يتحرج بعض المسلمين من بعض الآيات المنزلة، قد يقرؤونها لكنهم يشعرون بشيء من التردد أو التحرج منها، وكأنهم يستحيون مما أنزل الله تعالى.

حرج .. وجهل

لقد ضمر الإسلام في مساحة التطبيق في الحياة، وتبعا لذلك ضمرت مساحته في تصور المسلمين ومعتقدهم، وضمرت الصورة الذهنية لتطبيق الإسلام..

جهل الناس كثيرا من حقيقة الإسلام، بل جهلوا طبيعة المجتمعات والدول والقوى المختلفة، والصراع البشري والقوانين الاجتماعية.. جهل الناس أين تنبغي القوة وأين لا تنبغي.

مثال للحرج المذموم

يقرأ بعضهم قوله تعالى ﴿يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار..﴾ فيتحرج منها البعض. يتصور الأمر على أنه اعتداء يخالف قوانين السلام التي تُرفع في وجه المسلمين وبها يُقتلون بالملايين ويُهجّرون بالملايين وتُغتصب مقدساتهم، وتُهدر ثرواتهم ويُجبرون على دفع أموالهم جزية.. تحت أقدام السلام الغربي وقوانينه..!

حقائق شرعية وكنوز نحملها

والآية ليست خطابا فرديا؛ بل هي خطاب للأمة في مجموعها في صورة الدولة التي تقوم بمهمة الرسالة بين الأمم.

كثيرا ما لا يدرك المسلمون قيمة ما معهم، ولا قيمة ما يحملون من رسالة وما تستوجبه من شعور بالأمانة العظيمة التي يجب أن تؤدَّى..

يغفل المسلمون كثيرا عن احتياج البشرية لهذا الدين، ولرؤية منهجه ونظامه مطبقا وواقعا في شكل مجتمع وقوانين وتشريعات وإعلام وصبغة وهوية ومشرب حضاري بديل عما ألِفوه في الغرب، تحتاج البشرية أن ترى الرسالة وأن تسمعها.

المفارقة الأكثر اليوم أن يتراجع المسلمون عن هذ الدين أو يرتابون أو ينفضّون.. بل كثيرا ـ إن لم يكن دائما ـ ما تحاربه أنظمتهم الحاكمة.

وكثيرا أيضا ما يغفل الناس عن معنى (النار) يوم القيامة، وأنها محل التحذير وأن الحياة يجب أن تُصرف من أجل النجاة منها، وإنجاء الخلق، وعدم تركهم يهلكون، وعدم ترك الناس فريسة للمضلين يضلون الناس أو يغوونهم.

كان يجب على هذه الأمة ألا تقبل عقائد وزُبالات وترّهات وضلالات واضطرابات الغرب في عقائده وتوجهاته من ليبرالية وعلمانية الى شيوعية ووجودية، الى آخر ما غرقوا فيه من ضلالات وعمَه تركهم ربنا في ﴿طغيانهم يعمهون﴾.(1)

كان يجب على هذه الأمة ألا تقع هي فريسة “لهوليود” الغرب ولا لمخانيثها في “بوليود” الهند في الشرق.

كان يجب ألا تتشكك في قيمة ما تحمله ولا في قيمة وجودها ودورها، ولا أن تتخلى عن ذاتها وهويتها وصبغتها وحضارتها، وكان يجب ألا تخسر قوتها وتهدر حقوقها.

كان يجب ذلك لأنها منوط بها إنقاذ البشرية وإرشاد الحائرين الى الطريق.

الواقع البديل

إن لم يجد هذا الكلام صدى، فالمفارقة العجيبة أن الله تعالى الذي يعلم طبيعة تحرك المجتمعات والقوى، والذي أمر بهذا الأمر الشرعي ـ ﴿يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار..﴾ ـ قد أرانا تعالى بأمره القدري قيام أهل الباطل وإقدام المجرمين على فرض رؤيتهم لتدمير هذا العالم عقديا وخلقيا واقتصاديا وتدميره اجتماعيا..

رأينا حاملات الطائرات الأمريكية وأساطيلهم لا “تدافع” عن أمريكا وحدودها وأراضيها وشواطئها؛ بل هي في بلادنا وشواطئنا وتجوب العالم لتردع العالم كله وتفرض رؤيتها وسياستها ونمط حياتها ولتنهب ما تشاء من الثروات..! و”لتؤمْرك” الدنيا كما يحلو لها.

ومثلها اليوم روسيا، فهي لا تستعمل قوتها في بلادها بل على رؤوس أطفالنا في سوريا وتتحكم في مصير ملايين المسلمين في سوريا قتلا وتهجيرا، وترسم ما تشاء من الخرائط ـ لا في بلادها وحدودها بل في بلادنا وارضنا؛ أرض الإسلام التاريخية ـ  وتطرد من تشاء من المسلمين السُنّة (ستة ملايين مهاجر)، وتفرض النظام الطائفي البشع والدموي.

بل والأدهى من ذلك أن إيران ـ كقوة إقليمية لا دولية ـ لا تدافع عن نفسها وحدودها بل هي تتحرك بعيدا عن حدودها.. تتحرك في العراق والشام وفلسطين، واليمن، بل وفي شمال وقلب أفريقيا لتخرج من أسلم لله تعالى لتدخله في عبادة الأئمة وتقديس الملالي ودعاء الأموات والسجود للمزارات.

وأما الكيان الصهيوني فحدِّث ولا حرج، فهو يمنع الماء عن بلادنا ليبتز الجميع، ويعمل جهده في قلب افريقيا لتطويق مصر، ويضرب في العراق وفي سوريا كما يشاء. وأجهزتُه الأمنية يستعين بها ملوك ورساء العرب، ومجالها الحيوي بعيد جغرافيا عادة عن حدود ما اغتصبت من فلسطين.

إن ما أمر الله تعالى به هو الأمر الحق، وهو قائم على حقائق البشر والدول وطبيعة القوى، وقائم على تصور قد افتقدناه كثيرا، وهو أن الدولة في الإسلام قائمة على هذا الدين من حيث الولاء والهوية، ومن حيث النظام والمنهج، ومن حيث القوانين والقيم، ومن حيث الرسالة.

إنه تصور إقامة الدين والوجود العملي للإسلام ليقوم بدوره في حياة البشرية.

عندما تترك رسالتك

عندما تترك رسالتك يتقدم اليهود يحملون الفكرة الصهيونية المدمرة والحارقة للعالم..

أو يتقدم الأمريكيون يحملون الرسالة الأمريكية بقيم الإلحاد والإباحية التي يحملونها للعالم.

أو تتقدم الفكرة الصفوية الشيعية التي تفرض نفسها على المنطقة.

ويسمي الجميع من عاداهم إرهابا أو وهابية أو تطرفا، بينما هم الممثلون الحقيقيون للإرهاب والتطرف والفساد الماحق.

إن العالم تجوبه رسالات وتخترقه أفكار. فإن لم يكن الدين الحق، ظن كل مبطل أن ما معه هو الحق وانخدع به ثم أضل به الناس.

بينما يجب أن يفرض المسلمون مكانهم بين الأمم ويوصلوا رسالة الله تعالى الى خلقه.. تلك الرسالة التي تجهلها اليوم أجيال، ويتنكر لها المنافقون، وتحاربها رايات كثيرة من أجل عقائد خادعة أو دنيا سيرحلون عنها قريبا..

لكنها رسالة هذا الدين، وسيجدها كل من يقرأ كتاب الله تعالى بثقة ويقين وقبول واطمئنان.

فلا يكن في صدرك حرج منه

يقول الله تعالى : ﴿كتاب أُنزل اليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين﴾.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه؛ أرتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمنوا به، كما قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾(الأنعام: 125)(2)

ويقول أيضاً في موطن أخر:

ولا تجد مبتدعاً في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته، كما أنك لا تجد ظالماَ فاجراَ إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته، فتدبر هذا المعنى ثم أرض لنفسك بما تشاء(3)(4) ا.هـ

أيما حرج مما أنزل الله يدفع صاحبه ثمنا غاليا من دينه ومقدراته، ودنياه وآخرته..

وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

……………………….

هوامش:

  1. يعمهون: يترددون ويتحيرون.
  2. الصواعق المرسلة : 4 /1518.
  3. الفوائد ص90.

اقرأ أيضا:

  1.  سنن الإعداد والتدافع
  2. لماذا الدعوة الى الله
  3.  المشروع الأمريكي في حرب أهل السنة .. وسُنة المدافعة

التعليقات غير متاحة