أمر الله تعالى عباده أن يأمروا بالمعروف لما يتضمن من المصالح، وأن ينهوا عن المنكر لما يتضمن من المفاسد، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد احتاج الأمر الى نظر وفقه، وحلم وصبر.

مقدمة

في المقال الأول “فتنة شيوع المعاصي وترك إنكارها أوضحنا الآيات الدالة وحديث رسول الله، ومواقف السلف، وخطورة ترك ما أمر الله تعالى به.

وفي المقال الثاني “الفتن الناجمة عن شيوع المعاصي والفساد” أوضحنا الخلل الذي يسري في الأمة جراء شيوع المعاصي بلا إنكار، فهي تصيب المجتمع، وتصيب شرائحه وطوائفه، سواء من وقع في المعصية أو سكت عنها، وكذلك انقلاب الأوضاع واتهام المصلحين، كما تبين التوازن بين عدم الوقوع في فتنة الخروج، وبين عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي هذا المقال بيان ضوابط مهمة للأمر والنهي في بابٍ عظيم يخفى على كثير من العاملين للإسلام في زماننا، وذلك عندما يستلزم الأمر والنهي تحقق مفاسد أو تفويت مصالح.

فتنة إنكار الفساد دون مراعاة للضوابط الشرعية والمصالح والمفاسد

والضوابط المقصودة هنا مثل توفر القدرة، والعلم، والرفق، والحكمة، والصبر، وأن لا تفوت بتغيير المنكر مصلحة عظيمة، أو أن الانكار يترتب عليه مفسدة ومنكر أعظم من المنكر المراد تغييره.. إلى آخر هذه الضوابط والقواعد.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام:108)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا قومك حديثٌ عهدهم ـ قال ابن الزبير: بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: بابا يدخل الناس، وبابا يخرجون». (1)

يقول شيخ الإسلام:

“وإذا كان كذلك فمعلوم أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو مِن أعظم المعروف الذي أمرنا به ولهذا قيل: “ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر”، وإذا كان هو مِن أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بُعثت الرسل ونَزلت الكتب ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ بل كل ما أمر الله به فهو صلاحٌ.

وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع؛ فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد تُرك واجب وفُعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم.

وهذا معنى قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره مِن الواجبات لم يضرَّه ضلال الضُلاَّل. (2)

انحراف في اتجاهين

يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

“وهنا يغلط فريقان مِن النَّاس:

فريقٌ يترك ما يجب مِن الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية كما قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه في خطبته “إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النَّاس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه».

والفريق الثاني مَن يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا مِن غير فقهٍ وحلمٍ وصبرٍ ونظرٍ فيما يصلح مِن ذلك وما لا يصلح، وما يَقدر عليه وما لا يَقدر.

كما في حديث أبى ثعلبة الخشني سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيتَ شحًّا مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثَرةً وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه ورأيتَ أمراً لا يَدان لك به فعليك بنفسك ودعْ عنك أمر العوام؛ فإن مِن ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله»، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيعٌ في ذلك لله ورسوله، وهو معتدٍ في حدوده؛ كما انتصب كثيرٌ مِن أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهى والجهاد على ذلك، وكان فسادُه أعظمَ مِن صلاحه.

ولهذا أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال: «أدّوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم».

ولهذا كان مِن أصول أهل السنة والجماعة “لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة”.

وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيروْن القتال للأئمة مِن أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة، (منه) “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الذي منه قتال الأئمة”. (3)

القاعدة عند تعارض المصالح والمفاسد

يقول رحمه الله:

“وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد.

فإن الأمر والنهى وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحةٍ ودفع مفسدةٍ فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت مِن المصالح أو يحصل مِن المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به بل يكون محرَّما إذا كانت مفسدته أكثر مِن مصلحته.

لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتّباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقلَّ أن تعوز النصوص مَن يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام.

وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروفٍ ومنكرٍ بحيث لا يفرقون بينهما بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يَأمروا بمعروفٍ ولا أن يَنهوا عن منكرٍ بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أَمر به وإن استلزم ما هو دونه مِن المنكر.

ولم يَنه عن منكرٍ يستلزم تفويتَ معروفٍ أعظمَ منه بل يكون النهي حينئذ مِن باب الصدِّ عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات.

وإن كان المنكر أغلب نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه مِن المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكرٍ وسعياً في معصية الله ورسوله.

وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.

فتارةً يصلح الأمر وتارةً يصلح النهي وتارةً لا يصلح لا أمرٌ ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة.

وأما مِن جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهى عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.

وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة إلا بعلمٍ ونيةٍ. (4)

خاتمة

عندما تتزاحم المصالح والمفاسد، والمأمورات والمنهيات؛ خاصة في زماننا المضطرب المتشابك الواقع، فلا بد من فقهٍ خاص، ومعرفةٍ دقيقة للأمر بالمعروف المستلزم لوقوع منكرات أو تضييع معروف أكبر، والنهي عن المنكر المستلزم لترك معروف أو ارتكاب منكر أكبر.

وبتضييع هذا وقع للمسلمين مفاسد كبيرة وتعرضوا لفتن ضخام، وتأخر وصولهم للتمكين المأمول وإقامة الدين المأمور به، وتبددت طاقات وقوى، خاصة في باب الجهاد.

والله الموفق للمسلمين للخير والأخذ بأرشد الأمور، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

………………………………

هوامش:

  1. فتح الباري ك. العلم 1\271 (126).
  2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنك، لابن تيمية، صـ 10 الى صـ13.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر نفسه.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة