يشاهد الناس أن الرسل وأتباعهم منهم من يقتل ومنهم من يلقي في الأخدود ومنهم من يستشهد ومنهم من يعيش في کرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟!

مقدمة

لا بد لمن يريد نصرة دين الله عز وجل والتمكين له في الأرض أن يتعرف على سنن الله تعالى في نصرة دينه، وبدون هذه المعرفة لن يتم الاهتداء إلى الطريق ، وبالتالي ستضيع الأوقات والجهود ولما يأت نصر الله .

ومن هذه السنن

الوعد بالنصر والغلبة والتمكين

إن نصر الله عز وجل لدينه ولعباده المؤمنين آت لا محالة وإن التمكين للإسلام في الأرض سيتم بعز عزيز أو بذل ذليل ، هذا وعد الله سبحانه والله لا يخلف الميعاد ، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51].

ويقول تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾  [النور: 55]. ويقول سبحانه: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة : ۲۱] وقال عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات:۱۷۱ – ۱۷۳].

والآيات في هذا المعنى كثيرة ، كما أن الوعد بنصرة دين الله عز وجل جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إن الله زوی لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»1(1) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (۲۸۸۹).، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا دخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عز يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر»2(2) رواه أحمد ( 4/103)، وهو في السلسلة الصحيحة (3).، وقال صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت»3(3) رواه أحمد (4/ 273)، وهو في السلسلة الصحيحة (5)..

أين النصرة وقد حل بالمسلمين ما نرى

يقول الإمام ابن کثیر – رحمه الله تعالى – عند تفسيره قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ الآية :

(قد أورد أبو جعفر ابن جریر رحمه الله تعالی عند قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ سؤالا ، فقال: قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه کیحیی وزكريا وشعياء، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرأ كإبراهيم، وإما إلى السماء کعیسی . فأين النصرة في الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابین :

أحدهما: أن يكون الخبر خرج عاما والمراد به البعض فإن هذا سائغ في اللغة .

والثاني: أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم .

وقد ذكر أن النمرود أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إماما عادلا وحاكما مقسطا فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، وهذه نصرة عظيمة .

وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحدیثه ، أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالی: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» ، وفي الحديث الآخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب»، ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح، وعادا ، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحدا، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحدا ، قال السدي: لم يبعث الله عزوجل رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق يقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم ويطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها .

وهكذا نصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه ؛ فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم، وخذلهم، وقتل صنادیدهم ، وأسر سراتهم، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح عليهم مكة، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم، فأنقذه الله تعالی به مما كان فيه من الكفر والشرك ، وفتح به اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله عز وجل ، ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا ، وفتحوا البلاد والرساتیق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها ، ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة ، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا… ﴾ الآية، أي: يوم القيامة يكون النصرة أعظم وأكبر وأجل)4(4) تفسیر ابن کثیر ، سورة غافر ، الآية : 51 . .

سنة ماضية

ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – حول هذا المعنى: (إن وعد الله واقع وكلمة الله قائمة ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: ۱۷۱ – ۱۷۳] هذه هي الحقيقة في كل دعوة لله يخلص فيها الجند ويتجرد لها الدعاة أنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل ، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله والذي لا يخلف ، ولو قامت قوی الأرض كلها في طريقه ؛ الوعد بالنصر والغلبة والتمكين، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية ، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة ، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان ، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء ، ولكنها مرهونة بتقدير الله يحققها حين يشاء …..

إلى أن يقول رحمه الله تعالى: والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة فهذا الواقع هو الباطل الزائل الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة لعل منها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم، وحيث ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية ، ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين يحميهم من الانهيار ويحمي شعوبهم كلها من ضیاع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه ، حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى ، يجده في هذا الواقع دون الحاجة إلى الانتظار الطويل ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة:۲۰- ۲۱].

وعلى كل حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لابد أن تظهر في الوجود .

انتصار العقيدة انتصار لأصحابها

إن وعد الله قاطع جازم ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [غافر: 51] بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يلقي في الأخدود ومنهم من يستشهد ومنهم من يعيش في کرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان في النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل ، ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير !!

إن الناس يعيشون فترة قصيرة من الزمان وحیز محدود من المكان ، وهي مقاييس بشرية صغيرة ، فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مکان ومكان ، ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك ، وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها ، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها ، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ویبرزوها)5(5) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 354 . .

مما سبق يتبين لنا أهمية اليقين بوعد الله عز وجل في نصرة أوليائه ، وأنه آت لا محالة ، فإذا تأخر نصر الله عز وجل ، واشتد الكرب على المؤمنين بتسليط أعدائهم عليهم فإن هذا لا يعني عدم تحقق وعد الله وعدم مجيء نصره سبحانه ، ولكن لتأخره حكم وأسباب، فبدلا من اليأس من وعد الله عز وجل بالنصر يجب أن يتوجه البحث والتفكير عن أسباب تأخره التي يجب أن يتوجه الجهد لإزالتها ، وإيجاد المناخ والأسباب التي تهيئ لنصر الله عز وجل .

الهوامش

(1) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (۲۸۸۹).

(2) رواه أحمد ( 4/103)، وهو في السلسلة الصحيحة (3).

(3) رواه أحمد (4/ 273)، وهو في السلسلة الصحيحة (5).

(4) تفسیر ابن کثیر ، سورة غافر ، الآية : 51 .

(5) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 354 .

اقرأ أيضا

سنن النصر .. حتى يغيروا ما بأنفسهم

حتى نستحق النصر

لماذا يتأخر النصر؟ ومن يستأهله؟

 

التعليقات غير متاحة