كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ولاة الجور؛ فقد أمر أيضا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، وقد أمر أيضا بالمجاهدة والإنكار، وعلق بهما وجود الإيمان، ولا بد من الجمع بين ما أمر الله ورسوله.
الصبر أم الإنكار؟
بعد إيضاح خطورة شرك الطاعة في الدارين [وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (1) خطر الشرك]، وبيان معنى الطاعة والاتباع والفروق المهمة [وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (2) بين الطاعة والتأله] وبيان الآيات الدالة على شرك التشريع وتسويته بشرك النسك والتألّه [وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (3) موجِبات حق التشريع]..
ثم بيان التلازم بين شرك الطاعة وشرك المحبة، وبيان متى تكون الطاعة شركا ومتى تكون معصية وضابط ذلك في [وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع].
ثم أوضح صورا معاصرة يتحقق فيها هذا النوع من الشرك، مع غفلة الكثير وذهولهم عن دخوله في الشرك [وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (5) نظرة الى الواقع].
وفي خاتمة المقالات يوضح هنا الجمع بين الأحاديث الواردة في طاعة الحاكم والصبر على جورهم، والأحاديث الواردة في الإنكار عليهم وقول الحق ونزع الطاعة منهم، بل وإسقاط شرعيتهم وطلب مجاهدتهم.
بين طاعة السلاطين والإنكار عليهم
مسألة في الأحاديث الواردة في طاعة السلاطين والجمع بينها وبيان مناطاتها ورد تلبيس الملبسين بها:
ان مما يؤسف له أن ينبري بعض علماء السلاطين أو بعض المرجئة المعاصرين إلى التلبيس على الناس سواء قصدوا أم لم يقصدوا.
وذلك بذكر الأحاديث الواردة في طاعة الولاة دون النظر إلى مناطاتها، ودون النظر إلى أحوال الولاة وصفاتهم، والتعمد بانتقاء الأحاديث التي تأمر بالطاعة وإهمال الأحاديث التي فيها الإنكار على الولاة وعدم طاعتهم في معصية الله تعالى وعلى الصدع بكلمة الحق؛ فحصل من جراء ذلك تقديس الحكام والغلو الشديد في طاعتهم وكأنهم أنبياء أو آلهة.
“وفي هذه الأجواء ينبت شرك الطاعة”.
الجمع بين الأمرة بالصبر والطاعة، والأمر بالإنكار والمجاهدة
وبياناً للحق أسوق أهم الروايات المختلفة الواردة في طاعة الحكام وكيف نجمع بينها وكيف يتم توجيهها.
الحديث الأول:
حديث حذيفة عن الخير والشر
عن حذيفة رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله: «إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر، قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير، قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر، قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك، قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع». (1مسلم (1847) وقد ضعف النووي وغيره زيادة «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» ومن صحح هذه الزيادة من أهل العلم وجهها بعضهم بقوله (وإن ضرب ظهرك في حد أو أخذ مالك بحق) وبعضهم قال أنها في حال الحرب والجهاد)
الحديث الثاني:
حديث ابن عباس في مفارقة الجماعة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية». (2مسلم (1849))
الحديث الثالث:
حديث أم سلمة «تعرفون وتنكرون»
عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضى وتابع. قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلّوا». (مسلم (1854))
الحديث الرابع:
حديث ابن مسعود «فمن جاهدهم بيده..»
عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». (3مسلم (50))
الحديث الخامس:
حديث عبادة «أن نقول بالحق حيثما كنا»
عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم». (4البخاري (7199)،مسلم (1840) واللفظ لمسلم)
وفي رواية مسلم: «وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان». (5مسلم (1709))
ومن تلبيس بعض الملبسين في هذا الحديث أنهم يذكرون أول الحديث الذي يأمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ويبتروا آخره الذي فيه «وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم».
الحديث السادس:
حديث عليّ «إنما الطاعة في المعروف»
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمّر عليهم رجلا فأوقد نارا وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها.
فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة» وقال للآخرين: «لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف». (6البخاري (7257))
الحديث السابع:
حديث ابن مسعود «لا طاعة لمخلوق في معصية الله»
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بك يا أبا عبدالرحمن إذا كان عليك أمراء يطفئون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها، قال كيف تأمرني يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسألني ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمخلوق في معصية الله». (7أحمد (3889) ، والطبراني في الكبير 3/ 74 وقال الألباني اسناده جيد على شرط مسلم)
الحديث الثامن:
حديث معاذ «لا طاعة لمن لم يُطع الله»
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك؛ فما تأمرني في أمرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل». (8أحمد (13225) وصححه الالباني في صحيح الجامع (7521))
تعظيم النصوص، وإجلالها، وعدم تعطيلها
هذه أهم النصوص الواردة حسب علمي في المواقف من السلاطين حينما يعدلون وحينما يجورون وحينما يكفرون.
وإن من منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال أنهم يعظّمون النصوص الشرعية، ويجلّونها، ولا يضربون بعضها ببعض؛ بل يُعْملون النصوص كلها، ويردّون المتشابه إلى المحكم، ويجمعون بينها، ولا يعارضونها بهوىً ولا عقل ولا ذوق ولا سياسة، ويجتهدون في تحقيق وتنقيح المناط الذي وردت فيه النصوص.
ومن هذه النصوص تلك الأحاديث الصحيحة السابق ذكرها في الموقف من الولاة والسلاطين؛ فلا يعطّلون النصوص التي ورد فيها الصبر على جور الولاة بالنصوص التي ورد فيها الإنكار عليهم ومجاهدتهم والخروج عليهم.
ولا يُنْزلون النصوص التي وردت في طاعة ولاة الأمر العادلين وأهل الجور منهم بالنصوص الواردة في الخروج على الولاة إذا ظهر الكفر البواح.
تغير الأحكام تبعا لتغير الأحوال، ودرجات الانحراف
وبالتأمل في النصوص الآنفة الذكر ترى تغير المواقف من الولاة حسب حالهم وأصنافهم ومدى قربهم وبعدهم من الدين؛ فنرى الأمر بالصبر تارة وبالإنكار تارة وبالاعتزال تارة وبالاحتساب والمجاهدة تارة وبإسقاط الشرعية والخروج على السلطان حين القدرة وظهور الكفر البواح تارة.
وعليه فإن من الخطأ البيّن: اختصار واختزال أمر التعامل مع السلطان في حكم واحد ـ وهو الصبر ـ في جميع الأحوال؛ حتى لو ظهر الكفر البواح بتبديل الدين وموالاة الكفار وتنحية الشريعة وتمزيق البلاد وتعريض الأمة لخطر السقوط والانهيار.
وقد تنوعت الأحاديث السابقة وتنوعت المواقف فيها حيث ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أوصافاً مختلفة لانحرافات الحكام ودرجاتها وذكر في مقابل كل درجة من الانحراف نوعاً من التعامل فبينما يرد الأمر بالصبر في بعض الأحوال نجده في نفس الوقت يأمر بمعصيتهم وعدم طاعتهم إذا أمروا بمعصية ، وفي موطن آخر يأمر بتغيير المنكر وفي موطن آخر يأمر بمجاهدتهم و قتالهم والخروج عليهم عند القدرة.
ولا تعارض بين كل هذه الأحاديث لأنها تتعلق بأحوال مختلفة.
خطأ شرعي وتاريخي
إذاً فمن الخطأ الشرعي والتاريخي تعميم حكم واحد أمام الدرجات والأحوال المختلفة للانحراف.
وبناء على هذه النظرة الخاطئة للنصوص ومناطاتها انحرفت المواقف من السلاطين في واقعنا المعاصر؛ فأصبحنا نسمع من يُنزل النصوص الواردة في وجوب طاعة وليّ الأمر والصبر على ظلمه على طواغيت العصر الذين رفضوا شريعة الله عز وجل واستحلوا ما حرّم الله وظاهروا أعداء الله وتسلطوا على مقاليد الحكم في بلدان المسلمين..!
ومن هنا وجب على الدعاة الصادقين تصحيح المفاهيم الفقهيه الخاطئة كالقول بأن مذهب أهل السنة في انحراف الحكام هو الصبر بإطلاق أو الطاعة بإطلاق؛ لأنهم بذلك يحرمون الأمة من محاسبة الحاكم والإنكار عليه، بل والخروج عليه حينما يظهر الكفر البواح ووجود القدرة.
ولا يخفى ما في هذه المواقف والنظرات الخاطئة من خيانة للدين والأمة، وذلك بوضعها في مأزق يصعب عليها الخروج منه، حتى صارت كما نرى اليوم عرضة للتشتت والضياع والذلة والمهانة، بل عرضة لهدم أركان التوحيد؛ وذلك بتهيئة الجو لشرك الطاعة والاتباع بالغلو في طاعة ولي الأمر وعدم التفريق بين مناطات النصوص الواردة في التعامل مع الولاة حسب بقائهم في دائرة الإسلام أو خروجهم منها بالكفر البواح كما جاء في الحديث.
وبعد
فهذا ما يسّره الله عز وجل من بيان هذا الشرك الخطير وبيان بعض صوره المعاصرة..
فإن أصبت في هذا البيان فمن الله عز وجل الهادي النصير، وأحمده سبحانه على توفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله وأتوب إليه.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
- مسلم (1847) وقد ضعف النووي وغيره زيادة «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» ومن صحح هذه الزيادة من أهل العلم وجهها بعضهم بقوله (وإن ضرب ظهرك في حد أو أخذ مالك بحق) وبعضهم قال أنها في حال الحرب والجهاد.
- مسلم (1849).
- مسلم (1854).
- مسلم (50).
- البخاري (7199)،مسلم (1840) واللفظ لمسلم.
- مسلم (1709).
- البخاري (7257).
- أحمد (3889) ، والطبراني في الكبير 3/74 وقال الألباني اسناده جيد على شرط مسلم.
- أحمد (13225) وصححه الالباني في صحيح الجامع (7521).
اقرأ أيضًا:
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (1) خطر الشرك
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (2) بين الطاعة والتأله
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (3) موجِبات حق التشريع
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (5) نظرة الى الواقع