آفة الترف وما ينشأ عنها من الترهل والوهن والفسق وعدم تحمل المشاق وترك الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل وضعف النفوس والاستسلام للأعداء.
الترف لغة واصطلاحاً
جاء في لسان العرب: الترف: التنعم، وأترفته النعمة أطغته، والمترف: هو الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، والمترف: المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، ورجل مترف: موسع عليه1(1) لسان العرب 2/222..
فالترف هو مجاوزة الاعتدال في النعم، والإكثار منها على وجه التوسع والتكاثر، والسعي لبلوغ الغاية في حاجات لذات الجسد من مأكل ومشرب أو مسكن أو مركب أو لباس أو نکاح.
الترف آفة مذمومة
والمتأمل في كتاب الله عز وجل وما ورد فيه من ذكر للترف والمترفين يجد أنه لم يذكر إلا على وجه الذم، وأن ترف المترفين كان سببا في إعراضهم عن الحق الذي أدى إلى هلاكهم في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ) [الواقعة: 41 – 45]، وقال سبحانه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
(والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين، الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة والراحة والسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها.
ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها)2(2) في ظلال القرآن الآية (16) من سورة الإسراء..
الترف وإعطاء الدنية في الدين من العدو المبين
وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أثر الترف في الضعف أمام الأعداء وترك جهادهم والاستسلام لهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعی عليكم کما تداعى الأكلة على قصعتها» قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ. قال صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: یا رسول الله وما الوهن ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا، وكراهية الموت»3(3) أبو داود (4297)، وأحمد 5/ 279 وصححه الألباني في صحيح الجامع (8183).، قال في عون المعبود في شرحه للحديث: (قال في المجمع : أي يقرب أن فرق الكفر وأمم الضلال تداعی عليكم، أي يدعو بعضهم بعضا إلى الاجتماع لقتالكم وكسر شوكتكم ليغلبوا على ما ملكتموه من الديار كما أن الفئة الآكلة يتداعى بعضهم بعضا إلى قصعتها، التي يتناولونها من غير مانع… (ومن قلة) أي ذلك التداعي لأجل قلة نحن… قوله صلى الله عليه وسلم: (لينزعن) أي ليخرجن، (المهابة) أي الخوف والرعب (وليقذفن الوهن) أي الضعف، وكأنه أراد بالوهن ما يوجبه. ولذلك فسره بحب الدنيا وكراهة الموت. قال الطيبي: وهما متلازمان، فكأنهما شيء واحد يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين من العدو المبين)4(4) عون المعبود 11/ 272، 273..
قال النحاس: (اعلم أيها الراغب عما افترض عليه من الجهاد، الناكب عن سنن التوفيق والسداد، ليت شعري هل سبب إحجامك عن القتال؟ واقتحامك معارك الأبطال، وبخلك في سبيل الله بالنفس والمال إلا طول أمل، أو خوف هجوم أجل، أو فراق محبوب من أهل ومال، أو ولد وخدم وعيال، أو أخ شقيق أو قريب عليك شفيق، أو ولي کريم أو صديق حميم، أو حب زوجة ذات حسن وجمال، أو جاه منيع، أو منصب رفيع، أو قصر مشيد أو ظل مديد، أو ملبس بهي أو مأكل هني ؟!! ليس غير هذا يقعدك عن الجهاد، ولا سواه يبعدك عن رب العباد، وتالله ما هذا منك أيها الأخ بجمیل، ألا تسمع قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة:38])5(5) مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ص 113..
آثار ومظاهر الترف في حياة بعض الدعاة
وقد انتشر اليوم ليس في حياة العامة فحسب، بل في حياة كثير ممن ينتسب إلى العلم والدعوة – وما أبرئ نفسي – وذلك بصورة تنذر بالخطر وتوجب علينا اليقظة والحذر، وللتدليل على ذلك أسوق بعض ما ذكره الأستاذ فيصل البعداني عن آثار ومظاهر الترف في حياة بعض الدعاة، ومنها:
– (عدم الحرص على الطاعة، والتواني عن القيام بما يقرب في الآخرة، سواء أكان ذلك فيما يتعلق بذات الشخص كصلاة النفل وصيام التطوع، أو فيما يتعلق بشؤون الدعوة، إذ تكثر عند التنفيذ المشاغل، وتتعدد المبررات للتقاعس عن العمل أو التأخر في أدائه ، وفي المقابل توجد – لدى ذلك الصنف – عجلة في تحصيل وسائل الترف، وسرعة في تحقيق مطلوبات النفس وشهواتها.
– تتبع أقوال أهل العلم للأخذ بالأيسر منها، ويرجع ذلك إلى أن كثرة النعم تقود إلى الدعة والراحة، وتلك تقود إلى اقتحام سبيل الشهوات والانغماس في الملذات، التي قد لا يجد العبد متنفسا له فيما أحل الله، فيقرر الأخذ بما يراه حراما، ولكن لكي يزيل الحرج عن نفسه، ويدفع عنه لوم الآخرين – إن وجد – يقوم بتتبع أقوال أهل العلم في الأمر الذي قرر إتيانه إلى أن يجد له عالما في القديم أو الحديث يقول بجواز فعله، فيفرح به ويبدأ بإعلانه ونشره، لا اعتقادا بصحة ذلك القول والرغبة في إذاعته، ولكن حبا في رفع الحرج عن النفس، نظرا لموافقة ذلك القول لما قد عزمت نفسه على فعله.
– العجب بالنفس والتكبر على الآخرين، وهاتان الصفتان موجودتان لدى بعض الدعاة، نتيجة عيشهم في أوساط النعم، ولكنهم لا يتمكنون في الغالب من الشعور بها، إلا من أدام منهم النظر في حاله، أو نبهه عليها آخر ممن وفقهم ربهم وصانهم من الوقوع فيها، وذلك راجع إلى كونها تبدأان في النفوس كخيط رفيع جدا لا يرى ثم يكبر شيئا فشيئا حتى يبين ويتضح، ويكون الداعية عند ذلك قد غفل، وخف مبدأ محاسبته لنفسه.
– عدم قيام المترف بحاجاته الذاتية والاجتماعية، التي يتمكن من القيام بها، والمجيء بالخدم رجالا ونساء، لكي يقوموا بذلك من غير حاجة، وإنما رغبة منه في ترفيه نفسه، وتقديم الراحة لأهله وأولاده، وحبا منه في التفاخر والتباهي والظهور بمظهر المتميز أمام بقية أفراد المجتمع.
– كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزیارات كثيرة تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له، وتصبح في حياة كثير من الناس كأنها هي الأصل، والجد هو الفرع.
– ضياع الأوقات، وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين، حيث تكثر ساعات نومهم، ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئا منها في أمر ينفعهم في دينهم ودنياهم.
– الإفراط في تناول الطعام والشراب، وتوفير متطلبات النفس مما لذ وطاب، مما جعل جم غفير من الناس – دعاة وغيرهم – يعانون بسبب ذلك من السمنة وكثير من الأمراض الناشئة عن التخمة، وكذلك الإفراط في زخرفة البيوت والأثاث والأواني الفاخرة.
– جعل المال في الملابس الراقية، والاكتفاء بلبس الجديد الفاخر، حتى کثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة في المنازل، وتكدست مع وجود تنوع في الاستعمال، حسب تعدد فصول العام، واختلاف أوقات اليوم، ويبرز الترف في هذا الجانب لدى النساء بصورة واضحة.
– صرف الأموال الكثيرة في السيارات والحرص على ضخامتها وتعددها، حسب أحجامها وأنواعها، وتسليم بعضها لمراهقين يستخدمونها – غالبا – في غير ما وضعت لها.
– الاستكثار من وسائل الزينة والاعتناء الزائد بالنفس، والإفراط في التدهن والتطيب والترجيل للشعر، ونحو ذلك من أمور الناس، حتى إن بعضهم ليزيد إنفاقه على زينته وبعض مظاهر الترف الأخرى على دخله، ما يضطره إلى الاقتراض.
– كون المترفين أكثر عرضة للفتور والتراجع عما هم عليه من خير ودعوة، أمام الفتن التي تلازم في الغالب الدعاة، والعقبات التي تعترض مسيرة الدعوة. والمترف من الدعاة أقرب من غيره إلى التنازل عن مبادئه وثوابته، بل إن بعضهم قد يتحول أمام المغريات والخوف من أفول الترف وانصراف الملذات إلى الوقوف في وجه الدعوة، وکیل التهم لها، وإثارة الشبه حولها، ومحاولة الوقيعة بين حملتها.
– إن الداعية المترف متعود على الإتفاق على خواصه بكثرة واسعة، فإذا أوكل إليه شيء من أموال الدعوة فعل بها كما يفعل بماله غالبا، والأصل أنها لا تصرف إلا في الأمور الضرورية والحاجية، وما زاد عن مكان فالمكان الآخر في أمس الحاجة إليه.
– إن الداعية المترف أقل اهتماما بدينه ودعوته والقيام بها من غيره، وذلك لأنه عقد همته للشهوات والتلذذ بالنعم والملذات وطلب أسباب ذلك.
– إن الداعية المترف أقل إفادة للمدعوين من غيره، وذلك لأن انغماسه في النعيم وتحصيل أسبابه مانع له من التزود بالعلم الشرعي، مما يعني اكتفاءه بتقديم ما عنده من معلومات، فإذا انتهت بدأ بتكرارها، وهذا من دواعي عدم قبول الناس للمترف.
– الترف من أسباب زوال الدعوات وأفولها، ما لم يبادر كبار الدعاة إلى إصلاح الوضع وتسديد الأمر، لأن انتشار الترف بين مجموعة من الدعاة من غير نكير يؤدي إلى اتساعه وانتشاره بين فئات أخرى، نظرا لحب النفوس لذلك، واتخاذ كل فئة لمن قبلها قدوة، مما يؤدي إلى ضعف الأنشطة في البداية نتيجة فتور بعض الدعاة، وبعد ذلك يبدأ تساقط الفاترین مجموعة بعد مجموعة، نتيجة الانهاك بزخرف الحياة والتشاغل بزينتها)6(6) مجلة البيان العدد (85) باختصار و تصرف يسير ..
الهوامش
(1) لسان العرب 2/222.
(2) في ظلال القرآن الآية (16) من سورة الإسراء.
(3) أبو داود (4297)، وأحمد 5/ 279 وصححه الألباني في صحيح الجامع (8183).
(4) عون المعبود 11/ 272، 273.
(5) مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ص 113.
(6) مجلة البيان العدد (85) باختصار و تصرف يسير .
اقرأ أيضا
ألهاكم التكاثر: أضرار وآفات (1-2)
بعض الأسباب التي تقي من آفة التكاثر (1-2)
ألهاكم التكاثر .. (3-4) المآكل والزينة والترحال