أهل العمى هم الذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق.. هم الذين يفسدون في الأرض، فهناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير.

المیزان الإلهي للعمى والبصيرة

مما يتصل بميزان الله للعقل والعقلاء: میزانه سبحانه للأعمى والبصير، أو العمى والبصيرة؛ فكم في كتاب الله من الآيات التي يبين الله فيها الأعمى على الحقيقة، وكذلك البصير على الحقيقة؛ ومن هذه الآيات:

– قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].

– وقوله سبحانه: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) [هود: 24].

– وقوله تعالى: (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء:72].

– وقوله سبحانه عن الكفار: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) [البقرة: 18].

– وقوله سبحانه: (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) [الأنعام: 104].

– وقوله تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19].

 الناس صنفان: مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون

وأكتفي من التعليقات على هذه الآيات بما ذكره سيد قطب – رحمه الله تعالى – عند آية الرعد؛ فمما قال – رحمه الله تعالى -: «إن المقابل لمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا، إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق. وهو الحق في الوقت ذاته، لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف ؛ فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى. والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان: مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون! العمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع .. (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9]؛ الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر»1(1) في ظلال القرآن 4/2056 ..

وقال في موطن آخر عند الآية نفسها: «وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم – بشهادة الله سبحانه – عمي، وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون، وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله ، وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة، فتسكن وتستريح وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضا عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله ؛ فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة، وإن هي إلا کینونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها، وهو يسبح بحمد ربه، وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره .

موقف المسلم من مناهج البشر وتقريراتهم

وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميا – بشهادة الله سبحانه – فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله ، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله … لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقا بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان، أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته، أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه ..

وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر – غير الإسلامي – بجملته – فيما عدا العلوم المادية البحتة، وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله بقوله: «أنتم أعلم بشؤون دنیاکم»2(2) مسلم (2363).. فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق.. فهو أعمى بشهادة الله سبحانه … ولن يرد شهادة الله مسلم. ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم!

إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد، وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم .. وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها؛ إن لم يكن هو رد شهادة الله – سبحانه – وهو الكفر البواح في هذه الصورة!

وأعجب العجب أن ناسا من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون، ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه: إنهم عمي. ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون!

إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل، وجزم لا يحتمل التميع، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة .. فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الحزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه، والله غني عن العالمين.

وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته ؛ وهو يعلم أن ما جاء به محمد وهو الحق، وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق «أعمى»، ثم يتبع هذا الأعمى، ويتلقى عنه بعد شهادة الله عليه .

القيادات الضالة العمياء تفسد ولا تصلح

إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير. فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق.. هم الذين يفسدون في الأرض، كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض وتزكو بهم الحياة.. .

إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده، والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه .. إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد هو الحق وحده، والتي تتبع – من ثم – مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده .. إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! .. إنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل الله على محمد هو وحده الحق، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه .. إنها لا تصلح بالثيوقراطية، كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العمي، الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله ؛ تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله، وتعبدهم لما شرع، فتجعل دينونتهم لغير الله.

وآية هذا الذي نقوله – استمدادا من النص القرآني – هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين، وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها .. سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية ! وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية ! إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق ؛ لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده، ولا تلتزم – من ثم – بعهد الله وشرعه، ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .

المسلم الحق

إن المسلم يرفض – بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق – كل منهج للحياة غير منهج الله، وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي ، وكل وضع كذلك سياسي غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .

ومجرد الاعتراف بشريعة أو منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله ؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه.

إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام السياسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) .. فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي؟

ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله، وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي، الذي يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون. فلم تسعد قط ، ولم ترتفع «إنسانيتها » قط، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم»3(3) في ظلال القرآن 4/ 2074-2076 (باختصار)..

أهل العمى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا

وبهذا يتبين لنا أن الناس إنما هما فريقان: فريق استجاب لله ولرسله، وقام بوظيفة العبودية لله عز وجل، فهو البصير على الحقيقة، وفريق سواه إنما هو أعمى مطموس البصيرة، ولو كان غاية في الذكاء، ولو بلغ في علوم الدنيا ومخترعاتها ما بلغ، فما دام أنه لم يؤمن بما أنزل من الله عز وجل من الحق فهو أعمى بشهادة الله عز وجل، ومن أصدق من الله حديثا . ولا شك أن مثل هذه الحقائق لا تقبلها عقول الماديين العقلانيين؛ إذ كيف يكون الطبيب الحاذق والمهندس الدقيق والمخترع البارع عميا؟ هذا هو مبلغ عقولهم، ولا يخفى ما في كلامهم من مصادمة صريحة لخبر الله وشهادته .

إن مثل هؤلاء قد أخبرنا الله عنهم بقوله: (وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 6، 7].

يقول ابن كثير – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: «أي : أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها. فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة؛ كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة.

قال الحسن البصري: «والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي» وقال ابن عباس في قوله: « (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) يعني الكفار؛ يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال»4(4) تفسير ابن كثير عند الآيتين (6، 7) من سورة الروم ..

ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى -: «العجب أن هذا القسم من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول، ويدهش الألباب، وأظهروا من العجائب الذرية، والكهربائية، والمراكب البرية والبحرية، والهوائية، ما فاقوا به وبرزوا، وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم الله عليه. فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك، أبلد الناس في أمر دينهم، وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلهم معرفة بالعواقب. قد رآهم أهل البصائر النافذة في جهلهم يتخبطون، وفي ضلالهم يعمهون، وفي باطلهم يترددون. نسوا الله عز وجل، فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون. ولو نظروا إلى ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها، وما حرموا من العقل العالي، لعرفوا أن الأمر لله عز وجل، والحكم له في عباده، وإن هو إلا توفيقه أو خذلانه، ولخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم من نور العقول والإيمان حتى يصلوا إليه، ويحلوا بساحته. وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرقي العالي والحياة الطيبة . ولكنها لما بني كثير منها على الإلحاد لم تثمر إلا هبوط الأخلاق، وأسباب الفناء والتدمير»5(5) تفسير السعدي 4/ 76،77.

المعاصي من أسباب عمى القلوب

وأختتم هذه الفقرة بكلام نافع للإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – بين فيه أثر الذنوب والمعاصي على القلوب، وأنها سبب في عماها وانطماس نورها ؛ يقول – رحمه الله تعالى – عن عقوبات المعاصي: «ومن عقوباتها : أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طريق العلم، وتحجب مواد الهداية .

وقد قال مالك للشافعي لما اجتمع به ورأى تلك المخايل: إني أرى الله تعالى قد ألقي عليك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.

ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل، وظلام المعصية يقوى حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مهلك يسقط فيه ولا يبصره؛ كأعمى خرج بالليل في طريق مهالك ومعاطب، فيا عزة السلامة، ويا سرعة العطب . ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجه منها سواد، بحسب قوتها وتزايدها ، فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ، فامتلأ القبر ظلمة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم»6(6) رواه مسلم (956).. فإذا كان يوم المعاد وحشر العباد علت الوجوه علوا ظاهرا يراه كل أحد»7(7) الجواب الكافي ص109، 110..

الهوامش

(1) في ظلال القرآن 4/2056 .

(2) مسلم (2363).

(3) في ظلال القرآن 4/ 2074-2076 (باختصار).

(4) تفسير ابن كثير عند الآيتين (6، 7) من سورة الروم .

(5) تفسير السعدي 4/ 76،77

(6) رواه مسلم (956).

(7) الجواب الكافي ص109، 110.

اقرأ أيضا

خصائص الميزان الإلهي

ميزان العقل والعقلاء في الجاهلية

الميزان الإلهي للعقل والعقلاء والتنوير

التعليقات غير متاحة