إذ تأملنا القرآن الكريم، وسيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الدعوة، نصل إلى حقيقة واضحة كل الوضوح. وهي: أن غالب آيات القرآن الكريم جاءت في تقرير عقيدة التوحيد، والدعوة إلى إفراده سبحانه بالتشريع والطاعة، وإفراده سبحانه بالولاء، وإخلاص العبادة والدين لله وحده لا شريك له.
توحيد الطاعة والاتباع أول ما يدعى إليه الناس
هناك من يفهم أن مسألة الحاكمية وتوحيد الطاعة والاتباع لم يكن له ذكر في بداية الدعوة حيث التركيز على العقيدة فقط، وهذا فهم خاطئ نشأ من الخلط بين الدعوة إلى أن يكون الحكم لله وحده وبين إقامة الحكم الإسلامي، والنظر إلى أنهما سواء. وهذا غلط؛ فتوحید الحكم لله وحده مسألة عقدية خوطب بها الناس في أول الأمر وطولبوا بأن لا يشركوا في حكم الله أحد، كما طولبوا بأن لا يعبدوا مع الله أحدا؛ قال تعالى في سورة الكهف – وهي مكية -: ﴿… وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ۲۹]، وقال سبحانه في السورة نفسها: ﴿ … وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:۱۱۰] فتوحید الحكم وهو توحيد الطاعة والاتباع رکن ركين من التوحيد، ويجب أن يكون في أول ما يدعى الناس إليه مع توحيد النسك والعبادة سواء بسواء؛ لأنه يعني رد الأمر إلى الله عز وجل في كل شيء وتوحيد مصدر التلقي في الله وحده.
الدعوة إلى قبول الشريعة قبل الدعوة إلى إقامتها
أما موضوع الدعوة إلى إقامة النظام والحكم الإسلامي فهو شيء آخر، فهو لا بد أن يسبقه فهم العقيدة وتعلمها واستسلام القلوب لها والولاء والبراء على أساسها. ولذلك يخطئ خطأ بالغا من يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله لم تتوجه دعوتهم إلا لمحاربة الأصنام والأوثان . وأمرهم بعبادة الله وحده بالصلاة والذبح والنذر والاستعانة … إلى آخر أنواع العبادة، وأنهم لم يتطرقوا للحكم والتحاكم! إن هذا غلط فاحش ولا أدل على ذلك من ورود ذكر الحكم والتحاكم ، ورد الحكم إلى الله تعالى في كثير من السور المكية والتي نزلت في أول الدعوة إلى العقيدة. ومن ذلك :
قوله تعالى في سورة الأنعام – وهي مكية بالإجماع -: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: 114]، وقوله تعالى في السورة نفسها: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ۱۲۱]، أي أن استحلال الميتة التي حرمها الله عز وجل وطاعة غير الله في ذلك هو شرك أكبر لأنه رد لحكم الله وقبول حكم غيره .
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: (فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشریع الرحمن مشرك بالله تعالى)1(1) أضواء البيان ( 7/170)..
وقوله تعالى في سورة القصص وهي مكية: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ۷۰] وقوله تعالى في نفس السورة: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ۸۸]. وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام وهو يدعو صاحبي السجن إلى التوحيد: ﴿ … إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف : 40]، وقوله تعالى عن يعقوب عليه السلام قوله: ﴿… إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف : 6۷]، وقال تعالى في سورة الشورى – وهي مكية -: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: ۱۰]، وعندما نقول عن السورة أنها (مكية) فإنما نقصد أن هذه الآيات قد نزلت ولم يقم بعد للمسلمين نظام ولا حكم ولا دولة.
رد الأمر لغير الله -شرك التشريع- أساس كل انحراف
أبعد هذا يجوز لقائل أن يقول إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يضمنوا دعوتهم إلى العقيدة، بادئ ذي بدء مسألة الحكم والتحاكم؟! إن رد الأمور إلى حكم الله عز وجل وحده هو أخص خصائص العقيدة، بل إن انحراف الناس عن التوحيد ووقوعهم في الشرك بشتى صوره لم ينشأ إلا لعدم رد الأمر إلى حكم الله عز وجل وأمره ونهيه؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة : 104].
فبين عز وجل في هذه الآية أن منشأ کفرهم وشركهم أنهم ردوا أمرهم إلى حکم آبائهم وعاداتهم ولم يردوه إلى الله عز وجل ورسوله.
التوحيد أولا أيها الدعاة
إن أمر العقيدة شأنه عظيم، وأنه أول ما دعى إليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن على من جاء بعدهم أن يهتدي بهديهم ويقتدي بمنهجهم، بالتركيز على موضوع العقيدة بكل شمولها، فيتعلمها الدعاة إلى الله عز وجل، ويعملوا بمقتضاها، ويدعوا الناس إليها، ويربوهم عليها، ويصبروا على ما يصنعه الباطل وأهله من عراقيل تصد الناس عنها، وأن يضحوا من أجلها ويصبروا على ما يصيبهم في سبيلها فإن العاقبة للمتقين .
إن إدراك هذا المعلم المهم من معالم دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مهم جدا وبخاصة في مثل زماننا اليوم، الذي يشهد كثرة المناهج الدعوية وتباين أهدافها ووسائلها . إن غياب هذا المعلم أو الغفلة عنه عند البعض نشأ عنه عدة مشارب ومدارس دعوية مختلفة، نظر كل منها إلى واقع الأمة فشخص مرضها وانطلق من تشخيصه هذا في العلاج؛ ومع أن كل هذه النظرات كان لها دور إيجابي في دعوتها ولا يجوز بحال أن نبخسها حقها أو أن نتجاهل ما تقدمه من خير ودعوة لهذا الدين، إلا أن واجب النصح بين المسلمين، وواجب التعاون على البر والتقوى يقتضي توجيه النصح لكل هؤلاء بالانتباه إلى أصل المرض قبل العرض؛ وذلك بالتأكيد على العقيدة بكل شمولها وضرورة البدء بها في الدعوة إلى الله عز وجل، وضرورة تعلمها وفهمها الفهم الذي يريده الله سبحانه، والذي بعث به رسله عليهم الصلاة والسلام وبلغوه لأقوامهم.
العقيدة من أجل إحياء الأمة
ولا نريد من تعلم العقيدة وفهمها ذلك العلم النظري والفهم العقلي فحسب، کلا وإنما نريد ترجمة هذا الفهم وهذا العلم إلى صورة حية تستقر في القلوب وتتحرك في الواقع. نعم لا نريد هذه الصور المؤسفة التي يسير عليها تعليم العقيدة في كثير من بلدان المسلمين اليوم من شحن الأذهان بمعلومات ومعارف كثيرة يتنافس الطلاب على إخراجها في الامتحانات، ثم تطوى وتنسى ولا يكون لها أثر في الضمائر والواقع. إن أخذ العقيدة بهذا الأسلوب لا يحتاج إلى أكثر من عدة شهور حتى تمتلئ الأذهان بها وينتهي الأمر. أما أخذ العقيدة لتعقد عليها القلوب وتتغير بها الأعمال والمواقف ويجاهد في سبيلها حتى تتغير النفوس ويكون الدين كله لله؛ فإن مثل هذا المأخذ سيحتاج إلى وقت طويل وصبر مرير. وهذا ما قام به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى هذه العقيدة وتربية الناس عليها حتى أن أولهم نوح عليه الصلاة والسلام لبث يدعو قومه إليها ألف سنة إلا خمسين عاما كلها صبر ومعاناة وتضحيات. فهلا اعتبرنا بذلك في عدم العجلة وعدم استطالة الطريق؟ وهلا وطنا أنفسنا على الصبر والتضحية؟!
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة وأن تتم خطوات البناء على مهل، وفي عمق وتثبت .. ثم هكذا ينبغي ألا تكون مرحلة دراسة نظرية العقيدة، ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة – أولا بأول – في صورة حية، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي ….، يعبر نموه من داخله ومن خارجه عن نمو العقيدة ذاتها، متمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية، وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك، لتتمثل العقيدة حية، وتنمو نموا حيا في خضم المعركة.
وخطأ أي خطأ – بالقياس إلى الإسلام – أن تتبلور العقيدة في صورة نظرية، مجردة للدراسة الذهنية.. المعرفية الثقافية)2(2) معالم في الطريق : ص 44 ( باختصار)..
شبهة وجواب
وقد يقول قائل: إننا ولله الحمد في زماننا اليوم نختلف عن حالة الناس قبل بعثة الرسل إليهم، فالتوحيد منتشر بين الناس اليوم، والدعوة قائمة والصلاة تؤدى، .. إلخ فلماذا البدء في الدعوة اليوم من العقيدة، والعقيدة موجودة؟
والجواب على ذلك: صحيح أن الوضع يختلف من حيث بقاء أصل الخير وبقاء طائفة تدعو إلى الحق حتى يأتي أمر الله تعالى، وأن الجاهلية المطلقة في الزمان قد انتهت بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن هذا لا يعني أن الشرك لم يخرج في هذه الأمة بل إن كثيرا من صور الشرك قد خرجت اليوم بشكل يعلمه القاصي والداني، وعادت غربة الإسلام التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبی للغرباء»3(3) رواه مسلم (145) في الإيمان باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبا ..
والدليل على ذلك ما يلي:
ظواهر الشرك وقد انتشرت
– ألم تظهر في كثير من بلدان المسلمين صور صارخة من الشرك الصريح الذي يهدم التوحيد من أساسه، كالطواف حول القبور والاستغاثة بالأولياء، وطلب شفاعتهم، ورفع الحوائج إليهم، والذبح والنذر لهم.. إلى آخر أنواع العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله الواحد القهار؟!
– ألم يظهر في كثير من بلدان المسلمين ما يسمى بالطرق الصوفية وما يعتقد في مشائخها من عصمة وكشف وعلم للغيب، ناهيك عن البدع الشنيعة التي عمت وطمت عندهم؟!
– ألم ينتشر بين كثير من المسلمين اليوم الذهاب إلى الكهنة والسحرة وأهل الشعوذة واستجابة الناس لمطالبهم الشركية الشيطانية ؟!
– ألم ينح شرع الله عز وجل في أكثر بلدان المسلمين، حتى أصبح شرع الطاغوت الظالم الجاهل هو الذي يحكم في دماء المسلمين وعقولهم وأموالهم وأعراضهم، وظهر الشرك في الحكم وتوجهت الطاعة في التحليل والتحريم إلى غير الله تعالى؟!
– ألم ينجم النفاق وتظهر الزندقة – العلمانية – في زماننا اليوم من أناس هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، يرفعون عقيرتهم بأنه لا دخل للإسلام في الحياة والسياسة والاقتصاد وغير ذلك؟!
– ألم تستمر الفرق الضالة القديمة تبث بدعها اليوم وتلبس على الناس دينهم وعقيدتهم من رافضة ومعتزلة ومرجئة وخوارج وأشعرية … إلخ.
– ألم تقم ولاءات أكثر الناس اليوم على غير العقيدة؛ إما على أساس الجنس أو الوطن أو القوم أو ….. إلخ .
– بل ألم يوال أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الشرك والإلحاد؟!
فهل بعد هذا مجال لقول من يقول: إن عقيدة الأمة لا زالت بخير، وإن الحديث حول مسائل العقيدة أمر مبالغ فيه؟!
التوجيه الإسلامي الشامل
إن القول بضرورة التركيز على العقيدة والبدء بها مع الناس لا يعني إهمال جوانب الدين الأخرى في الدعوة إلى الله عز وجل. بل لابد أن يكون لها اهتمامها الخاص، ولابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أحکام دینهم من صلاة وزكاة وحج وصيام وغير ذلك من أحكام العبادات والمعاملات، وتحذيرهم من الفساد في الأخلاق والسلوكيات . كل هذا ينبغي أن يسير جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى العقيدة وإفهام الناس لها. والقلوب لا زال فيها خير إن شاء الله تعالى، فلذلك ينبغي إيقاظ هذا الخير وإزالة الركام عنه. وهذا هو الفرق بين الدعوة إلى العقيدة في أمة أطبق عليها الشرك كما هو الحال قبل بعثة كل نبي، وبين أحوالنا اليوم حيث لا زالت آثار الإسلام باقية ..
الهوامش
(1) أضواء البيان ( 7/170).
(2) معالم في الطريق : ص 44 ( باختصار).
(3) رواه مسلم (145) في الإيمان باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبا .
اقرأ أيضا
من هدي الأنبياء في الدعوة ..العقيدة أولا
سورة الأنعام .. البدء بالعقيدة وأثره العملي
خطوات الشيطان؛ وفاحشة التشريع من دون الله