يمتاز الجهاد في سبيل الله كغيره من فرائض الإسلام وتشريعاته، عن الحروب الجاهلية ونظمها وقوانينها في الأهداف والوسائل وغيرها، لأن فرائض الإسلام ومنها الجهاد في سبيل الله، من عند الله تعالى، ونظم الجاهلية ومنها الحروب، من عند البشر، والفرق بين شريعة الله، وقوانين البشر كالفرق بين الخالق والمخلوق.
مقدمة
إن الجهاد في الإسلام يهدف إلى إنقاذ البشرية مما هي عليه من الكفر والظلم، اللذان هما مصدر الخوف والشقاء، وانعدام الأمن، ويرهب أعداء الله عز وجل الذين هم في الحقيقة أعداء البشرية وأعداء أمنها، ويزيلهم من طريق الحق والأمن والسلام، لينتشر التوحيد في الناس.
ومع ذلك فالجهاد في الإسلام الذي هذه غايته له أحکام وآداب سامقة تدل على سماحة هذا الدين ورحمته بالناس. وأسوق فيما يلي بعض هذه الأحكام المتعلقة بالجهاد والتي تدل على حرص هذا الدين، على أمن الناس، وانتشار التوحيد والعدل والأمن والسلام بينهم، وأن القتال ليس مقصودا لذاته في الإسلام وإنما لإزالة أعداء الإيمان والتوحيد والسلام الذين يمنعون أن يكون الدين كله لله.
من أحكام الجهاد وآدابه
عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ الكبار والرهبان إذا لم يقاتلوا
أولا: يحرم الإسلام على المجاهدين في سبيل الله عز وجل أن يقتلوا غير المحاربين لهم، فمن اعتزل قتال المسلمين من الكفار فلا يجوز قتله ولا تخويفه. كما جاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده للمجاهدين في سبيل الله تعالى.
- فعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا. ثم قال له: «أغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» 1(1) مسلم (1731)..
- وروى مالك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن أمرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما»2(2) الموطأ 448/2..
- وقال زيد بن وهب: أتانا کتاب عمر رضي الله عنه وفيه: «لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين»3(3) السنن الكبرى للبيهقي 9/91.. ومن وصاياه: «لا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات».
الوفاء بالعهود وعدم الغدر
ثانيا: يشدد الإسلام في الوفاء بالعهود والعقود، وينهى عن الغدر والخيانة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1] وقال عز وجل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولً﴾ [الإسراء:34] وقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:4] وعندما تظهر القرائن على خيانة المشركين المعاهدين، ويخشى خيانتهم فإن الإسلام يشعرهم بانتهاء العهد، وينبذه إليهم قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال:58].
لا إكراه على الإسلام
ثالثا: إذا خضع الكفار لشريعة الله تعالى، وبقي منهم من بقي على كفره فإنه لا يكره على الإسلام، وإنما يدفع الجزية مقابل حمايته والقيام بحقوقه في ظل الدولة الإسلامية، وقد عاش الذميون حياة عادلة آمنة في ظل الإسلام لم يكونوا يجدونها في ظل دولهم الكافرة، ومنها أن الذمي يجرم الاعتداء عليه في نفسه وماله وعرضه وإذا عجز عن دفع الجزية لم يجبر عليها.
- رأی عمر رضي الله عنه شيخا ضريرا يسأل على باب فسأل فعلم أنه يهودي فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بیت المال: «انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم. ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60]. وهذا من مساكين أهل الكتاب».
- ولما سافر إلى دمشق مر بأرض قوم مجذومين من النصاری، فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت.
- وكان من آخر وصاياه رضي الله عنه لمن يخلفه من بعده قوله: «وأوصیه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم».
- ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: «يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا». وغلق أهل حمص أبواب منازلهم دون جیش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم، وعدلهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم.
البشرية اليوم..واقع مرير
فإذا نحن ألقينا من هذه القمة الشامخة التي يقف عليها الإسلام في سلمه وحربه، نظرة على المستنقع الآسن الذي تلغ فيه الحضارة الغربية سلما وحربا، أدركنا بعد الشقة بين نظام ينزله الله للبشر، ونظام يضعه الناس للناس. وأدركنا کم خسرت البشرية يوم تنكرت لنظام الله. وهي تتعثر في تکبر مضحك وفي تعالم مضحك، تريد أن تقول: إنها تريد لنفسها خيرا مما أراد الله، وإنها تملك لنفسها خيرا مما أعطاها الله!
وستظل هذه البشرية تطلع في طريق كلها منحدرات و آکام؛ وتلغ في كل مستنقع آسن من صنع الحضارة الكافرة المغرورة الضالة عن الله. إلى أن يتسلم الإسلام الزمام، فيقود البشرية الحائرة إلى مثابة العدل والنظام والسلام.
ولقد شهدت البشرية في الحقبة التي سيطرت فيها أوربا مثلا من عهود الغابة، وصورا من شرائع الذئاب. شرائع الغدر والنفاق والخسة، ونقض العهود، وخيانة الوعود، وتمزيق الاتفاقيات، ووصف المعاهدات بأنها قصاصات من الورق. كما شهدت من وحشية الحرب ما تخجل الوحوش أن تأتيه.
وستشهد البشرية في مستقبلها القريب من ألوان الخيانة والغدر، ومن صنوف الوحشية والبربرية ما يتفق مع روح هذه الحضارة المادية الكافرة، التي لا تؤمن بدين ولا خلق، ولا تقيد نفسها بمبدأ ولا ضمير، مما يتمشى مع الفكرة المادية الغليظة التي تسيطر على هذه الحضارة، فتنفي من الحياة كل عنصر غير المصلحة المباشرة والعنصرية اللئيمة…
الإسلام والسماحة الإنسانية
والسماحة الإنسانية، عنصر هام لإقرار السلام، تفقده كل الحضارات التي تظلل العالم اليوم. هذا العالم الذي تمزقه العصبيات الدينية، والعصبيات العنصرية، والعصبيات المذهبية، ويقف على شفا جرف هار بسبب تلك العصبيات الذميمة، التي تنقصها روح السماحة الإنسانية، وروح العدالة الحقيقية، والتي تنطلق وفي إثرها الأحقاد والحزازات، والمطامع الاقتصادية وغير الاقتصادية، فتحيل الحياة البشرية جحيما في الحرب وجحيما في السلم، وتنشر فيه المجاعات والمخاوف، وتقف الأمم بعضها من بعض موقف الحذر الدائم والقلق الدائم، وتثقل على أعصاب الناس فتصيبهم بالضغط العصبي والدموي، وتدعهم في تربص بأنفسهم وسواهم، وفي ذعر لا أمن فيه، وحقد لا سلام فيه، وظلمة لا بصيص فيها.
ومع هذا كله، تجد تلك الحضارات البائسة معجبين ومدافعين . وهي تسوم البشرية شقاء بعد شقاء، وحربا بعد حرب، وبلاء بعد بلاء. لماذا؟ لأنها تملك تسخير الحديد والنار والكهرباء والبخار، وتملك صنع القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية والأقمار الصناعية، ولا تملك ذرة واحدة من ذرات المحبة ولا عنصرا واحدا من عناصر السماحة، ولا طاقة واحدة من طاقات الإنسانية!
ألا إنه المسخ الذي يصيب الروح البشرية في عصر الظلام الروحي والانتكاس. وما هنالك من بلسم يمس هذه الروح فيشفيها، وما هنالك من شعاع يضيء ظلماتها وخوافيها، إلا أن يقود الإسلام البشرية مرة أخرى، فيردها إلى السماحة الإنسانية، ويحيل کشوفها وعلومها أداة رحمة وحضارة وسلام)4(4) انظر: السلام العالمي والإسلام (باختصار) ص185-187..
الهوامش
(1) مسلم (1731).
(2) الموطأ 448/2.
(3) السنن الكبرى للبيهقي 9/91.
(4) انظر: السلام العالمي والإسلام (باختصار) ص185-187.
اقرأ أيضا
العدل والتوازن في الجهاد في سبيل الله
أثر الدعوة والجهاد على عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية