من صور التواصي بالحق: قيام أهل العلم بتعليم الناس دينهم الحق وتحذيرهم مما يضاده من الباطل والشبهات ، والتصدي لكل ما يحرف الناس عن الحق أو يلبسه عليهم من الشبهات والشهوات.

من صور التواصي بالحق

التواصي بالتجرد في قبول الحق والإذعان له إذا تبين على أي لسان ومن أي جهة كانت ؛ فإن التواصي بذلك ولزومه والحث عليه من علامات التواصي بالحق ، ولا يظهر هذا إلا في المحكات ؛ وذلك عندما يكون الحق على النفس أو يظهر على لسان الخصم والمبغض ، فهنا يتبين حقيقة التجرد في قبول الحق ولو على النفس والأقربين ، ولقد كان سلفنا الصالح يتواصون بلزوم الحق والتجرد في أخذه ومن ذلك:

– ما كتبه عمر بن الخطاب إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بقوله: «أما بعد فالزم الحق ، ينزلك الحق منازل أهل الحق ، يوم لا يُقضى إلا بالحق»1(1) مصنف ابن أبي شيبة 7/269 رقم 119..

– ما كتبه أيضا عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في كتابه المشهور في القضاء وفيه: «… ولا يمنعك من قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك ، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق ، فإن الحق قديم ، ولا يبطل الحق شيء ، وإن مراجعة الحق خیر من التمادي في الباطل»2(2) سنن الدارقطني 4/206..

من التجرد للحق

الرجوع عن الخطأ وعدم التعصب للنفس وأخطائها ، وعدم الغضب والاشمئزاز ممن ينبه على عيوبها بل تحبه وتقبل منه نصيحته ويشكر عليها ، ومن التوجيهات السلفية في ذلك ما يلي:

لما ولى الصديق رضي الله عنه الخلافة خطب خطبته المشهورة التي بين فيها معالم سياسته ، فكان مما قال فيها : « أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني»3(3) طبقات ابن سعد 3/82-81..

وأخرج ابن سعد في طبقاته أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي»4(4) الطبقات 3/293..

وأوصى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلا فقال : « ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا ، ومن أتاك بباطل فأردده وإن كان حبيبا قريبا»5(5) معجم الطبراني الكبير (8537) .

ما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لمولاه مزاحم : « إن الولاة جعلوا العيون على العوام وأنا أجعلك عيني على نفسي ؛ فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها ، أو فعلا لا تحبه ، فعظني عنده وانهني عنه»6(6) عيون الأخيار 1/416..

ويحكي ابن رجب رحمه الله تعالى أن ذلك كان هديا لعامة أئمة السلف فيقول : «كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم ، يقبلون الحق ممن أورده عليهم ، وإن كان صغيرا ، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم»7(7) الفرق بين النصيحة والتعبير ص10..

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه « وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا» بقوله : «ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه ، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل ، وقد يدخله أيضا رضاه في الباطل ، سأل الله عز وجل أن يوفقه لكلمة الحق في الغضب والرضا، ولهذا قال بعض السلف : لا تكن ممن إذا رضي أدخله رضاه في الباطل وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق»8(8) إغاثة اللهفان 1/29..

يقول رحمه الله تعالى في شرحه لمنازل السائرين وهو يستدرك على الإمام الهروي رحمه الله تعالى بعض شطحاته : «وشيخ الإسلام – أي الهروي – حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : عمله خير من علمه وصدق رحمه الله فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبی الله أن یکسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وقد أخطأ في هذا الباب لفظا ومعنى»9(9) مدارج السالكين 3/394..

ويقول أيضا في خاتمة كتابه القيم مدارج السالكين : «فيا أيها القارئ له لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ، لك ثمرته وعليه تبعته ، فما وجدت فيه من صواب و حق فاقبله ولا تلتفت إلى قائله بل انظر إلى ما قال لا إلى من قال ، وقد ذم الله تعالى من يرد الحق إذا جاء به من يبغضه ويقبله إذا قاله من يحبه فهذا خلق الأمة الغضبية ؛ قال بعض الصحابة : اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضا ، ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبا وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم ي أل جهد الإصابة ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال»10(10) مدراج السالكين 3/522. .

من التواصي بالحق ترك التعصب للنفس أو للشيخ أو للحزب

ومن صور التواصي بالحق التواصي بترك التعصب للنفس أو للأشخاص أو الهيئات أو الأحزاب كما مر بنا في بعض الأمثلة السابقة وإنما التعصب للحق بأن يدور العبد معه حيث دار وينبذ التقليد الأعمى والتحزب المقيت ، ويتواصي بذلك مع إخوانه المسلمين .

ومن توجيهات السلف في ذلك ما يلي:

ما أوصى به معاذ بن جبل رضي الله عنه تلاميذه بقوله : «وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عن ما جاء به فإن على الحق نورا .

قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا ؟ فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق . وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة»11(11) أعلام الموقعین 1/105..

وقال عمرو بن میمون الأودي : «صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت من بعده أفقه الناس: عبد الله بن مسعود فسمعته يقول : عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ثم سمعته يوم من الأيام وهو يقول : سيولى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة ، قال : قلت يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثون ؟ قال وما ذاك ؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة ، وصل مع الجماعة وهي نافلة ، قال: يا عمرو بن میمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية ؛ أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا ، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ، وفي لفظ آخر فضرب على فخذي وقال : ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى»12(12) أعلام الموقعين 3/397..

وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عنه قال: كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دینار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ؛ فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دینار وذووه لا يجيبهم ، فتعرض له ابن دینار يوما فقال له: يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذويي فلا تجيبنا ، فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم قال: إني قد كبرت سني ودق عظمي ، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقا قبلاه ، وإن سمعا مني خطأ تركاه وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه .

قال ابن حارث: «هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح ، لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن»13(13) أعلام الموقعين 2/198..

ما استفاض من تشنيع الأئمة على من يقلدهم التقليد الأعمى ، ومن يتعصب لهم ويترك الدليل الصحيح لقولهم ، ومقولتهم في ذلك مشهورة ومعروفة ويجمعها قولهم : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) أو القول الآخر ( إذا خالف الحديث قولي ، فاضربوا بقولي عرض الحائط).

ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى من تفصيل القول في الأحزاب والتجمعات وتحذيره من التعصب المذموم حيث يقول: (وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب – أي تصير حزيا – فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون ، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل : التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل ، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم ، سواء كان على الحق أو الباطل ، فهذا من التفرق الذي ذمة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بالجماعة والائتلاف ، ونهيا عن الفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ، ونهيا عن التعاون على الإثم و العدوان)14(14) مجموع الفتاوی 11/92. .

فظهر من كلام شيخ الإسلام أن التجمع والتعاون على الحق والدعوة إليه هو من التواصي بالحق ، مالم يكن هناك تعصب للداخلين في هذا الحزب بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل سواء كان على الحق أو الباطل ؛ فإنه حينئذ لا يكون من التواصي بالحق بل من التعصب الممقوت الذي يتنافى مع التواصي بالحق .

ومن باب التواصي بالحق أنصح نفسي وإخواني الدعاة والجماعات الإسلامية اليوم ؛ بالحذر من الحزبية المقيتة والتعصب المذموم للنفس أو الشيخ أو الطائفة ، وأن يتقوا الله جميعا في أنفسهم ودعوتهم وفي إخوانهم الذين يربونهم تربية خاطئة تقوم على التعصب للجماعة أو على الثقة المطلقة برجالاتها ؛ ثقة قد تصل بشكل عملي إلى دعوی عصمتهم ؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى رفض الحق وعدم قبول الدليل الشرعي ، أو إلى الطعن في كثير من الدعاة الصادقين ، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا من أفراد الجماعة ، وفي هذا تعصب للهوى لا يختلف عن التعصب للقبيلة أو القوم أو الأرض ، وإن التواصي بالحق يقتضي رفض كل هذه المواقف المذمومة .

من صور التواصي بالحق: المناصحة بين المسلمين

المناصحة بين المسلمين ، وخاصة بين أهل العلم والدعوة والصلاح ، وذلك بأن يكون كل واحد مرآه لأخيه يبين له عيوبه ويناصحه على انفراد شفقة ورحمة ومحبة ، ويفتح كل واحد صدره لأخيه ويشكره على مناصحته وتوجيهه ، وإن مما يؤسف له أن هذه المناصحة قليلة اليوم ؛ حيث يرى أحدنا على أخيه ما يشينه في سلوكه أو عبادته ، فلا ينصحه ، بل يتركه على خطئه بحجة أنه أعلم أو خوف غضبه أو أنه لن يقبل النصح، وهذا كله من مداخل الشيطان ، والعجيب في الأمر أن تجد بعض من يترك مناصحة أخيه مباشرة بهذه الحجج الواهية قد ذهب إلى طرف ثالث وتكلم عنده في عرض أخيه وذكر مثالبه ، فترك بذلك الطريق الشرعي للمناصحة والتواصي بالحق واعتاض عنه بالطريق المحرم من الغيبة والسخرية والنميمة ، ولقد كان سلفنا الصالح بتناصحون بينهم بالكلام المباشر وبالمكاتبات ليس فقط في ما يرونه على بعضهم البعض من المخالفات الشرعية ، وإنما كانوا يتناصحون أيضا في التحذير من التوسع في المباحات ، وأسوق فيما يلي صورة مضيئة من المناصحة بين عالمين من علماء السلف علها أن تكون دافعة لنا إلى المناصحة الصادقة التي باعثها الحب والشفقة والرحمة:

صورة مضيئة من المناصحة بين عالمين من علماء السلف

كتب يحيى بن يزيد النوفلي إلى الإمام مالك يعاتبه على التوسع في بعض المباحات فقال : « بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين ، من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس ، أما بعد : فقد بلغني أنك تلبس الدقاق وتأكل الرقاق وتجلس على الوطيء ، وتجعل على بابك حاجبا ، وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطايا، وارتحل إليك الناس ، واتخذوك إماما ، ورضوا بقولك ، فاتق الله تعالى يا مالك ، وعليك بالتواضع ، كتبت إليك بالنصيحة في كتاب ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام» .

فكتب إليه مالك : « بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ، من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد: سلام عليك ، أما بعد: فقد وصل إلى كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب متعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيرا ، وأسأل الله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فأما ما ذكرت في أني آكل الرقاق وألبس الدقاق ، وأحتجب وأجلس على الوطيء ، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى ؛ فقد قال تعالى :(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ، ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام» .

قال الإمام الغزالي معلقا على الرسالتين: «فانظر إلى إنصاف مالك إذ اعترف أن ترك ذلك خير من الدخول فيه وأفتى بأنه مباح، وقد صدق فيهما جميعا»15(15) إحياء علوم الدين 1/114..

من صور التواصي بالحق: قيام أهل العلم بتعليم الناس دينهم الحق

قيام أهل العلم بتعليم الناس دينهم الحق وتحذيرهم مما يضاده من الباطل والشبهات ، والتصدي لكل ما يحرف الناس عن الحق أو يلبسه عليهم من الشبهات والشهوات ، وقد تكون هذه الردود مشافهة مع الناس أو عن طريق الكتابة ؛ كما كان ذلك شأن سلف الأمة الذين بينوا للناس الحق وردوا على شبهات المبطلين وتلبيساتهم المضلة ، ومن أخطر الفتن التي تصد الناس وتحرفهم عن الحق والتي يجب التصدي لها والرد على أهلها وکشف ضلالها للناس:

1- فتنة الشبهات: والتصدي لها يكون بنشر العلم الصحيح وتعليمه للناس وعدم كتمه عنهم ؛ إذ إن الباطل وشبهاته لا تنتشر إلا إذا فقد العلم أو ضعف بين الناس ، ومن أخطر أنواع الشبهات : لبس الحق بالباطل ، وإظهار الباطل في صورة الحق بجامع شبهة وشهوة ، ولقد نهى الله عز وجل عن كتم الحق أو لبسه بالباطل في كتابه العزيز فقال: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:42] .

وما أكثر صور اللبس والتلبيس في عصرنا الحاضر .

والحاصل أن على أهل العلم والدعوة أن لا يسلموا الناس لأهل الباطل يشبهوا عليهم الحق ويلبسوا عليهم دينهم بما يثيرونه من الشبهات والضلالات ؛ بل عليهم بما آتاهم الله من العلم أن يتصدوا لشبهات المبطلين ويفندوها ويبينوا الحق للناس جليا واضحا.

ومما يلحق بالشبهات: لي النصوص وتحريفها ؛ وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (اللي : مثال الفتل وهو التحريف وهو نوعان : لي في اللفظ ولي في المعنى .

فاللي في اللفظ : أن يلفظ بها على وجه لا يستلزم الحق ؛ إما بزيادة لفظة أو نقصانها أو إبدالها بغيرها ، ولي في كيفية أدائها وإيهام السامع لفظ وإرادة غيره كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فهذا أحد نوعي اللي .

والنوع الثاني : لي المعنى ، وهو تحريفه وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم)16(16) زاد المهاجر إلى ربه ص35..

والتصدي لذلك يكون برد هذه التأويلات الباطلة ، وبيان فهم السلف الصالح لها والذي أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- فتنة الشهوات: وهذه الفتنة لا تقل عن فتنة الشبهات خطرا إن لم تزد عليها ؛ وذلك أن هذه الفتنة لم تأت من عدم معرفة الحق أو ليه بالباطل ، بل إن الحق قد اتضح وبان لكن الشهوة والهوى تجعل صاحبها يعرض عن الحق ويترکه مع معرفته بذلك ، ومن التواصي بالحق التصدي لهذه الفتنة بتذكير الناس بعظمة الحق وشرف من يتبعه والثواب العظيم له في الدنيا والآخرة ، وأن ما يعترضه من الشهوات والأهواء إن هي إلا أعراض زائلة سرعان ما تذهب وتبقى غصتها وعقوباتها يوم القيامة كما أن من التصدي لفتنة الشهوات ذکر عقوبات كتم الحق أو الإعراض عنه بعد بيانه لهوى أو شهوة ؛ لأن في ذلك أكبر واعظ لمن اتبع هواه في الإعراض عن الحق ورکوب الباطل.

انتكاسة القلب وحرفه عن الهدى

ومن أخطر هذه العقوبات المترتبة على ترك الحق: انتكاسة القلب وحرفه عن الهدى والعياذ بالله تعالى ، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء : أحدهما : رد الحق لمخالفته هواك ؛ فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قلب هواك قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 110] فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك)17(17) بدائع الفوائد 3/699. .

وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم عقوبة من ترك الحق بعد علمه به متبعا في ذلك هواه ؛ وذلك في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175-176] .

ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: (قال مجاهد: وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به ، وقال ابن عباس: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى خير ؛ كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث ، وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع ، وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك ، وقال عطاء: ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه، وقال أبو محمد بن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش ، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته وقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه وتعالى: (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ ۚ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ) [الأعراف: 193].

وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى:

فمنها: قوله : (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) فأخبر سبحانه أنه هو الذي أتاه آياته؛ فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال: (فَانسَلَخَ مِنْهَا) أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ، ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه.

ومنها: قوله سبحانه : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) أي لحقه وأدرکه کما قال في قوم فرعون : (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ) [الشعراء:60] وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان ، لا ينال منه شيئا إلا غرة وخطفة ، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفرسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم ؛ الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.

ومنها: أنه سبحانه قال : (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء ، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به)18(18) أعلام الموقعين 1/167. .

إذا من التواصي بالحق التواصي بلزومه والتحذير من الإعراض عنه وذلك بتذكر العقوبات العظيمة المترتبة على ذلك .

الهوامش

(1) مصنف ابن أبي شيبة 7/269 رقم 119.

(2) سنن الدارقطني 4/206.

(3) طبقات ابن سعد 3/82-81.

(4) الطبقات 3/293.

(5) معجم الطبراني الكبير (8537) .

(6) عيون الأخيار 1/416.

(7) الفرق بين النصيحة والتعبير ص10.

(8) إغاثة اللهفان 1/29.

(9) مدارج السالكين 3/394.

(10) مدراج السالكين 3/522.

(11) أعلام الموقعین 1/105.

(12) أعلام الموقعين 3/397.

(13) أعلام الموقعين 2/198.

(14) مجموع الفتاوی 11/92.

(15) إحياء علوم الدين 1/114.

(16) زاد المهاجر إلى ربه ص35.

(17) بدائع الفوائد 3/699.

(18) أعلام الموقعين 1/167.

اقرأ أيضا

بين الجهر بكلمة الحق، والتلطُّف بها

التواصي بالحق وعلاقته بالإيمان والعمل الصالح

تحرج أصحاب الحق .. ووقاحة أهل الباطل

 

التعليقات غير متاحة