لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على إثبات النصر في نهاية المطاف لأهل الإيمان وحملة العقيدة الصحيحة، وأن النصر ليس بالضرورة أن يكون في ساحات المعارك، فبقاء الإيمان رغم موت أصحابه نصر، وانتشار الدين نصر، والصبر على البلاء نصر، فأصحاب الأخدود انتصروا، والنبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي انتصر هو وأصحابه على قريش لما ثبتوا على عقيدتهم ودينهم.

انتصار أصحاب العقائد وأهل الإيمان

يتردد في هذه الآونة سؤال بين كثير من الشباب وخاصة بين شباب الصحوة مضمونه:

لماذا غُلب هؤلاء وأولئك في فلسطين وأفغانستان؟ ألم يعد الله تبارك وتعالى بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين؟ فوقع هؤلاء بين فكين كلاهما مر: أحدهما كفر، والآخر إساءة ظن.

أما الكفر: فبعضهم شك في وعد الله عز وجل، وأما سوء الظن: فإنهم شككوا في إيمان وصلاح تلك الطوائف من أهل الإيمان في أفغانستان وفلسطين، وخفي على هؤلاء جميعاً أنه لا يلزم أن يكون النصر نصراً مادياً أو عسكرياً، وأن النصر الحقيقي إنما هو نصر العقيدة والإيمان، هذا هو النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به، وإذا كان النصر هو النصر المادي فحسب والغلبة والقهر، فكم من أنبياء بني إسرائيل قتلتهم بنو إسرائيل، فهل تلك هزيمة لهؤلاء الأنبياء؟ فإن قالوا: نعم.

كفروا بالله عز وجل، ولذلك أعظم الناس بلاءً نبينا عليه الصلاة والسلام، أنسيتم ما حدث له في الطائف؟ أنسيتم ما حدث له في مكة بين أهله وعشيرته؟ أنسيتم أنهم أدموه عليه الصلاة والسلام وسبوه وشتموه؟ أهذه هزيمة للنبي عليه الصلاة والسلام؟ كلا وألف كلا، لقد مات النبي عليه الصلاة والسلام وبقيت عقيدته ترفرف في سماء الدنيا إلى يوم القيامة.

قصة أصحاب الأخدود

ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للنصر الحقيقي الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء، وللأشخاص الذين يموتون وتبقى عقائدهم، وذلك فيما أخرجه مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كان فيمن كان قبلكم ملك له ساحر يسحر له»، وهذا على عادة الملوك والرؤساء والزعماء، فإنما يصدرون عن تكهنات وأسحار وأوهام، ولذلك تجد أن كل رئيس أو زعيم -إلا من رحم الله- قد اتخذ لنفسه عدة من السحرة والعرافين والكهنة، ولا يصدر إلا عن آرائهم، خاصة في بلاد أوروبا وأمريكا، فلكل رئيس منهم وزعيم وعمدة قرية ساحر يسحر له، ولا يصدر ولا يتحرك إلا بأمره، حتى يكاد أن يكون الذي يحكم العالم اليوم هم السحرة وليسوا تلك الرءوس؛ لأنهم لا يصدرون إلا عن آرائهم.

ابتلاء أصحاب العقائد

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، ورق عظمي، وحضر أجلي، فابعث إلي بغلام أعلمه السحر، فأرسل إليه الملك غلاماً يعلمه السحر، وكان على الطريق بين الغلام والساحر راهب، فذات مرة جلس الغلام إلى الراهب فسمع كلامه فأعجبه كلامه فلازمه، وكان إذا خرج من عنده متأخراً ذهب إلى الساحر، عاقبه الساحر على التأخير، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال الراهب للغلام: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر» يكذب لينجو بنفسه، وهذا أمر مشروع، أو يكذب لينجي نفساً أخرى، ولا بأس بالكذب هنا؛ لأن الحرب خدعة، وهذه حرب ضروس بين الإيمان والكفر.

قال: «وذات يوم انطلق الغلام في طريقه إلى الساحر فوجد دابة عظيمة قد حبست الناس فلم يمروا، فقال الغلام في نفسه: اليوم أعلم أي الأمرين أحب إلى الله تعالى، أمر الساحر أم أمر الراهب، فأخذ حجراً في يده وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم رماها بحجر فقتلها، فقال: الآن أيقنت أن أمر الراهب أحب إلى الله من أمر الساحر، وانطلق الناس يمشون، فجاء الغلام إلى الراهب، فقال له: لقد كان من أمري اليوم كذا وكذا، فقال الراهب: يا بني! إنك اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى»، انظروا إلى هذه السنن الربانية: لا بد من الابتلاء لأهل الإيمان؛ لأن العقيدة أشرف شيء يمكن أن يدعو إليه الداعي، أو يحافظ عليه المسلم، وهذا لا يكون رخيصاً، بل لا بد من دفع الثمن مقدماً.

ثم قال: «وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي» وصية أهل الإيمان بعضهم لبعض، إذا ابتليت يا فلان فلا تدل علي إلا أن تعجز عن ذلك، ويقع على جسدك من العذاب ما لا يمكن أن تقدر عليه، ويكون المخرج أن تدل علي، ويغلب على ظنك أنني لا أفتن بهذه الدلالة، فلا بأس حينئذ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

إظهار شعائر التوحيد والصبر على ذلك

قال عليه الصلاة والسلام: «وكان الغلام يبرئ الأكمه».

أي: الذي ولد أعمى، وكان يداوي من سائر الأدواء والعلل، وكان للملك جليس أعمى، فلما سمع بأمر الغلام جهز هدايا عظيمة وذهب بها للغلام، وقال: لقد جمعت لك هذا على أن تشفيني من العمى، فقال الغلام: أنا لا أشفي، إنما يشفي الله عز وجل! انظروا إلى ظهور عقيدة التوحيد، من أول لحظة نسب العلاج لله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80] لا يزعم أنه يشفي ويداوي من الأسقام والعلل، وإنما هو سبب سببه المولى عز وجل.

قال: أنا لا أشفي، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك من العمى، فآمن الجليس فدعا الغلام الله تعالى لهذا الجليس فشفاه الله عز وجل، فرجع ليجلس في مجلسه عند الملك، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، فقال بغطرسة ووقاحة وتبجح: ألك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله! انظروا إلى إظهار شعائر التوحيد على أيدي فئة قليلة، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].

قال: ربي وربك الله، فأخذه فعذبه ونكل به حتى دل على الغلام، وأخذ الغلام وقال له: أبلغ من سحرك هذا المبلغ؟ فقال: أنا لا أشفي وإنما يشفي الله عز وجل، فنكل به حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا.

وأبى أن يرجع عن دينه.

فوضع المنشار في مفرق رأسه وشقه نصفين حتى ألقي على الأرض ولم يرجع عن دينه.

انظروا إلى رجل ضحى بنفسه فداءً لدينه وعقيدته، لقد سجل التاريخ وسجل الإسلام شهادة تقدير واحترام لهذا الراهب لأنه قدم نفسه فداءً لعقيدته.

هذا هو النصر الحقيقي؛ إنه نصر العقيدة.

ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى ألقي على الأرض نصفين فمات فتقبله الله عز وجل، وجيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر الملك أعوان السوء أن يأخذوه ويصعدوا به إلى ذروة جبل كذا وكذا في تلك البلدة من بقاع الأرض، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه من ذروة الجبل، فلما كانوا في ذروة الجبل قالوا له: ارجع عن دينك، فأبى أن يرجع عن دينه، ورفع يديه إلى السماء؛ ليستخدم أعظم سلاح عرفه أهل الإيمان -ويستهين به أبناء الصحوة في هذا الزمان- قال: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، فارتج الجبل فسقطوا جميعاً في الوادي ورجع الغلام بعزة أهل الإيمان واستعلاء وفخر أهل التوحيد إلى الملك المتغطرس الجبار يمشي على قدميه، فلما رآه الملك قال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء وكيف شاء! فأمر بعض أصحابه أن يأخذوه في قرقور -سفينة- حتى إذا كانوا في وسط البحر قالوا للغلام: ارجع عن دينك، فأبى ورفع يديه إلى السماء وهو يقول: اللهم اكفنيهم بما شئت وكيف شئت، فغرقوا جميعاً ورجع الغلام إلى الملك يمشي على قدميه، ثم تحدى الغلام الملك! أرأيتم صبياً صغيراً يتحدى ملك الأرض؟! غلام واحد يقول كلمة الحق عند سلطان جائر، إن هذا لمن أعظم الجهاد وأفضله.

«قال له: إنك لن تقتلني حتى تفعل ما آمرك به، قال الملك: وما تأمرني؟» انظروا إلى موقف الذل والهوان لأهل الكفر والطغيان، حين يقول الملك بغروره وكبريائه للغلام: «وماذا تأمرني أيها الغلام؟ قال: إنك لن تقتلني حتى تجمع الناس جميعاً في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخلة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي فتضعه في كبد القوس وتقول على مرأى ومسمع من الناس: باسم الله رب الغلام» انظروا إلى هذه النكتة: «أن تقول باسم الله» لا باسم الملك، ولا باسم المسيح، ولا باسم العذراء، ولا باسم فلان، إنما تقول: «باسم الله رب الغلام، فإن فعلت قتلتني».

ففعل الملك، ربطه على جذع نخلة، وجمع الناس في صعيد واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام فوضعه في كبد القوس وأطلقه قائلاً: «باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغ الغلام، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، فلما رأى الناس ذلك قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام» أي نصر بعد هذا؟ أي انتصار لعقيدة الإيمان والتوحيد بعد هذا؟ أتظنون أن الغلام إذ قتل، وأن الراهب إذ قتل، وأن جليس الملك إذ قتل؛ أن تلك هزيمة؟ أهذا خذلان؟ كلا والله، تلك هي الملحمة الكبرى بين الإيمان والكفر التي يكتب فيها النصر لأهل الإيمان، والهزيمة والخسران، لا للجحود والكفر والطغيان.

التضحية في سبيل الله للحفاظ على العقيدة

بعد هذا الموقف اجتمع أصحاب السوء وبطانة السوء إلى الملك فقالوا: أرأيت أيها الملك! لقد نزل بك ما كنت تحذر، لقد آمن الناس، فانظر ماذا ترى.

قال: «خدوا لهم الأخاديد في أفواه السكك» أي: في أطراف الطرق احفروا لهم حفراً عظيمة وأججوا فيها النار، وانظروا من رجع منهم عن دينه فقد نجا من تلك النيران، ومن أبى فاقذفوه فيها، ففعلوا ذلك، فتتابع الناس إلى النيران، وكان الملك يظن أن الناس إذا رأوا ذلك هربوا، ولكنه فوجئ بأمر لا يتوقعه، فوجئ بأن الناس يقتحمون النيران حفاظاً على عقيدتهم ودينهم وتوحيدهم الذي لم تخالط بشاشته تلك القلوب إلا للحظات يسيرة، ولكنهم كانوا من الإخلاص والصدق في المحل الأعظم.

الناس كلهم يشتركون في الموت، ولكن الناس جميعاً لا يشتركون في المجد، فمنهم من يختار طريق المجد وهم قلة، وكثير من الناس ينظر إلى زهرة الحياة الدنيا ينظر إلى بقائه وحياته وإن عاش ذليلاً مهيناً، ولا يختار ميتة شريفة إلا من يعلم شرف الموت في سبيل الله عز وجل.

لقد كان موقف أهل الملك وأتباع الملك آنفاً أن آثروا الدخول في هذه النيران على انحرافهم عن عقيدة التوحيد.

مثلهم مثل سحرة فرعون الذين خروا لله سجداً بمجرد أن علموا أن موسى ليس ساحراً، وإنما هو رسول من عند الله، ولذلك قال لهم فرعون ذاك الطاغية الجبار العنيد: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه:71] وصار يتوعدهم ويتهددهم؛ لأنهم آمنوا بالله عز وجل.

فالمعركة منذ أن خلق الله تعالى الخليقة إلى قيام الساعة معركة إيمان وكفر، ولذلك اعتقاد أهل الإسلام جميعاً وكل أتباع الأنبياء والمرسلين: أن الفوز والنصر فيها لأهل الإيمان، يدل على ذلك بقاء الإيمان وظهوره إلى هذا اليوم، وسيكون كذلك إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى.

فخد لهم الأخاديد وألقاهم في النار، فتدافعوا إليها، إلا ما كان من امرأة معها صبي على صدرها، فتقاعست وتراجعت وخافت أن تلقي بنفسها ووليدها في النار، فنطق الغلام وقال: «يا أماه! اصبري فإنك على الحق»، نطق الغلام ناصحاً أمه أن تصبر، وأن تقذف نفسها وإياه في النار فإنها على الحق.

فتبين من هذا أن عدة النصر الصبر، «ولكنكم قوم تستعجلون».

المصدر

المكتبة الشاملة، محاضرة مفرغة بعنوان: “حقيقة النصر”، للشيخ حسن أبو الأشبال.

اقرأ أيضا

حقيقة النصر بين الفرد والدعوة

أسباب النصر وأصول التمكين .. (1-2)

سنن النصر .. حتى يغيروا ما بأنفسهم

لماذا يتأخر النصر ومن يستأهله؟

 

التعليقات غير متاحة