البدء بالعقيدة منهج رباني اختاره الله لنبيه للصدع بالحق وبيان الحق، وكان لهذا أثر عميق في حياة الأمة وإقامة الدين. واستلهام الدرس اليوم ضرورة.

تميز السورة

اشتملت هذه السورة الكريمة على تفاصيل العقيدة وأركان الإيمان وأصوله، وإقامة الحجة على الكفار والمشركين، وتسفيه تصوراتهم وعقائدهم الباطلة ببراهين وحجج دامغة.

ففيها تقرير توحيد الربوبية والألوهية، وإبطال عقائد المشركين، ومحاجتهم في ذلك بالعقل والسمع، وفيها تقرير الإيمان بالملائكة والرسل، وإثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بكتابه سبحانه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيها إثبات اليوم الآخر والإيمان بالقدر.

فكل أركان الإيمان تحدثت عنه هذه السورة بصورة مفصلة، ونزلت جملة واحدة في مكة؛ لا تدرُّج فيها كما يكون في الأحكام؛ لأن أصول الإيمان والعقيدة لا تقبل التدرّج ولا التأجيل.

سورة الحُجة

وقد سمى بعض العلماء هذه السورة إضافة إلى اسمها “الأنعام” سورة “الحجة”، لإقامة الحجة على صحة التوحيد وبطلان الشرك.

يقول الشيخ البقاعي رحمه الله تعالى في «نظم الدرر»:

“وهي ـ أي الأنعام ـ كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب الملحدين”. (1)

قضية “الانسان”

وهنا كلام نفيس للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أنقله ـ مختصرًا ـ من مقدمة سورة الأنعام، حيث يقول:

«هذه السورة مكية.. من القرآن المكي.. القرآن الذي ظل يتنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عامًا كاملة، يحدثه فيها عن قضية واحدة، قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر، ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى!

لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا الدين الجديد، “قضية العقيدة”، ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة.

إنها قضية “الإنسان” التي لا تتغير، لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيرِه، قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء.. وهي قضية لا تتغير، لأنها قضية الوجود والإنسان !

لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله..

كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء؟ وكيف جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟

من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟..

وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه، والذي يحس أن وراءه غيبًا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يَحُورُه؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟..

وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضًا، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد.

وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود “الإنسان”، وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده، على توالي الأزمان.

وهكذا انقضت ثلاثة عشر عامًا كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى، القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان، إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات”. (2)

آثار عملية عميقة

ويقول رحمه الله:

“فلما تقررت العقيدة ـ بعد الجهد الشاق ـ وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لمّا عرف الناس ربهم وعبدوه ووحَّدوه.. لمّا تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب: «لا إله إلا الله».. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.

تطهرت الأرض من الرومان والفرس؛ لا ليتقرر فيها سلطان العرب، ولكن ليتقرر فيها سلطان الله.. لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانيًّا وفارسيًّا وعربيًّا على السواء.

وتطهّر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته، وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده؟ ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسمًا آخر؛ ويكتب عليها: «لا إله إلا الله»!

وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح؛ دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله ـ إلا في الندرة النادرة ـ لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر؛ ولأن الطمع في رضا الله وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه، قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات..

وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط؛ والتي لم ترتفع إليها من بعدُ إلا في ظل الإسلام. (3)

بيان أركان توحيد العبادة

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتأمل بعض الآيات في سورة الأنعام وكونها تمثل أركان التوحيد:

“الرضا بالله ربًّا: ألا تتخذ ربًّا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 164].. يعني: فكيف أطلب ربًّا غيره وهو رب كل شيء.

وقال في أول السورة: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ [الأنعام: 14]. يعني: معبودًا وناصرًا ومعينًا وملجأً وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.

وقال في وسطها: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ [الأنعام: 114]. أي: أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه، وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلًا مبينًا كافيًا شافيًا.

وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا، ورأيت الحديث يترجم عنها (4)، ومشتق منها.

فكثير من الناس يرضى بالله ربًّا ولا يبتغي ربًّا سواه، لكنه لا يرضى به وحده وليًّا وناصرًا، بل يوالي من دونه أولياء، ظنًّا منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك، بل التوحيد ألا يتخذ من دونه أولياء.

والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء، وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته؛ فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرق بينهما فليطلب التوحيد من أساسه؛ فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه.

وكثير من الناس يبتغي غيره حكمًا، يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضى بحكمه.

وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: ألا يتخذ سواه “ربًّا” ولا “إلهًا” ولا غيره “حكَمًا”. (5)

ضرورة البدء بالعقيدة

ومرة أخرى يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في كلام نفيس في مقدمة سورة الأنعام، وهو يؤكد على ضرورة البدء من العقيدة، ولماذا جاء القرآن المكي في العهد المكي كله في بيان العقيدة الإسلامية وأركانها، وتأسيس ذلك في قلوب المؤمنين، ولم يكن فيه شيء من تفاصيل الأحكام الشرعية؟

يقول رحمه الله تعالى:

“….ومتى استقرت عقيدة: «لا إله إلا الله» في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه: «لا إله إلا الله»، وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة، واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تُعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تُعرض عليها تشريعاته، فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان.

وبمثل هذا الاستسلام تلقّت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضا والقبول؛ لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها، ولا تتلكَّأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له.

وهكذا أُبطلت الخمر، وأُبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها..

أُبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطانها، ودعايتها وإعلامها؛ فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات.

والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده.. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير، عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله، ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية.

وموضوع السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد.. فالله هو الخالق، والله هو الرازق، والله هو المالك، والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان، والله هو العليم بالغيوب والأسرار، والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار.

وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياة العباد؛ وألا يكون لغيره نهي ولا أمر، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم.

فهذا كله من خصائص الألوهية، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله، لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يضر ولا ينفع، ولا يمنح ولا يمنع، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا في الدنيا ولا في الآخرة. (6)

منهج دائم

لقد كان للمنهج الذي اختاره الله تعالى للدعوة والبدء بها، اختيارا وراءه حكمة عملية، تحتاجها أجيال البشرية جميعا، ويحتاجها الدعاة في كل وقت.

لم يكن اختيارا آنيا أو لملابسات محلية، بل هو نقطة البدء دوما مع “الانسان” ومع البشرية كلها، فالإنسان يحتاج الى استقامة عقيدته قبل كل حركة يخطوها، وكذلك المجتمع لا يستقيم له أمر حتى يحدد وجهة تلقيه للشرائع ومبدأ اعتقاده وهويته، وإذا تحدد هذا فما بعده أيسر.. والله تعالى الموفق.

………………………………………….

الهوامش:

  1. «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (7/2).
  2. «في ظلال القرآن» (2/1004-1008) باختصار.
  3. المصدر السابق.
  4. يعني حديث: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا». رواه مسلم (34).
  5. «مدارج السالكين» (2/181-182).
  6. «في ظلال القرآن» (2/1009-1017) باختصار.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة