في هذا المقال إيراد بعض الأحاديث الصحيحة والآثار المروية عن بعض السلف ، والتي يظهر منها مدى خوف القوم وتحذيرهم من يوم القيامة وأنبائه العظيمة ، كما يظهر مدى الاستعداد له بالعمل الصالح وترك كل ما يلهي ويشغل عن تذكره والتزود له .
أولا: الأحاديث الواردة للتحذير والتخويف من النبأ العظيم
الحديث الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر ، يا بني عديّ ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا ، فجلع الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغيرَ عليكم أكنتم مصدقيّ ؟) قالوا: نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)1(1) رواه البخاري / ك التفسير ( 4770 ) . ومسلم بنحوه / ك الإيمان ( 208 ) ..
الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزلت هذه الآية: (أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً؛ فاجتمعوا فعمَّ وخص ، فقال: (يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)2(2) رواه مسلم بشرح النووي ( 3 / 80 ) ط10 المطبعة المصرية ومكتبتها ..
الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش ، وهذه الدواب التي في النار ، يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ، ويغلبنه ، فيقتحمن فيها ، قال: فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار ؛ هلم عن النار ، هلم عن النار ، فتغلبوني ، تقحَّمون فيها)3(3) البخاري بنحوه في الرقاق ( 6483 ) ، ومسلم واللفظ له في الفضائل ( 2284 ) ..
الحديث الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً)4(4) البخاري في الرقاق [ ( 11 / 327 ) ( 6486 ) فتح ] ..
الحديث الخامس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الأذن متى يؤمر بالنفخ فينفُخ) فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا)5(5) رواه الترمذي / ك صفة القيامة ( 7 / 145 ) [ 2433 ] ، وقال : حديث حسن. وذكره الألباني في الصحيحة ( 1079 ) من طرق ..
الحديث السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً) قلت: يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ! قال: (يا عائشة ، الأمر أشد من أن يهمهم ذلك)6(6) البخاري في الرقاق ( 6527 ) ، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 2859 ) ..
الحديث السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة)7(7) الترمذي في صفة القيامة ( 2452 ) ، وقال : حسن غريب ، وهو في صحيح سنن الترمذي ( 1993 ) ..
ثانيا: الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين
1ـ عن الضحاك قال: (رأى أبو بكر الصديق طيراً واقعاً على شجرة، فقال: طوبى لك يا طير! والله لوددت أني كنت مثلك ، تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر ، ثم تطير ، وليس عليك حساب ولا عذاب)8(8) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 259 ) ..
2ـ عن سليمان بن يسار، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حضرته الوفاة ، قال له المغيرة بن شعبة: هنيئاً لك يا أمير المؤمنين الجنة ، فقال: يا ابن أم المغيرة وما يدريك؟ والذي نفسي بيده لو كان لي ما بين المشرق إلى المغرب لافتديت به من هول المطلع9(9) وصايا العلماء للحافظ الربعي . ت مصطفى عبدالقادر عطا ص47 ..
3ـ وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته ، ويقول: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير)10(10) الجواب الكافي ص59 ..
4ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أنتم أكثر صياماً وأكثر صلاة وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة)11(11) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 295 ) ..
5 ـ عن همام قال: (لما حضر أبا هريرة الموتُ جعل يبكي ، قيل له : ما يبكيك يا أبا هريرة ؟ قال : قلة الزاد وبُعد المفازة ، وعقبة هبوطها الجنة أو النار)12(12) وصايا العلماء ص82 ..
6 ـ عن قيس ، أن عبد الله بن رواحة بكى ؛ فبكت امرأته، فقال : ما يبكيك؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت ، فقال: (إني أنبئت أني وارد ، ولم أنبأ أني صادر)13(13) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 357 ) . .
7 ـ عن ابن شماسة المهري ، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار. فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بَشَّرَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟ أما بَشَّرَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه ، فقال: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث؛ لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منِّي، ولا أحب إليَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار .
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضتُ يدي. قال: (مالك يا عمرو؟) قال: قلت: أردت أن أشترط. قال: (تشترط بماذا؟) قلت: أن يغفر لي. قال: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟) وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة .
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت ، فلا تصحبني نائحة ولا نارٌ ، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رُسُل ربي)14(14) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ـ باب كون الإسلام يهدم ما قبله ( 121 ) ..
8 ـ وعن زياد بن ماهك قال : كان شداد بن أوس يقول: (إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه ، ولن تروا من الشر إلا أسبابه ، الخير كله بحذافيره في الجنة ، والشر بحذافيره في النار ، وإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قاهر ، ولكلٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا)15(15) سير أعلام النبلاء ( 1 / 709 ) ..
9 ـ وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس الأنصاري رضي الله عنه أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه ، لا يأتيه النوم فيقول: (اللهم إن النار أذهبت مني النوم ، فيقوم يصلي حتى يصبح)16(16) الحلية ( 1 / 264 ) ..
10 ـ عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك ، قال: (بكى عمر بن عبد العزيز ؛ فبكت فاطمة ، فبكى أهل الدار ، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء . فلما تجلَّى عنهم العَبْرُ ، قالت فاطمة : بأبي أنت يا أمير المؤمنين! ممَّ بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله: فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ثم صرخ وغُشي عليه)17(17) الحلية ( 5 / 269 ) ..
11 ـ عن محمد بن فروخ من ولد أبي نضرة ، قال: (زارني رياح القيسي ، فبكى صبيٌّ لنا من الليل ، فبكى رياح لبكائه حتى أصبح ، فذاكرتُه يوماً ذلك ، فقال : ذكرت ببكائه أهل النار ، ليس لهم نصير، ثم بكى)18(18) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص200 ..
12 ـ قال محمد بن واسع رحمه الله تعالى: (إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ، ألست تعجب من بكائه؟ قيل: بلى ، قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه)19(19) إحياء علوم الدين ( 3 / 137 ) ..
13 ـ عن سرار أبي عبيدة ، قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء، فعاتبته، فقال لي: (يا سرار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إليَّ ؟! إني إذا ذكرتُ أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه، تمثلت لي نفسي بهم، فكيف بنفس تُغَلُّ يدُها إلى عنقها ، وتُسحب إلى النار ، ألا تصيح وتبكي؟ وكيف لنفس تُعَذَّب ألا تبكي؟ ويحك يا سرار! ما أقل غَنَاء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله! قال: فسكتُّ عنه)20(20) صفة الصفوة ( 3 / 327 ) ..
أين نحن من خوف السلف واستعدادهم للآخرة
والآثار في خوف السلف واستعدادهم للآخرة كثيرة جدّاً، فأين نحن منهم؟ نعم؛ أين نحن من حال سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى مع أنهم يتميزون عنا بقوة الإيمان ، وكثرة الأعمال الصالحة ، وقلة الذنوب ، وشدة خشيتهم لله تعالى ، كما أن زمانهم يتميز عن زماننا بصلاح أهله ، وبكون الدنيا لم تنفتح فيه انفتاحها علينا اليوم .
فاللائق بنا والحالة هذه أن نكون أشد خوفاً منهم ، وأكثر حرصاً، وأشد حذراً من الدنيا ، التي أخذت زخرفها وازينت . ولكن إلى الله نشكو حالنا، ونسأله سبحانه أن يوقظنا من غفلتنا ، وأن يرزقنا الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور؛ فالعاقل بحق ، والذي يحب نفسه بحق هو الذي يحاسب نفسه، ويحقرها ويسعى لفكاكها من عذاب الله عز وجل.
عن سفيان بن عيينة ، قال: (كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه، فيقول: يا هذا، اتق الله، وإن استطعت أن لا تسيء إلى من تحب فافعل، فقال له رجل يوماً : وهل يسيء الإنسان إلى من يحب؟ قال: نعم، نفسك أعز الأنفس عليك ، فإذا عصيت فقد أسأت إلى نفسك)21(21) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ، تحقيق : عبدالله الشرقاوي ص88 ..
(لقد عمل القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عملهما في تربية الجماعة المسلمة؛ حتى أتت بالعجب العجاب! وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع ، كما لم يتمثل قط في مجموعة بشرية ، لقد كان المسلم يعيش في حقيقة الآخرة فعلاً ، وكانت الآخرة في حسه واقعاً ، فالآخرة كانت حقيقة يعيشها لا وعداً بعيداً)22(22) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص187 ..
جانب من حياة السلف
ويصف لنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جانباً من حياة السلف من الأبرار المقتصدين والسابقين المقربين لعلنا نقتدي بهم ، ونحقر حالنا عندهم، وإن عجزنا عن اللحوق بهم فلا أقل من المحبة الصادقة لهم ، لعل الله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم . قال رحمه الله تعالى (باختصار):
(أما الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله ، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه ، فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة ، فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله ، فإذا أدّى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس ، فيركع الضحى، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب. فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد ، فأدى فريضته كما أمر ، مكملاً لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب ، فينصرف من الصلاة ، وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثاراً تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها ، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله ، ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله ، فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة ، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه ، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة .
هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن ، لا يخلّون منها بشيء ما أمكنهم، فيقصدون من الوضوء أكمله ، ومن الوقت أوله ، ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره ، ويأتون بعد الفريضة الأذكار المشروعة ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه .
هذا دأبهم في كل فريضة، فإذا كان قبل غروب الشمس توفروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار لا يخلون بها أبداً ، فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده ، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة، وهي كثيرة تبلغ نحواً من أربعين، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله .
فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى ، ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى ، وتشييع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، والمعاونة لهم بالجاه والبدن ، والنفس والمال ، وزيارتهم وتفقدهم ، وقائم بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر ، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار ، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره ، فهذا وظيفته دائماً.
وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولاً من وصف حالهم وعدم الاتصاف به ، بل ما شممنا له رائحة ، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم ، والعلم بها وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة:
– منها: ألا يزال المتخلف المسكين مزرياً على نفسه ذامّاً لها .
– ومنها: ألا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلاً له حقيراً ، يشهد منازل السابقين ، وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين .
– ومنها: أنه عساه أن تنهض همته يوماً إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد .
– ومنها: أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة ، لا يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه .
– ومنها: أن هذا العلم هو من أشرف علوم العباد ، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه ، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ، ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة ، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم تشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير ، فقد أهل له ، فليقل لنفسه : يا نفس قد حصل لك شطر السعادة فاحرصي على الشطر الآخر؛ فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به ، فقد قطعت نصف المسافة، فهلا تقطعين باقيها؛ فتفوزين فوزاً عظيماً .
– ومنها: أن العلم بكل حال خير من الجهل ، فإذا كان اثنان ، أحدهما عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به ، وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين ، فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل ، وإن كان العالم المتصف به خيراً منهما ، فينبغي أن يُعطى كل ذي حق حقه ، ويُنزل في مرتبته .
– ومنها: أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه، فلابد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة ، ولو بارقة ، ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه.
– ومنها: أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده ، والله لا يضيع مثقال ذرة ، فعسى أن يُرحم بذلك العامل.
وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر ، فلا ينبغي أن تصغى إلى من يثبطك عنه ، وتقول: إنه لا ينفع ، بل احذره ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، ولكن لا تغترّ، وفرّق بين العلم والحال.
وإياك أن تظن أنك بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله ، هيهات ما أظهر الفرق بين العالم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل ، فاسمع الآن وصْف القوم ، وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل ، فإن وجدت من نفسك حركة وهمّة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل ؛ فالطريق واضح والباب مفتوح .
إذا أعْجَبَتْكَ خصال امرئ فكُنْهُ تكنُ مثل ما يُعْجبُك
فليس على الجود والمَكْرُما ت إذا جئتها حاجبٌ يحجُبُك
فنبأ القوم عجيب! وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم ، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك .
وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتألت قلوبهم من معرفة الله وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته؛ فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب.
قد أنساهم حبه ذكر غيره ، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه ، قد فنوا بحبه عن حب من سواه ، وبذكره عن ذكر من سواه ، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه ، والتوكل عليه، والإنابة إليه ، والسكون إليه، والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره ، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه ، واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى ، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، وقد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته ، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه ، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه ، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته . فيالها سجدة ما أشرفها من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء)23(23) طريق الهجرتين ص 193 ـ 197 ..
الهوامش
(1) رواه البخاري / ك التفسير ( 4770 ) . ومسلم بنحوه / ك الإيمان ( 208 ) .
(2) رواه مسلم بشرح النووي ( 3 / 80 ) ط10 المطبعة المصرية ومكتبتها .
(3) البخاري بنحوه في الرقاق ( 6483 ) ، ومسلم واللفظ له في الفضائل ( 2284 ) .
(4) البخاري في الرقاق [ ( 11 / 327 ) ( 6486 ) فتح ] .
(5) رواه الترمذي / ك صفة القيامة ( 7 / 145 ) [ 2433 ] ، وقال : حديث حسن. وذكره الألباني في الصحيحة ( 1079 ) من طرق .
(6) البخاري في الرقاق ( 6527 ) ، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 2859 ) .
(7) الترمذي في صفة القيامة ( 2452 ) ، وقال : حسن غريب ، وهو في صحيح سنن الترمذي ( 1993 ) .
(8) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 259 ) .
(9) وصايا العلماء للحافظ الربعي . ت مصطفى عبدالقادر عطا ص47 .
(10) الجواب الكافي ص59 .
(11) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 295 ) .
(12) وصايا العلماء ص82 .
(13) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 357 ) .
(14) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ـ باب كون الإسلام يهدم ما قبله ( 121 ) .
(15) سير أعلام النبلاء ( 1 / 709 ) .
(16) الحلية ( 1 / 264 ) .
(17) الحلية ( 5 / 269 ) .
(18) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص200 .
(19) إحياء علوم الدين ( 3 / 137 ) .
(20) صفة الصفوة ( 3 / 327 ) .
(21) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ، تحقيق : عبدالله الشرقاوي ص88 .
(22) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص187 .
(23) طريق الهجرتين ص 193 ـ 197 .
اقرأ أيضا
تذكر النبأ العظيم والاستعداد للآخرة (1)
تذكر النبأ العظيم والاستعداد للآخرة (2)