لعل السر والدافع الذي جعل السلف يسرون ويخفون أعمالهم، هو الإخلاص في العمل والخوف من عدم القبول، والخوف من الرياء والنفاق وسوء الخاتمة.

مقدمة

إن من علامات الإخلاص التي يعرف بها العبد صلاح سريرته أعمال الخلوة والخبيئة الصالحة، فأعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون، فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه، وزاده من دنياه لآخرته، بها تفرج الكربات، وتسموا الدرجات، وتكفر السيئات.

توجيه المسلم بإنشاء عبادة خفية

إن عبادة السر وطاعة الخفاء من أبرز علامات الإخلاص وصلاح السرائر. فما زال المخلصون يحرصون على إخفاء صالح أعمالهم من غير الفرائض رجاء محبة الله عز وجل لهم وقبول أعمالهم عنده سبحانه وتعالى ، مستحضرین قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي»1(1) مسلم: 2965..

وجاء عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: (اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح، كما أن لكم خبيئة من العمل السيء).

وقد كان ذلك هديا بينا للسلف الصالح، ومن ذلك قول الخريبي: (كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها)2(2) سير أعلام النبلاء: ( 9/349)..

ويقول القرطبي عند قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143-144].

قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل»3(3) مسند الشهاب: (1/ 267)، والصحيح وقفه على الزبير بن العوام.، فيجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويخبؤها بجهده، ويسترها عن خلقه، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه)4(4) تفسير القرطبي: ( 15/127)..

نحن.. وخبيئة الصالحات

يتحدث الأستاذ خالد روشة عن الخبيئة الصالحة فيقول: زورق من ركبه نجا، وعبادة من اعتادها طهر قلبه وهذب نفسه وعودها الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحد، ولا يعلم بك أحد غير الله له، فأنت عندئذ تقدم العبادة له وحده غير عابئ بنظر الناس إليك، وغير منتظر لأجر منهم مهما قل أو كثر. وهي وسيلة لا يستطيعها المنافقون أبدا، وكذلك لا يستطيعها الكذابون لأن كلا منهما بنی أعماله على رؤية الناس له، وإنما هي من أعمال الصالحين فقط.

إن أعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون، فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه، ولكن في وقت قل فيه عمل السر، أو كاد أن ينسى، ينبغي على الحركة الإسلامية إحياء معناه، علم وعملا، وينبغي على شباب الصحوة الإسلامية تربية أنفسهم عليه.

وليعلم كل امرئ أن الشيطان لا يرضى ولا يقر إذا رأى من العبد عمل سر أبدا، وإنه لن يتركه حتى يجعله في العلانية، ذلك لأن أعمال السر هي أشد أعمال على الشيطان، وأبعد أعمال عن مخالطة الرياء والعجب والشهرة، وإذا انتشرت أعمال السر بين المسلمين ظهرت البركة وعم الخير بين الناس، وإن ما نراه من صراع على الدنيا سببه الشح الخارجي والشح الخفي، فأما الأول فمعلوم، وأما الثاني فهو البخل بالطاعة في السر، إذ إنها لا تخرج إلا من قلب کریم قد ملأ حب الله سويداءه، وعمت الرغبة فيما عنده أرجاءه، فأنكر نفسه في سبيل ربه، وأخفى عمله يرید قبوله من مولاه، فأحبب بهذي الجوارح المخلصة والنفوس الطيبة الصافية النقية التي تخفي عن شمالها ما تنفق يمينها)5(5) عن موقع (المسلم)..

السلف وعبادةِ السر

وقد نقل الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى بعض أحوال السلف في إخفاء أعمالهم وذلك عند قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾  [الأعراف: 55]. فقال: (وقال عبدالله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ ، وذلك أن الله ذكر عبد صالح رضي فعله فقال: ﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾6(6) تفسير ابن كثير (3/ 424) ط/ الشعب..

تقدير هم للخلوة والعزلة وعبادة السر

وإتماما للفائدة أسوق مزيدا من النماذج المضيئة، التي تبين حرص سلفنا الصالح على حفظ أعمالهم وإخفائها عن الناس. فمن ذلك:

كان زين العابدين علي بن الحسين ينفق على أهل مئة بيت في المدينة، يأتيهم في الليل بالطعام، ولا يعرفون من الآتي به، حتى مات ففقدوا ذلك، فعرفوا أن ذلك منه، ووجدوا في ظهره أثرا من نقل الطعام إلى بيوت الأرامل)7(7) سير أعلام النبلاء: (3/393)..

وكان ابن المبارك يضع اللثام على وجهه عند القتال لئلا يعرف، قال أحمد: (ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له)8(8) صفة الصفوة: (4/ 115)..

وما جاء أن منصور السلمي صام أربعين سنة وقام ليلها، كان يبكي فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلا ؟! فيقول: أنا أعلم با صنعت بنفسي، فإذا كان الصبح كحل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس)9(9) سير أعلام النبلاء: (5/ 406)..

ومن ذلك أن داود بن أبي هند: صام أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازا يحمل غذاءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيا فيفطر معهم)10(10) حلية الأولياء : (3/94)..

وقال سفيان: (أخبرتني سرية الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه)11(11) حلية الأولياء: (2/107)..

وقول سلمة بن دینار: (اکتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك)12(12) المصدر السابق: (3/240)..

ويقول الشافعي رحمه الله تعالى: (ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من العمل الصالح فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يعتمد على العلم فقط، فإنه قليل الجدوى في الآخرة)13(13) العهود المحمدية: ( 1/266)..

وعن إبراهيم بن أدهم قال: (لم يصدق الله من أحب الشهرة)14(14) الحلية: (8/19)..

وقال ابن قتيبة : (حاصر مسلمة حصنا، فندب الناس إلى نقب منه، فيا دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادی مسلمة: أين صاحب النقب؟ فيما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء! فجاء رجل، فقال: استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتی مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثا: ألا تسودوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب ! )15(15) عيون الأخبار، لابن قتيبة: (1/266)..

خاتمة

إن عبادة السر وطاعة الخفاء دليل الصدق، وعنوان الإخلاص، وعلامة المحبة، وأثر الإيمان، فعبادة السر وطاعة الخفاء لا يستطيعها المنافقون، ولا يقوى عليها الكذابون، ولا يعرفها المدعون، وصلاح القلب واستقامته وطهارته وتنقيته من شوائبه، وتطهيره من سواده وبوائقه يتحقق بالإكثار من عبادة السر وطاعة الخفاء كما قال بعض الصالحين : “من أكثر عبادة السر أصلح الله له قلبه شاء العبد أم أبى”. وقال آخر: “من اشتكى ضعفا (أي في إيمانه) فخلوته بربه نادرة”.

الهوامش

(1) مسلم: 2965.

(2) سير أعلام النبلاء: ( 9/349).

(3) مسند الشهاب: (1/ 267)، والصحيح وقفه على الزبير بن العوام.

(4) تفسير القرطبي: ( 15/127).

(5) عن موقع (المسلم).

(6) تفسير ابن كثير (3/ 424) ط/ الشعب.

(7) سير أعلام النبلاء: (3/393).

(8) صفة الصفوة: (4/ 115).

(9) سير أعلام النبلاء: (5/ 406).

(10) حلية الأولياء : (3/94).

(11) حلية الأولياء: (2/107).

(12) المصدر السابق: (3/240).

(13) العهود المحمدية: ( 1/266).

(14) الحلية: (8/19).

(15) عيون الأخبار، لابن قتيبة: (1/266).

اقرأ أيضا

الإخلاص والصدق من علامات صلاح السريرة

دلالات وأمارات صلاح السريرة

محبة الخير للمسلمين ونبذ الفرقة بينهم .. من علامات صلاح السريرة

 

التعليقات غير متاحة