعنا عليه الجزية وجزعنا من ذلك جزعا شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم5(5) تاريخ الطبري (ج 4 ص 237).“.

خلافة عمر بن عبد العزيز

وهكذا انتشر الإسلام، وانتشرت الأخلاق الفاضلة في عقود من السنين من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وتغلغلت الدعوة الإسلامية في أحشاء المجتمع البشري، لم يتمتع العالم الإسلامي بخلافة عمر بن عبد العزيز إلا سنتين وبضعة شهور، ولكنه بحرصه على الدعوة ومحافظته على شعار الهداية، وسيرة خلفاء الأنبياء عليهم السلام تمكن من التأثير في القلوب والعقول، وقلب تيار المدنية، وإظهار الدين وإخماد الكفر والفسق، والقضاء على رسوم الجاهلية، ما لم تتمكن منه دول إسلامية طويلة الأعمار لتراوحها بين الهداية والجباية، وتفضيلها الجباية في أكثر الأحيان على الهداية.

المدن الإسلامية الكبرى وعواصم الإسلام مركز دعوة وهداية

وكانت المدن الإسلامية الكبرى وعواصم الإسلام مركز دعوة وهداية بحيث إذا دخلها الإنسان عرف أنه يمشي في مركز الإسلام ويتنفس في جوه، فيرى الحدود قائمة وأحكام الشرع نافذة، ولا يجد أحدا يتهاون في أمر من أمور الدين، ويستخف به أو يجاهر بإثم ومعصية ولا يرى بدعة ولا فجورا، ولا دعارة ولا خدعة، ولا يسمع برشوة ولا خيانة ولا ما ينافي روح الإسلام، ويسمع الدعوة إلى الله وإلى الدار الآخرة وإلى الفضيلة والتقوى واتباع الكتاب والسنة، والاجتناب من الشرك والبدعة، والتمسك بفضائل الدين في كل مكان، ويرى العمل بذلك في الطرقات والمجامع، وبيوت الناس ودواوين الحكومة، فيتشبع بروح الدين ويتضلع إيمانا وحماسة، وفقها في الدين ومعرفة بأحكامه وشرائعه وحبا لأهله، فلا يخرج إلا وقد استفاد الإيمان والعلم والتصلب في الدين والثقة برجاله وممثليه.

وإذا دخلها أجنبي أو حديث عهد بالإسلام، عرف مزايا الحياة الإسلامية وفضل حكومة الإسلام، وآثر الإقامة فيها، وكره أن يفارقها، ويعود إلى دار الكفر كما يكره أن يقذف في النار.

أما الحَرَمانِ فقد كانا في حكومة الإسلام – المؤسسة على مبدأ الهداية – مدرسة الدين ومهد الحضارة الإسلامية، تتمثل فيهما الحياة الإسلامية بكمالها وجمالها، ويأتي إليهما المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، ومن كل فج عميق، فيشهدون منافع لهم ويتفقهون في الدين، وينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، ويحتجون في بلادهم بما رأوه في الحرمين، فيكون ذلك حجة لمحافظة الحجاز على الدين والسنة وحرص حكومتها على تمثيل الحياة الإسلامية في مركز الإسلام ومنبعه.

حكومة الهداية ثمرة الدعوة والجهاد في سبيل الله

ثم أتى على المسلمين حين من الدهر نسوا أن الحكومة في الإسلام لم تكن إلا جائزة الدعوة والجهاد في سبيلها، ولولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الله، وما لقي في مكة والطائف من قريش والقبائل، ولولا الهجرة والاختفاء في غار ثور، والرباعية المكسورة يوم أحد، ولولا ما صنع بحمزة يومئذ ولولا قتلى بئر معونة ومصلوب الأنصار6(6) هو خبيب بن عدي بن مالك الذي قتله بنو الحارث بن عامر، وبضعوا لحمه، وحملوه على جذعة، وهو القائل: ولست أبالي حين أقتل مسلما … … على أي جنب كان في الله مصرعي.، لما دانت الدنيا للعرب، ولا كانت دمشق ولا بغداد، ولا كان لبني مروان أن يجبوا خراج الروم وفارس، ولا كان للرشيد أن يقول لسحابة مرت به: “أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك”.

حال الأمة الإسلامية بعد تحول الدولة من الهداية إلى الجباية

أسس الملوك المتأخرين دولهم على مبدأ الجباية السياسية، وأهملوا الدعوة إلى الله وإلى دار السلام، وعطلوا الحدود وأبطلوا الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، ولم تعد مراكز الإسلام مدرسة الدين ومرآة لمدنيته واجتماعه، بل أصبحت تغرس الشك والنفاق في قلوب الوافدين وتزعزع عقيدتهم وثقتهم بالدين وأهله، وأصبح القاصدون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي يكتسبون منها استخفافا بشعائر الإسلام، ورقة في الدين، ووهنا في العمل، وسوء ظن بممثلي الإسلام، ورجعوا يحتجون بالأوضاع الفاسدة في مراكز الإسلام، وبالفوضى الدينية، فكانت داهية عظيمة على رجال الإصلاح والدعوة في الأقطار الإسلامية، وفتنة كبيرة.

ليس العالم الإسلامي اليوم بأشد افتقارا إلى شيء، منه إلى حكومة تمثله تمثيلا صحيحا، وتقوم على أساس الدعوة والهداية، والنصيحة والخدمة، فإن الإسلام لا يؤثر في عقول الناس، ولا يشفي المتفحصين حتى تكون له رقعة في الأرض، تتمثل فيها حياته وتتجلى فيها مدنيته واجتماعه، وتظهر فيها نتائج دعوته وتعاليمه، فإذا كان ذلك ولو في رقعة صغيرة كان على الإسلام إقبال عظيم لم يعهد من قرون.

حاجة الإنسانية اليوم إلى حكومة الهداية والدعوة

وليس العالم الإنساني بأقل افتقارا من العالم الإسلامي لمثل هذه الحكومة التي شعارها الهداية والإصلاح، لا الجباية والكفاح، فإن الإنسانية العليلة جريحة لا يسعفها اليوم إلا قيام هذه الحكومات التي تؤسس على أساس الفضيلة والدين، واحترام الإنسانية، وإيثار الأرواح على الأرباح، والأخلاق على الأعلاق، وكسب الرجال على كسب الأموال، فإذا تأسست هذه الحكومة – مهما كانت صغيرة ومهما كانت مواردها ضعيفة – كان ذلك حادثا غريبا يستحق كل تنويه وإشادة، وقام كبار السياسيين وأصحاب اليراع، وقادة الفكر يشيرون إليها بالبنان ويضربون بها الأمثال، ويؤلفون عنها مؤلفات، وأصبح الناس يأوون إليها كما يأوي الغرقى إلى جزيرة في البحر، لينعموا في ظل حكومتها، وينفضوا عنهم غبار الظلم والفتن، ويتنفسوا من متاعب المدنية المعقدة المزورة، والحكومات الجابية الجائرة، ولكانت هذه الحكومة غُرة في جبين الدهر، وشامة بين الحكومات والدول.

إن الإنسانية قد جربت حكومات الجباية على اختلاف أنواعها وأسمائها – من شخصية وديمقراطية، ورأسمالية واشتراكية وشيوعية – فوجدتها بنات علات، لا تختلف في أصلها ومبدئها، وروحها ونزعتها، وقلبتها على كل جانب فلم تر منها إلا شرا ومرا، ولم تر اختلاف الأسماء يغني عن شيء، وإذا تأسست جديدة باسم جديد، نادى لسان الحقيقة في لفظ أبي العلاء المعري:

ألا إنما الأيام أبناء واحد … وهذي الليالي كلها أخوات

فلا تطلبن من عند يوم وليلة … خلاف الذي مرت به السنوات

وإذا ضمت إلى هذه الحكومات المعدودة بالمئات حكومة جديدة لا تختلف عن أخواتها إلا أنها يرأسها مسلم أو يديرها عدد من المسلمين، لم تكن بدعا ولم تكن شيئا طريفا ينوه به أو يشار إليه بالبنان، أو تعقد به الآمال، فإن هنالك حكومات تفوق هذه الحكومة عشرات من المرات في طول مساحتها وضخامة ميزانيتها، وكثرة إنتاجها وإصدارها، وفي جيشها وأساطيلها وبوارجها الحربية وعدد الطائرات، وكثرة المصانع ورقي الصناعة والتجارة، واحتفال المدنية والحضارة، وحسن الإدارة وانتشار العلم في طبقات الشعب وقلة الأمية، إلى غير ذلك مما تمتاز به الحكومات الأوربية.

إن قيام دولة للمسلمين في بقعة من بقاع الأرض فرصة سعيدة نادرة لا تسنح في كل حين، ومثل هذه الفرص – كما يعرف المطلع على السنن الإلهية وعلى تاريخ الأديان والدعوات الإصلاحية – قد تسنح بعد قرون، وتكون من فلتات الدهر، وفي قصرها كوميض البرق في ليلة مظلمة، وتكون امتحانا عظيما لرجالها، كيف يستخدمون هذه الفرصة لدعوتهم ومبادئهم الدينية على حساب مصالحهم الذاتية، وراحتهم ولذائذهم، فإذا انتهزوا هذه الفرصة وعرفوا قيمة الوقت، وأحسنوا تمثيل هذه العقيدة والدين الذي ينتسبون إليه وحسن ظن الناس بهم، وصدقوهم في ما يقولون فقد خدموا دينهم وأنفسهم خدمة باهرة، وإن كان غير ذلك فأساءوا استعمالها واستغلوها لمصالحهم الشخصية على حساب الدعوة الدينية، ورجالها المخلصين وجهودهم في سبيل نشر هذه الدعوة، وقيام هذه الحكومة، كما فعلت الدولة الأموية والعباسية ودول كثيرة، فقد ضيعوا الفرصة وخسروا دورهم، وخسرت معهم الدعوة التي وصلت أسبابها بأسبابهم دورها، وما يعلم أحد متى يعود هذا الدور، وهل يعود أم لا؟ فقد شهد التاريخ أمما وجماعات كثيرة ضيعت فرصة حكمها وسلطانها، ولم تنتفع بها، وانتهى دورها القصير أو الطويل فوقفت مع المتفرجين المنعزلين وبقيت تنتظر دورها في حلبة الأمم، وتعض على تفريطها ببنان الحسرة والندم.

يا حكام المسلمين: انتهزوا الفرصة واحرزوا قصب السبق

هذا وإلى الحكومات الإسلامية ومن كان على رأسها أن ينتهزوا الفرصة ويحرزوا قصب السبق، ويبلغوا بهمتهم وعنايتهم إلى حيث لا يبلغ إليه كبار الصالحين والأتقياء بعبادتهم وزهدهم، وذلك بما آثرهم الله من حول وطول، ونفوذ وسلطان، وفرص لا تتأتى لغيرهم، ولهم أن يصلوا في خدمة هذا الدين وإعادة شبابه، وإصلاح المجتمع وتغيير اتجاهه، من الجاهلية إلى الإسلام في يوم واحد – إذا أرادوا بذلك وصحت عزيمتهم وصدقت نيتهم – مالا يصل إليه المصلحون، والمؤلفون والعاملون في أعوام وقرون، وينالوا من رضى الله وثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ما يغبطهم عليه كثير من العباد والمتقين، وعباد الله الصالحين.

وما أطلق الناس على عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكبير والخليفة الراشد إلا بتغييره مجرى الحكومة من الجباية إلى الهداية، والإصلاحات التي قام بها، وبرجولته وعصاميته في سبيل مبدأه، ولو وزن ما تنازل عنه من نعيم زائل ومتاع فان، وأنواع من لباس وطعام، ودواب وأنعام – كان لا بد أن يتركها يوما من الأيام – لو وزن ذلك كله بما اكتسب من نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وما يرجو من مرافقة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والالتحاق بحزبه. وما جعل الله له من لسان صدق في الآخرين، لرجح ما اكتسب رجحانا واضحا، وعد من كبار الأذكياء وعقلاء العالم.

الهوامش

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) تاريخ الطبري (ج 4 ص 37).

(3) ما جشب: ما غلظ وخشن.

(4) صفة الصفوة لابن الجوزي ج 1.

(5) تاريخ الطبري (ج 4 ص 237).

(6) هو خبيب بن عدي بن مالك الذي قتله بنو الحارث بن عامر، وبضعوا لحمه، وحملوه على جذعة، وهو القائل: ولست أبالي حين أقتل مسلما … … على أي جنب كان في الله مصرعي.

المصدر

كتاب: “إلى الإسلام من جديد” أبو الحسن الندوي، ص107-126.

اقرأ أيضا

الدولة الحرة.. والحقيقة المرة..!

أفول الدَّولة الوطنيَّة العربيَّة

الوطن .. والبقرة .. والكاهن 

إقامة الدين سعادة في الدنيا قبل الآخرة

التعليقات غير متاحة