لا يخفى على اللبيب العاقل أن كل إنسان ينزع إلى ما تدفعه همته إليه، فمن كان عالي الهمة شريف النفس نزع إلى المعالي، ومن كان ممن جذبته الدنيا إليها وكبّلته بحبها نزع إلى ما يزيده حباً فيها وتعلقاً بها، والبون بين الفريقين شاسع.

النوازع: ذكرها وبيانها

رأيت أن أتكلم عن نوازع خمسة وهو ما تنزع إليه النفس وترغبه وتشتهيه:

1 – طلب العلم الشرعي.

2 – كثرة العبادة وإحسانها.

3 – الدعوة إلى الله تعالى.

4 – الجهاد في سبيل الله.

5 – طلب المال الصالح.

وهي إن حاكت في صدر المسلم كلها أو بعضها منعته الرقاد، وأورثته السهاد، فلا يعود يطيب له العيش حتى يُحكم أمره فيها، ويختار منها ما يوفقه الله تعالى إليه، وقد يمنّ الله عليه بجمعها أو بجمع غالبها، فيكون إماماً قدوة.

النازع الثاني: كثرة العبادة

رغبة كل مسلم ملتزم بدينه أن يكون عظيم العبادة، كثير الأوراد متقرباً إلى الله عز وجل بشتّى الطاعات حتى يفوز في الآخرة بالمنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة.

وأشد ما يكون شوقه إلى الإكثار من العبادة حين يقرأ أو يسمع أخبار السّلف وعبادتهم، فهذا سُهيل بن عمرو رضي الله عنه قد كان (كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهداً، ويقال إنه صام وتهجّد حتى شحب لونه وتغيّر، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن)1(1) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 34 – 35..

وهذا أنس بن عياض يحدث أنه رأى صفوان بن سليم – أحد أئمة التابعين – (لو قيل له: (غدا القيامة) ما كان عنده مزيد على ماهو عليه من العبادة)2(2) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 498..

وهذا هنّاد بن السَّري يحدث عنه أحمد بن سلمة النيسابوري الحافظ بأنه كان (كثير البكاء، فرغ يوماً من القراءة لنا، فتوضأ وجاء إلى المسجد فصلى إلى الزّوال، وأنا معه في المسجد، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ وجاء فصلى بنا الظهر، وأخذ يقرأ في المصحف حتى صلّى المغرب، فقلت لبعض جيرانه: ما أصبره على العبادة، فقال: هذه عبادته بالنهار منذ سبعين سنة، فكيف لو رأيت عبادته بالليل)3(3) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 847 – 848..

بعض الأمثلة من عبادة السلف

هذه بعض الأمثلة من عبادة السلف، إذ لو أكثرتُ لأتيت بالعجب العُجاب، فهذه الأخبار وغيرها يقرأها المسلم أو يسمعها يتفطر قلبه، ويتمنّى أن لو عبد الله مثلهم، ولكنه يصدم بواقعه، فهو يعمل من الصباح الباكر حتى العصر، هذا إن كان ممن اقتصر على عمل واحد، فكيف بمن يعمل مرتين في اليوم – صباحاً ومساءً – ثم إنه عندما يعود إلى منزله إمّا أن يخلد إلى الرّاحة أو يقضي حوائجه وحوائج أهله، ثم قد ينظر في بعض أموره، فينتهي يومه وهو في عمل متصل، حتى إذا جاء المساء احتاج لقضاء بعض الوقت في الدعوة أو في شأن آخر، ثم يخلد إلى الراحة ليستيقظ فجراً، وهكذا دَوَاليك، فماذا يصنع وكيف يصل إلى ما وصل إليه القوم؟

لبيان ذلك لابد من توضيح الآتي حتى لا يصاب الشخص بإحباط، أو يكذب هذه الأخبار فيرتكب ما لا يسوغ:

1 – لم يكن السلف يعملون أغلب أوقات نهارهم كما نفعل الآن، بل كان أحدهم إذا كسب ما يقوته اكتفى به، فهذا عتبة الغلام – من نسّاك أهل البصرة – (كان رأس ماله فلساً يشتري به خُوصاً يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس، فيتصدق بفلس، ويتعشى بفلس، وفلس رأس ماله)4(4) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 564..

هذا شيخ الإسلام حماد بن سلمة إذا ربح في ثوب حبة أو حبيتين لم يبع شيئاً 5(5) المصدر السابق: 1/ 603. والمقصود بالحبة وزن حبة من شعير ونحوه ذهباً أو فضة..

فهذه الصورة لكسب الرزق لم تعُد سائغة اليوم، ولا هي مطلوبة – أيضاً – في زماننا هذا الذي نريد الإمساك بزمام الأمر فيه.

2 – كانت عندهم بركة في الوقت تكاد تكون معدومة في عصرنا، وما ذاك – والله أعلم – إلا بإخلاصهم وكثرة تحريهم للحلال.

3 – لم تكن الحياة بنحو هذا العسر الذي نعيشه الآن، فالأماكن كانت متقاربة، والعيش سهل، ولكن انظر إذا تعطلت سيارة الشخص مثلاً كيف يعسر عيشه، أو إذا خرب شيء في منزله فكيف يتنغص ويمكث أيّاماً من أجل إصلاحه، وهكذا …

4 – لم تكن هناك كثير من الأمور المزعجة لنا الآن، إذ هاجس الشخص الملتزم – اليوم – هو تربية أولاده فيحتاج إلى مراعاتهم وقضاء كثير من الوقت في إصلاحهم، بينما لم يكن ذلك كذلك عند السلف، وذلك لنقاء حياتهم وصفائها وخلوّها من كثير من أسباب الفساد الكائنة في هذا العصر.

وهاجس آخر – كذلك – هو توفير أسباب العيش الكريم له ولأهله؛ فقد ضافت أرزاق كثير من الناس في كثير من البلاد على وجه لم يكن معروفاً عند سلفنا، وكذلك كانوا يقنعون بالرزق اليسير ممّا لا يقنع أبناء العصر بأضعافه.

وهاجس آخر، وهو أن الشخص الملتزم في كثير من ديار المسلمين أصبح يفكر كيف يتخفى بإسلامه ودينه عن أعين الغادرين والمتربصين.

والهواجس المزعجات أكثر من أن تُحصر في عصرنا.

5 – تغير نمط الحياة بحيث صار الشخص – إلا من رحم الله – يفكر في مستقبله ووظيفته وماله، وكذا مستقبل أولاده ووظائفهم وأموالهم، ويسعى لهذه الأمور الثلاثة سعياً عظيماً يكاد يغلب كلَّ سعي آخر.

6 – سَعْيُ الشخص المسلم – في كثير من ديار الإسلام – لإقامة دولة الإسلام قد اقتطع كثيراً من وقته، ولم يعد هناك الوقت الكافي لأن يكثر من العبادة، بخلاف أكثر السلف فإنهم كانوا يعيشون في ظل دولة خلافة إسلامية عزيزة مرهوبة الجانب، قد كفتهم – في أكثر الأحيان – هذه المؤونة.

جوانب التوازن في التعبد

إذا عرفنا هذا كله فماذا نصنع لكي نحقق التوازن بين العبادة البدنية وغيرها من العبادات المطلوبة من المسلم كالدعوة، والتعلم، وصلة الرحم، إلخ … ؟

هذه بعض الجوانب المساعدة على هذا – في ظني – والله أعلم:

أولاً: الأولوية إقامة الفرائض

لابد للشخص المسلم من إقامة الفرائض كاملة غير منقوصة، ولا يُعذر في ترك شيء منها إلا فيما يعذره فيه الشرع، ثم بعد ذلك يأتي بأنواع من الطاعات حسب قدرته وفراغه.

ثانياً: فعل بعض التطوعات أمر لازم لطالب الدرجات العلى

لا محيص للمسلم – إذا أراد الدرجات العُلى – من فعل بعض الطاعات البدنية التطوعية بقدر ما يسعفه الزمان؛ لأن كثيراً من الناس يُعلل نفسه بأنه يدعوا إلى الله، أو أنه يتعلم العلم، فلا وقت عنده لصلاة تطوع، ولا قدرة عنده على صيام نافلة، فهذا يُساق له قول الفُضيل بن عياض رحمه الله تعالى: (إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، كبّلتك خطيئتك)6(6) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 665..

ثالثاً: العزيمة القوية

لابد للشخص من العزيمة القوية حتى يستطيع فعل بعض الطاعات، فهذا أبو مسلم الخولاني

إذا فَتَر في العبادة ضرب ساقه سوطاً أو سوطين7(7) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 318 – 319.، وأما التراخي والتعلّل فلا يورث إلا حرماناً من القُربُات، وقد يعتبر عن العزيمة بالهمة، والحق أن العزيمة فرع عن الهمة، فمن ارتفعت همته صحت عزيمته، والعكس صحيح، والله أعلم.

رابعاً: إقامة الحقوق الأخرى

لابد من إقامة الحقوق الأخرى قبل القيام بالعبادات التطوعية، وأعني بها حقوق الزوج والأولاد وما يماثلها مما يتعلق بذمّة الشخص، فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه:

(كنت تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فتركت التجارة ولزمت البعادة).

فقال الذهبي معلقاً على هذا: (قلت: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد، وهذا الذي قاله هو طريق جماعة من السلف، ولا ريب أن أمزجة الناس تختلف في ذلك، فبعضهم يقوى على الجمع كالصَّديق وعبد الرحمن بن عوف، وكما كان ابن المبارك، وبعضهم يعجز ويقتصر على البعادة، وبعضهم يقوى في بدايته، ثم يعجز وبالعكس، وكل سائغ، ولكن لا بد من النهضة بحقوق الزوجة والعيال)8(8) المصدر السابق: 1/ 157..

وأخرج الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه (أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آخى بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلمّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍّ حقّه، فأتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك له، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: صدق سلمان)9(9) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الصيام: باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع..

خامساً: الشمولية في العبادة

لا بد من الجمع بين التطوعات المختلفة، فلا يصلح الاقتصار على العبادات البدنية فقط، بل هناك عبادات أخرى يحسن الإتيان بها: فالدعوة، والتعلم، والأمور بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلة الرحم كلها من الأمور المهمة، بل قد تكون أهمَّ من العبادات التطوعية البدنية، وذلك – والله أعلم – لأن تلك نفعها متعدٍّ والعبادة البدنية نفعها ذاتي قاصر على العابد.

وهذا من ميزات دين الإسلام الذي جعل كل حركة يتحركها المسلم عبادةً إذا صلحت نيته وأتى بالعمل على قواعد الإسلام وأحكامه، والناظر للأديان والمذاهب لا يجد مثل هذه الميزة أبداً.

الهوامش

(1) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 34 – 35.

(2) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 498.

(3) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 847 – 848.

(4) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 564.

(5) المصدر السابق: 1/ 603. والمقصود بالحبة وزن حبة من شعير ونحوه ذهباً أو فضة.

(6) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 665.

(7) ((نزهة الفضلاء)): 1/ 318 – 319.

(8) المصدر السابق: 1/ 157.

(9) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الصيام: باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع.

المصدر

كتاب: “التنازع والتوازن في حياة المسلم” مُحَمَّد بن مُوسَى الشَّريْف، ص39-50.

اقرأ أيضا

الوسطية والتوازن في العبادات

المفهوم الصحيح للعبادة، ومظاهر انحراف “المفهوم”

“إخراج العبادة عن الإلف والعادة” من علامات صلاح السريرة

التعليقات غير متاحة