بدون الصبر أو بضعفه لا يستطيع العبد أن يجاهد نفسه على تعلم الشريعة والتبصر في الدين، كما أنه يعجز عن العمل بما تعلمه، فضلاً عن أن يدعو إلى هذا الهدى ويبينه للناس، ويتحمل ما يلاقيه في سبيل ذلك·
استعجال النتائج وعدم الصبر على طول الطريق
ينظر كثير من الناس إلى أن ضعف الصبر لدى الداعية أو المجاهد إنما يتمثل في عدم تحمله لأعباء الطريق وأذى الأعداء مما يجعله يرجع إلى الوراء فيفتر أو يترك الدعوة والجهاد، أو يداهن الأعداء أو ييأس ويصيبه الإحباط·
وهذا لاشك أنه ضعف في الصبر والتربية، لكن ضعف الصبر لا ينحصر في هذا فقط، وإنما هناك نوع آخر من ضعف الصبر في طريق الدعوة والجهاد قد ينظر إليه في الوهلة الأولى أنه شجاعة وإقدام وقوة وصبر، ولكنه في الحقيقة إنما نشأ من ضعف في الصبر واستعجال للنتائج· وتتجلى أهمية هذا الأمر بخاصة في واقعنا المعاصر الذي يشهد من بعض الدعاة حماسًا مفرطًا واستعجالاً ومسارعة لمواجهة الأعداء قبل الإعداد والاستعداد لذلك علمًا وعملاً ودعوة وعدة وعتادًا·
وقد ينظر إلى هذه الممارسات – كما أسلفت – على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، لكنها – والله أعلم – قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد· وزاد في إذكائها أذى الأعداء وما يواجهون به الدعاة من السجن والتعذيب والتقتيل1(1) لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك..
وقفات مع آية كف اليد ومدلولاتها
وهنا يحسن الاستئناس بآية (كف اليد) في مكة؛ حيث أُمِرَ المسلمون بذلك لحكمة عظيمة، وأحسب أن المقام مناسب لذكرها والوقوف عند مدلولاتها، وما مدى الاستفادة منها في ضوء الصراع القائم اليوم مع الكفار والمنافقين في داخل بلدان المسلمين·
يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:77] ، وامتثل الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون معه أمر ربهم فكفوا أيديهم في مكة وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى كل الممارسات الاستفزازية، مع قدرتهم الفردية على الرد والانتقام، ووجه الرسول – صلى الله عليه وسلم – همه إلى البيان والبلاغ بدعوة التوحيد، وإلى التربية الجادة لمن دخل في الإسلام، مع الاستمرار على ضبط النفس، حتى أذن الله عز وجل لهم بعد ذلك في الهجرة ثم الجهاد·
رفع الالتباس وبيان حقيقة الإسلام واجب المرحلة
ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصبره وعدم عجلته في تلك الظروف العصيبة أسوة حسنة، وبخاصة من يعيش اليوم في ظل الأنظمة التي تدعي انتسابها إلى الإسلام في الظاهر بينما حقيقتها أنها عدوة للإسلام وأهله؛ حيث يحكم فيها بحكم الطاغوت ويوالى أعداء الله ويؤذى فيها أولياء الله عز وجل ودعاته المصلحون· فما أشبه واقع المصلحين اليوم في ظل هذه الأنظمة بواقع الرسول – صلى الله عليه وسلم – في ظل سلطة قريش، مع وجود فارق مهم يؤكد على ضرورة الصبر على الدعوة والبيان في هذا الزمان أكثر من أي زمان مضى؛ ذلك أن الأنظمة المعاصرة لا تعلن عداءها للإسلام صراحة ولا كفرها برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم -،بل تدَّعي الإسلام والإيمان زورًا وتلبيسًا· ولا يخفى ما في هذا من التلبيس والخداع الذي يحتاج فيه الدعاة والمجاهدون إلى وقت ليس بالقصير، وجهد ليس بالقليل ليصبروا ويكفوا أيديهم ويركزوا على إزالة هذا اللبس وبيان حقيقة الإيمان الحق، وحقيقة الكفر والنفاق، وحقيقة سبيل المجرمين مع الإعداد الشامل المذكور في المراتب السابقة·
ولو قفزت مرحلة البيان للناس والإعداد الإيماني للمجاهدين إلى مرحلة الصدام مع هؤلاء الزنادقة المعاصرين فلا يخفى على اللبيب المتتبع لسنن الله عز وجل، وسنن المرسلين، ورصيد التجارب في القديم والحديث ما نشأ وينشأ من جراء ذلك من المفاسد والفتن والشرور· وإنَّ السعيد لمن جنب الفتن واتعظ بغيره·
كلام المفسرين حول آية (كف اليد)
ولعل من المفيد في هذا المقام أن نقف على بعض ما كتب حول آية (كف اليد) المذكورة آنفًا·
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (كان المؤمنون في ابتداء الإسلام – وهم بمكة – مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب ، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة ، منها : قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض ، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا . فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة ، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار)2(2) تفسير ابن كثير: سورة النساء آية رقم: 77. .
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: (إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة .. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف. لا عن شجاعة واحتمال وإصرار. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال. قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل. دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار .. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا. فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا .. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف. فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته ..
والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك! وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة. فيندفع يطلب من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسول – صلى الله عليه وسلم – يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب. فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبررا أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!) .
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا. بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا. فالإيمان الذي لم ينضج بعد والتصور الذي لم تتضح معالمه ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض – وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته – بأي لون من ألوان الفتنة ..)3(3) في ظلال القرآن: (2/712-713)..
الحكمة من عدم القتال في العهد المكي
ثم عرج على بعض الحكم من كف اليد في مكة والأمر بالصبر فقال رحمه الله تعالى: (أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها. لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ونفرض على أوامره أسبابا وعللا، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية. أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم – سبحانه – أن فيها الخير والمصلحة .. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف. أو أي حكم في شريعة الله – لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما – فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه .. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال. ولا يجزم – مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله – بأن ما رآه هو حكمة هو الحكمة التي أرادها الله .. نصا .. وليس وراءها شيء، وليس من دونها شيء! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله. ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة.
بعض الأسباب والحكم الربانية في عدم فرض الجهاد في مكة
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة .. نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب .. على أنه مجرد احتمال .. وندع ما وراءه لله. لا نفرض على أمره أسبابا وعللا، لا يعلمها إلا هو .. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب .. اجتهادية .. تخطىء وتصيب. وتنقص وتزيد. ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله. وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
( أ ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية النفس على الصبر وضبط النفس لأناس كانوا يثورون لأول وهلة ولا يصبرون على الضيم.
( ب ) وربما كان ذلك أيضا، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ، في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف والتي قد يدفعها القتال معها – في مثل هذه الفترة – إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية …
( ج ) وربما كان كذلك لما يعلمه الله عز وجل من أن كثيرين من المعاندين هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين…
( د ) وربما كان كذلك لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة، فلو وقع القتال لمحيت الجماعة المسلمة وبقي الشرك….
( هـ ) لم يكن هناك حاجة للقتال، فقد كانت الدعوة تصل إلى الناس ويبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو المطلوب في هذه الفترة…)4(4) في ظلال القرآن: (2/713-715) باختصار شديد..
ويشير الأستاذ محمد قطب رحمه الله تعالى إلى بعض هذه الأحكام فيقول: (من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكرًا به: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [النساء: من الآية77] .
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: “ما أمرنا بقتالهم”5(5) ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/462-460) وصحح إسناده الأرناؤوط في “زاد المعاد”: (3/460)..
ولم يرد في النصوص – لا في الكتاب ولا في السنة – بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت·
الفوائد التي تحققت حين كف الصحابة أيديهم
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار·
ونفترض أن المعركة – على الرغم من عدم تكافئها – لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث في وقتنا الحاضر·
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعًا لقريش··!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية··! ومن حق صاحب الشرعية – ولا شك – أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشًا تشتد في “التأديب” إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته – أو جواره – على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس – من حيث المبدأ – أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذٍ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم·
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة ····· ومن خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ!
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيرًا تكوّن النواة الأم، ولتغيرت كثيرًا صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء ·· لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة·
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير ·· إنه قضية لا إله إلا الله دون غيرها من القضايا ··
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عُرضت السلطة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأباها، وأصرَّ على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة) ··
ليس الصراع على “شرف” سدانة البيت، ولا “وجاهة” خدمة الحجيج ··
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد·
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي – والتي يجب أن تكون دائمًا – القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان؛ قضية من المعبودُ؟ ومن ثَمَّ من صاحبُ الأمر؟ من المشرِّع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريدونها لله·
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعد الصلبة، التي ستحمل البناء، وتم تحرير قضية “الشرعية” ، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين·
وتم أخيرًا اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع·
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك؛ وهو التجرد لله·
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العالمين على وجه العموم·
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول – صلى الله عليه وسلم -، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله)6(6) “كيف ندعو إلى الإسلام”: (ص 14 – 23) باختصار..
والمقصود بيان أن الاستعجال في جهاد الكفار قبل الإعداد الإيماني المتمثل في التربية على العلم بالشرع ورسوخ العقيدة، والعمل الصالح، والدعوة والبلاغ للناس؛ فيه من المفاسد والشرور التي يتحتم على الدعاة والمجاهدين أن يدرءوها بالصبر وضبط النفس ومواصلة الإعداد الشامل حتى يهيئ الله عز وجل الظروف والأسباب التي يُمَكِّن الله بها لأهل الحق ويدمغ الباطل وأهله·
ليسوا مخذلين..ولكنه الأخذ بأسباب النصر والتمكين
وإن الناظر اليوم في بعض الحركات المتعجلة التي أعلنت الجهاد قبل الإعداد والدعوة والبيان الكافية لتجلية سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين للناس، ليرى فتنًا ومفاسد قد ظهرت بسبب هذا الاستعجال وضعف الصبر على طول الطريق· وقد يتهم بعض المتحمسين لبدء الصدام مع الكفار والمنافقين إخوانهم الذين يرون التربية والإعداد والبدء بجهاد البيان قبل جهاد السنان بأنهم مخذلون، أو أنهم يريدون السلامة وعدم التعرض لأي شيء يؤذيهم ويكدر عليهم حياتهم·
وللرد على هذه التهمة يقال لهم: إن إخوانكم الذين يرون الصبر على جهاد النفس وجهاد البيان للناس إنما هم في جهاد ويشاركونكم الغاية والهدف، وهم بذلك يعدون العدة لجهاد الكفار وقتالهم في الوقت المناسب بعد الأخذ بأسباب النصر والتمكين· وهم بطرحهم هذا يؤدون واجب النصح لكم لما في قلوبهم من الشفقة عليكم، والحب والولاء لكم، ولكل من يهمه أمر هذا الدين ويسعى لنصرته؛ فهم يتواصون معكم بالحق والصبر وليسوا مخذلين·
أما القول بأنهم يسعون بطرحهم هذا إلى تجنيب أنفسهم البلاء والعناء، فلا شك أن السلامة والعافية مطلوبان، لكن الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله عز وجل في عباده وبخاصة الدعاة منهم والمجاهدين، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31] .وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:1 – 2] .
وإن جهاد النفس، والبيان للناس ليس أمرًا هينًا· وأصحابه معرضون لأذى الأعداء وسجونهم وتعذيبهم؛ لأن جهاد البيان يقتضي بيان الحق، وفضح ما يضاده من الباطل، وهذا أمر لا يرضى به الكفار والمنافقون ومن ثم سيجندون وسائلهم المختلفة من تشويه، وترغيب وترهيب، وكل ما يستطيعون لإخماد صوت الحق وإسكات أهله· وهذا كله بلاء وفتنة يتعرض لها الدعاة الذين يعدون أنفسهم وأمتهم للجهاد، وليكون الدين كله لله·
وإن مما يؤسف له أن الخطاب الدعوي اليوم يفتقد إلى البلاغ المبين، بل إن كثيراً منه يعطي الشرعية للطاغوت إما ضمناً وهو الأكثر وإما تصريحاً؛ ولا يخفى ما في ذلك من التلبيس·
والواجب على رموز الدعوة أن يبينوا الحق والباطل للناس ويتجنبوا الخطابات السياسية التي تشوش وتلبس على الناس فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما سأله النجاشي عن قولهم في المسيح كان البيان منه واضحًا صريحاً· وكان هذا الجواب منه يمكن أن ينهي وجود المسلمين معه في الحبشة· لكن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم قد تعلموا من مدرسة النبوة أن لا تنازل عن الثوابت والمحكمات حتى في مرحلة السلم والاستضعاف·
الهوامش
(1) لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك.
(2) تفسير ابن كثير: سورة النساء آية رقم: 77.
(3) في ظلال القرآن: (2/712-713).
(4) في ظلال القرآن: (2/713-715) باختصار شديد.
(5) ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/462-460) وصحح إسناده الأرناؤوط في “زاد المعاد”: (3/460).
(6) “كيف ندعو إلى الإسلام”: (ص 14 – 23) باختصار.
اقرأ أيضا
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق