إن التغيير والتجديد الذي يحبه الله ، وهو الذي يقوم به الإنسان ليغير به حاله وحال أمته من الإعراض عن الله ومعصيته إلى الإقبال عليه وطاعته، وهذا النوع من التغيير الجاد هو الذي يغير الله عز وجل به حال الإنسان والأمة من حالة الشقاء والشر والمصائب إلى حالة الخير والرخاء والسعادة والطمأنينة، وأنعم به من تغییر .
میزان الله عز وجل للتجديد والتغيير
يمكن أن يتبين لنا هذا الميزان من خلال النقاط التالية:
أولا: إن هذا الميزان الإلهي ينطلق من أن دين الله – الذي هو الإسلام – إنما هو من عند الله ، العالم بما كان وما سيكون، المبرء من الجهل والهوى والنقص، الحكيم الكامل في حكمته، البر الرحیم الكامل في رحمته وبره. وبناء على هذا فإنه هو الدين الصالح لكل زمان ومکان، مهما تغيرت الظروف والأحوال والأشخاص والمكان والزمان.
ولكن ما هو هذا الدين؟ وما خصائصه؟
– إنه الدين الذي جاء به محمد عقيدة وأحكاما وأخلاقا، وليس الدين المغير أو المبدل أو المحرف أو المؤول أو الذي تتبناه فرق وطوائف منحرفة عن الإسلام.
– إنه الدين الذي جاء من عند الله عز وجل، المتصف بصفات : الثبات ، والشمول، والتوازن، والكمال، والعدل، والخيرية ؛ ولذا كان من أبرز سماته أنه صالح لكل زمان ومکان ؛ صالح لزمان الصحابة ، وصالح للأزمنة التي جاءت بعدهم، وصالح لزماننا، ولمن يأتي بعدنا حتى تقوم الساعة.
ثانيا : إن عظمة هذا الميزان وجماله تتجلى أكثر ما تتجلى في تمسكه بالأصول التي لا تقبل النقض، ولا التجاوز، ولا التغيير . وما سوى الأصول من الفروع المتجددة والنوازل المتغيرة تظهر مرونة العقل واجتهاده فيها حسب الأحوال والأمكنة والأزمنة، منطلقا في اجتهاداته من المقاصد والأصول، والثوابت المقررة في الشريعة الإسلامية.
وليس التمسك بالثوابت جمودا، ولا تحجرا، بل هو إقرار واقعي بآدمية الآدمي وبشريته ، وقصور عقله ومحدوديته، وربوبية الرب ، وكمال علمه وحكمته وعظمته وعدله وبره ورحمته .
الثوابت والمقومات التي لا تقبل التغيير ولا التجديد
ثالثا: يستعرض سید قطب – رحمه الله تعالی – بعض الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا التجديد إلا أن يكون التجديد رد الناس إليها بعد ضلالهم عنها، وإزالة الركام والغبار الذي شوهها لتعود كما أنزلت من عند الله عز وجل ؛ فهذا تجدید مقبول، بل واجب ومطلوب ؛ فمن هذه الثوابت قوله: «إن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية – وهي قاعدة التصور الإسلامي – ثابت الحقيقة، وثابت المفهوم أيضا، وغير قابل للتغير ولا للتطوير :
– حقيقة وجود الله وسرمدیته، ووحدانيته، وقدرته، وهيمنته، وتدبيره لأمر الخلق، وطلاقة مشيئته … إلى آخر صفات الله وآثارها في الكون والحياة والناس.
– وحقيقة أن الكون كله – أشياءه وأحياءه – من خلق الله وإبداعه. أراده الله – سبحانه – فكان، وليس لشيء ولا لحي في هذا الكون أثارة من أمر الخلق في هذا الكون، ولا التدبير ولا الهيمنة، ولا مشاركة في شيء من خصائص الألوهية بحال.
– وحقيقة العبودية لله ؛ عبودية الأشياء والأحياء.. وعموم هذه العبودية للناس جميعا – بما فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام – عبودية مطلقة، لا تتلبس بها أثارة من خصائص الألوهية، مع تساويهم في هذه العبودية .
– وحقيقة أن محمدا رسول الله، وأن القرآن الذي أنزل عليه كلام الله ووحيه، وأنه والسنة مصدرا التلقي والتشريع.
– وحقيقة أن الإيمان بالله – بصفته التي وصف بها نفسه – وملائكته ، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ شرط لصحة الأعمال وقبولها، وإلا فهي باطلة من الأساس، غير قابلة للتصحيح، مردودة غير محتسبة وغير مقبولة.
– وحقيقة أن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لا يقبل من الناس دینا سواه، وأن الإسلام معناه إفراد الله – سبحانه – بالألوهية وكل خصائصها، والاستسلام لمشيئته، والرضا بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته، وأنه هذا هو دينه الذي ارتضاه، لا أي دين سواه.
– وحقيقة أن الإنسان – بجنسه – مخلوق مكرم على سائر الخلائق في الأرض، مستخلف من الله فيها، مسخر له كل ما فيها . ومن ثم فليست هناك قيمة مادية في هذه الأرض تعلو على قيمة هذا الإنسان، أو تهدر من أجلها قیمته.
– وحقيقة أن الناس من أصل واحد. ومن ثم فهم – من هذه الناحية – متساوون، وأن القيمة الوحيدة التي يتفاضلون بها . فيما بينهم – هي التقوى والعمل الصالح؛ لا أية قيمة أخرى من: نسب، أو مال، أو مرکز، أو طبقة ، أو جنس.. إلى آخر القيم الأرضية.
– وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني في العبادة لله ؛ بمعنى العبودية المطلقة لله وحده، بكل مقتضيات العبودية، وأولها الائتمار بأمره وحده في كل أمور الحياة – صغيرها وكبيرها . والتوجه إليه وحده بكل نية، وكل حركة وكل خالجة، وكل عمل. والخلافة في الأرض وفق منهجه – أو بتعبير القرآن وفق دينه . إذ هما تعبيران مترادفان عن حقيقة واحدة .
– وحقيقة أن رابطة التجمع الإنساني في العقيدة ، وهي هذا المنهج الإلهي؛ لا الجنس، ولا القوم، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة، ولا المصالح الاقتصادية أو السياسية، ولا أي اعتبار آخر من الاعتبارات الأرضية.
– وحقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء، وأن الإنسان مبتلی وممتحن في كل حركة، وفي كل عمل، وفي كل خير يناله أو شر، وفي كل نعمة وفي كل ضر، وأن مرد الأمور كلها إلى الله .
الحكمة من ثبات هذه المقومات والقيم
هذه وأمثالها من المقومات والقيم كلها ثابتة، غير قابلة للتغير ولا للتطور؛ ثابتة لتتحرك ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع في إطارها، وتظل مشدودة إليها، ولتراعى مقتضياتها في كل تطور لأوضاع الحياة، وفي كل ارتباط يقوم في المجتمع، وفي كل تنظيم لأحوال الناس أفرادا وجماعات، في جميع الأحوال والأطوار.
وقيمة وجود تصور ثابت للمقومات والقيم على هذا النحو هي ضبط للحركة البشرية والتطورات الحيوية ؛ فلا تمضي شاردة على غير هدى؛ كما وقع في الحياة الأوروبية عندما أفلتت من عروة العقيدة الحقة، فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع واللألاء الكاذب، الذي يخفي في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس.
وقيمته هي وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه «الإنسان» بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتطورات ؛ وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات؛ فیزنها بهذا الميزان الثابت ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، ومن ثم يظل دائما في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في الطريق !
وقيمته هي وجود مقوم للفكر الإنساني؛ مقوم منضبط بذاته، يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني؛ فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. وإذا لم يكن هذا المقوم الضابط ثابتا، فكيف ينضبط به شيء إطلاقا إذا دار مع الفكر البشري كيفما دار، ودار مع الواقع البشري كيفما دار؟! فكيف تصبح عملية الضبط ممكنة وهي لا ترجع إلى ضابط ثابت يمسك بهذا الفكر الدوار؟ أو بهذا الواقع الدوار؟!
إنها ضرورة من ضرورات صيانة النفس البشرية والحياة البشرية أن تتحرك داخل إطار ثابت، وأن تدور على محور لا يدور! إنها على هذا النحو تمضي على السنة الكونية الظاهرة في الكون كله، والتي لا تتخلف في جرم من الأجرام!
إنها ضرورة لا تظهر كما تظهر اليوم، وقد تركت البشرية هذا الأصل الثابت، وأفلت زمامها من كل ما يشدها إلى محور؛ أصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور عليه في هذا المدار . ويوشك أن يصطدم فيدمر نفسه ويصيب الكون كله بالدمار.(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71] »1(1) خصائص التصور الإسلامي، ص 85- 89 باختصار، وتصرف يسير ..
الكتاب والسنة هما الحكمان الأساسيان على كل شيء
رابعا: وبناء على هذه الأصول وأمثالها فإن أي متغير يحدث فلا بد أن يكون منطلقه من هذه الأصول لا يخرج عن إطارها.
ويوضح هذه المسألة الشيخ عبد الرحمن المحمود – حفظه الله تعالی – فيقول: «ولما نقول الكتاب والسنة وما يترتب عليهما من الإجماع هو من الثوابت، فهذه قضية كبيرة جدا تتعلق بأي منهجية لمعالجة وضع من الأوضاع، ومن هنا فإنه مهما كان، ومهما وقع من متغيرات في كلام الناس أو اجتهاداتهم أو غير ذلك، فسيبقى في كل لحظة، في كل زمن كتاب الله وسنة رسوله معلمان منیران مضيئان بارزان، يرجع إليهما الناس، وعلى هذا فلا يمكن لأحد أن يلغي – مهما كان – هذين الأصلين الثابتين.
بمعنى: أنه قد يأتي في زمن ما يقال : إن تلك الواقعة الفلانية، والمتغير الفلاني قد أفتى العالم الفلاني وقال فيه : كذا، وكذا!
إنه لا يمكن أن تكون فتوى العالم الفلاني، أو اجتهاده بديلا عن الكتاب والسنة .
فلو قيل إن الطائفة الفلانية صار من عقيدتها كذا، وكذا في باب – مثلا – الإيمان بالصحابة، أو الإيمان بالقدر، أو الإيمان بالملائكة، ونشرت ذلك وانتشر بين الناس، فإنه لا يمكن أن تتحول عقيدتها – هذه – إلى أن تكون أصلا.
فالأصل يرجع إلى الكتاب والسنة، لذلك كان الأصل الكتاب والسنة ، ومن ورائهما الإجماع الذي ينبني على دليل.. هذه ثابتة لا يمكن أن تتغير مع تغير الزمان والمكان، وهذا من حفظ هذا الدين .
لا يمكن لأحد أن يقول: هذا القرآن لا يصلح الآن؛ لأن فيه شدة في العلاقة مع الكفار! كما في قوله تعالى: (حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29]، وقوله سبحانه: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)[المائدة: 51]، وقوله سبحانه: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) [المائدة : 73] وشهادة أن محمدا رسول الله وما تقتضيها هذه الشهادة أمر ثابت، فلو جاءت متغيرات لتقول: لا؛ هذه الشهادة تكون لبعض المسلمين، أو للمسلمين لكن يمكن أن يكون هناك أناس مؤمنون موحدون عابدون لله، يخشعون ويبكون ولكنهم لا يشهدون أن محمدا رسول الله ، فالمفترض أن يكون هناك متغيرات تقبل بهذا ! نقول : کلا؛ شهادة أن محمدا رسول الله ثابت لا يمكن أن يتغير أبدا.
وعلى هذا فأي حوار بين الأديان يصل إلى مستوى الإقرار بأن من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد يكون مؤمنا؟! فإن هذا نقض لأصل ثابت، وهذا لا يمكن أن يدخل من ضمن المتغيرات .
لا يمكن أن نقول: الآن إن الحرب عالمية في قضايا الإلحاد والمادیات وغيرها ؛ فينبغي أن يلتقي أهل الأديان على أي شيء، وأن يعترف بعضهم ببعض!
إن الله قد حكم – حكما قاطعا – أنه من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر ببقية الرسل، وعلى هذا فإننا ننظر اليوم إلى اليهود والنصارى، ونقول : أي واحد من اليهود والنصارى كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فكأنه كفر بموسى عليه السلام ، أو بعيسى عليه السلام ، كما أن واحدا من المسلمين لو آمن بجميع الرسل وکفر بعیسی عليه السلام لعد عندنا كافرا، ولو كفر بموسى عليه السلام لعد عندنا كافرا؛ لأنه لا يجوز التفريق بين الرسل كما هو مقطوع به في كتاب الله عز وجل، هذا أصل ثابت .
وهكذا في بقية أركان الإيمان؛ هذه كلها أصول ثابتة لا تقبل التغير مهما تغير الزمان والمكان»2(2) عن مقال : الثوابت والمتغيرات في موقع شبكة نور الإسلام..
خامسا: العقيدة والأحكام كلها من الثوابت
يظن بعض الناس أن الثوابت إنما هي في مسائل العقيدة وأصول الأخلاق، أما الأحكام الشرعية فهي متغيرة. وهذا الظن غلط كبير وضلال مبين؛ فالشريعة كلها ثابتة من عند الله عز وجل، عقيدة وأحكاما ؛ قال الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية : 18].
فلا يقبل أن يقول جاهل أو معاند: إن الربا كان حراما في وقت يصلح أن يكون فيه محرما، ولكن هذا الحكم يتغير في زماننا اليوم؛ حيث أصبح ضرورة اقتصادية، ولا مناص منه !! فنقول: كلا، بل حكم الله عز وجل في الربا ثابت لا يتغير بتغير الزمان أو المكان. وقل مثل ذلك في أحكام الله عز وجل التي دل الدليل الصحيح على ثبوتها.
ومنشأ هذا الظن الفاسد عند هؤلاء: فهمهم الخاطئ للقاعدة الشرعية التي تقول: «إن الفتوى قد تتغير بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص»، أو أنهم يفهمون معناها ولكنهم يغالطون في فهمها، ويلبسون على الناس بتحريفها بقولهم: (إن الأحكام تتغير بتغير … إلخ) بدل (إن الفتوى …). والفهم الصحيح لهذه القاعدة الشريفة ينبع من معرفة الميزان الإلهي المستقيم للتغيير ؛ ذلك أن أحكام الله ثابتة لا تتغير، وإنما تتغير الفتوى بها حسب اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة. وهذه القاعدة مبنية على قواعد شرعية محكمة، مثل : قاعدة سد الذرائع، وقاعدة العادة محكمة ، وغيرها من القواعد المستنبطة من الأدلة الشرعية الكثيرة، وإنها لا تعني البتة تغيير أحكام الله تعالى وتبديلها؛ فإن هذا لا يكون إلا بالنسخ، والنسخ أغلق بابه بموت النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إنه لا بد لمن يطبق هذه القاعدة أن يكون من أهل العلم الراسخين، لا من أهل الأهواء الملبسين.
ومن المهم التنبيه إلى الفرق بين تغير الفتوى وتغير الحكم. فتغير الحكم لا يكون أبدا ؛ أما تغير الفتوى فيكون بمراعاة المفتي لحال الشخص، أو الزمان، أو المكان، أو بعض الموانع، أو عدم توفر الشروط في المسألة المستفتی عنها. وفي هذه الحالة تكون الفتوى متوافقة مع الحكم؛ لأن الحكم لا يطبق إلا إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه.
والأمثلة التالية توضح هذه المسألة
1- المثال على تغير الفتوى بتغير الأمكنة
وذلك فيما يتعلق بإنكار المنكر؛ فالمكان الذي سيترتب على إنكار المنكر فيه منكر أكبر منه يحرم الإنكار فيه، بينما المكان الذي يزول فيه المنکر بالكلية دون أي مفسدة، أو أنه يزول لكن سيترتب على ذلك منكر آخر أخف منه، فإنه حينئذ يجب الإنكار فيه .. وهكذا فإن الفتوى تتغير حسب ظروف المكان.
2۔ المثال على تغير الفتوى بتغير أحوال الأشخاص
يجوز بيع العنب للناس، إلا إذا تحققنا أن من يشتريه سيصنعه خمرا ، فلا يجوز حينئذ، ومثل ذلك بيع السلاح لمن يشارك به في حرب المسلمين أو حروب الفتن، فإن ذلك لا يجوز، ومثل ذلك تأجير بيت أو محل لمن يغلب على الظن أنه سيستخدمه في الفساد ونشره؛ فإن ذلك لا يجوز، وما سوی ذلك فجائز لأن الأصل الجواز .
3- المثال على تغير الفتوى بتغير العوائد والأعراف
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: «مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة : موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها؛ فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف: لا أركب دابة وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة : الحمار خاصة ؛ اختصت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس، ولا الجمل.
وكذلك إذا حلف: لا أكلت رأسا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة، لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها»3(3) إعلام الموقعين 3/ 67-68. إلى أن قال: «فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه، فتجني عليه، وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به، ففقيه النفس يقول: ما أردت؟ ونصف الفقيه يقول: ما قلت؟»4(4) المصدر السابق 3/72..
سادسا: ومن التغيير الذي يحبه الله ، والذي يجب أن يكون هو میزاننا في التغيير
ما ورد في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]. وهذا هو التغيير الذي يحبه الله ، وهو الذي يقوم به الإنسان ليغير به حاله وحال أمته من الإعراض عن الله ومعصيته إلى الإقبال عليه وطاعته، وهذا النوع من التغيير الجاد هو الذي يغير الله عز وجل به حال الإنسان والأمة من حالة الشقاء والشر والمصائب إلى حالة الخير والرخاء والسعادة والطمأنينة، وأنعم به من تغییر .
سابعا: ومما يدخل في التغيير والتجديد الذي يحبه الله ويوفق هذه الأمة إليه: ما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها)5(5) رواه أبو داود (4270)، عون المعبود 11/285 ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3606) ..
فما معنى التجديد ها هنا؟ أهو التجديد الذي يريده أهل الأهواء من العلمانيين والعصرانيين بتغيير ثوابت هذا الدين وأحكامه مما يناسب أهواءهم في هذه الأزمنة؟ كلا والله ليس هو التجديد الذي يريده الرسول في هذا الحديث، وإنما هو كما قال أهل العلم، وأهل الرواية والدراية عن هذا الحديث ؛ فعن العلقمي في شرحه : «معنى التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما»6(6) عون المعبود 11/386.
ونقل أيضا في عون المعبود قوله: «وقال في مجالس الأبرار : والمراد بتجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وقال فيه : ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه ؛ إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه. وإنما كان التجديد على رأس كل مئة سنة لانخرام العلماء فيه غالبا، واندراس السنن وظهور البدع، فيحتاج حينئذ إلى تجديد الدين ، فيأتي الله تعالى من الخلق بعوض من السلف ؛ إما واحدا أو متعددا انتهى. وقال القاري في المرقاة: أي يبين السنة من البدعة، ویکثر العلم ويعز أهله ، ويقمع البدعة ويكسر أهلها. انتهى.
فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالما بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها ، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان أو تصنیف الكتب أو التدريس أو غير ذلك»7(7) عون المعبود 11/391.
وبهذا الحديث وشرح معناه تبين لنا الميزان الإلهي للتغيير والتجديد ؛ ألا وهو التجديد لهذه الأمة أمر دينها بإحياء ما اندرس من السنة، ورد الناس إليها ، وإزالة الركام والغبار عنها ، وإماتة البدعة والدين الذي لم يشرعه الله ، ولم يشرعه رسوله .
بدعة كفرية يجب الحذر منها
يقول الدكتور محمد اليحيى في مقال له بعنوان : حكاية (النص) وما وراءها: «شاع في الكتابات العلمانية في السنوات الأخيرة إطلاق وصف (النص) على القرآن. فأصبحنا نسمع عبارة (النص القرآني) تتردد كثيرا لدى من يتناولون الأمور الدينية الإسلامية من ذوي المنحى العلماني، وقد يبدو لأول وهلة أن هذا المصطلح أو الوصف يستمد أصله من السياق الإسلامي المعروف حول مفهوم (النص)، والذي يدور حول صفات الوضوح والبيان ، أو القطعية في الدلالة أو الثبوت .. ولكن القراءة المتأنية في مضامین وإيحاءات استخدام هذا الوصف والمصطلح في الكتابات العلمانية تكشف عن أن مفهوم كلمة (النص) عندها يختلف اختلافا جليا عن مفهوم الدراسات الإسلامية للكلمة، ويتصل عضوا بالمفهوم الغربي الأصيل لهذه الكلمة. فما هي أبعاد المصطلح الأوروبي الأصل، ومضامينه وإيحاءاته التي يكرسونها؟
إن أبرز ما يميز مفهوم (النص) في الفكر الغربي الحديث هو: نزع القداسة، والتسوية العمياء بين جميع النصوص .. وهذا هو جوهر المدارس التي عرفت في النهضة الأوروبية …
ومن هنا : فإن الحديث عن (النص القرآني) في سياق هذه الكتابات العلمانية يلف ويدور حول قضايا بعينها، أصبحت مشهورة الآن من كثرة تردیدها واللغط حولها، وهذه هي قضايا ما يسمى بتاريخية النص القرآني ؟ أي : تشكله عبر فترة تاريخية، أو خضوعه في المعنى والتفسير لاعتبارت التاريخ والعهد الذي كتب فيه هذا النص كما عبر أحد الكتاب في هذا السياق، ويرتبط بهذه القضية : ما يطرح حول نسبية المعنى القرآني، وتغيره بتغير العصور والمفسرين، كما يرتبط بها: الحديث حول (بشرية) النص القرآني، بالقول بأن القرآن قد كتب بلهجة عربية معينة، وفي عصر معين، وأنه موجه للبشر؛ ولذلك فإن الطابع البشري يغلب عليه .
وفي الخلاصة : فإن مفهوم (النص) الذي يشيع في كتابات العلمانيين الآن في بلادنا الإسلامية مطبقا على القرآن يتضمن كثيرا من الأفكار التي تهدم أسس الدرس القرآني، ويحول كتاب الله إلى مجرد (کلام بشر) تجوز عليه شتى العمليات الشكلية التي تطبق لتفسير الأعمال الأدبية وتحليلها، وربما جاز التعليق بأن هذا الكلام ليس جديدا عليهم، وإن كان الآن مصاعا بمصطلحات تزعم الجدة والطابع الفلسفي؛ فقد سبق للمستشرقين وأشياعهم منذ أوائل هذا القرن أن وصفوا القرآن بأنه كالعمل الأدبي الذي يجب أن تطبق عليه أساليب الأدب حتى يفهم، ولا يعني ذلك سوى أن القرآن تأليف بشر، وهي دعوى كفار قريش القديمة نفسها، تعود الآن في ثوب عصري معقد، بينما كانت تطرح في الماضي ببساطة ساذجة»8(8) مجلة البيان، العدد 133، ص 60..
الهوامش
(1) خصائص التصور الإسلامي، ص 85- 89 باختصار، وتصرف يسير .
(2) عن مقال : الثوابت والمتغيرات في موقع شبكة نور الإسلام.
(3) إعلام الموقعين 3/ 67-68
(4) المصدر السابق 3/72.
(5) رواه أبو داود (4270)، عون المعبود 11/285 ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3606) .
(6) عون المعبود 11/386.
(7) عون المعبود 11/391.
(8) مجلة البيان، العدد 133، ص 60.
اقرأ أيضا
ميزان التجديد والتغيير في الجاهلية
ميزان العقل والعقلاء في الجاهلية