إذا كان الإنسان يخاف الفناء فإن السلطة تريد أن تظهر أنها خالدة .. فالتمثال أكبر حجما من البشر، أثقل من الزمن، أعلى من الأبنية، وظيفته تجميد فكرة الموت، فالحاكم لا يموت، بل يصبح حجرا خالدا يتعالى على التاريخ!

من سوريا إلى الفراعنة: لماذا تصنع الأنظمة المستبدة التماثيل؟

كنت أميل لفتوى الشيخ محمد عبده ورأيه في قضية التماثيل، واقتنعت بالرأي القائل بأن سبب تحريمها والنهي عنها كان لحداثة العهد بالجاهلية، لكني لما رأيت العدد الكبير لتماثيل المقبور حافظ الأسد التي أُسقِطَت استوقفني الموضوع طويلا وحاولت البحث فيه منذ مدة، لقد قرأت أنه كان يوجد بسوريا حوالي ثلاثة آلاف تمثال ونصب تذكاري للطاغية المقبور! .. هنا حاولت أن أفهم الدافع وراء كل هذا الكم من التماثيل؟ ولماذا نجد فكرة التماثيل حاضرة بشكل بارز في الأنظمة الاستبدادية والشمولية خاصة؟

التماثيل والخلود الوهمي: كيف تحاول السلطة تجميد الموت؟

في الكثير من الحضارات والثقافات القديمة كانت التماثيل تجسيدا للإله والسلطة معا، فالفراعنة على سبيل المثال لم يصنعوا تماثيل للزينة، بل لصناعة سلطة ميتافيزيقية فوق بشرية، فالتمثال عندهم ليس تصويرا لوجه الملك وإنما تجسيد لجوهره الإلهي كما يعتقدون، ووظيفته أن يجعل الجماهير ترى الإله ماديا أمامهم، فتخضع له بلا نقاش، والتمثال جعل الفراعنة يعتقدون الخلود في ملوكهم، فكانوا يؤمنون أنه لا تستمر الروح إلا إذا بقي الجسد أو صورته (التمثال)، فهو امتداد للسلطة بعد الموت، ويبدو أن من تأثر بني إسرائيل بالثقافة الفرعونية والخضوع للإله المتمثل أمامهم في تمثال لم يستوعبوا عبادة الله الذي لا تدركه الأبصار، فقالوا لنبي الله موسى عليه السلام: (أرنا الله جهرة)، وصنعوا تمثال عجل وعبدوه!

التمثال ليس حجرًا بل خطابًا: “أنا حاضر، أنا فوق الزمن!”

وأما التمثال السياسي في الأنظمة الاستبدادية والشمولية فهو ليس مجرد تقدير معنوي، بل تجسيد ميتافيزيقي للسلطة، وأداة تأليه دنيوي للحاكم!، وفي هذا الصدد يقول بيير بورديو في كتابه (الرمز والسلطة) ما معناه أن السلطة لا تكفيها أدوات القمع بل تحتاج إلى أدوات التخيل والإيهام، لهذا لا يمكن اعتبار التمثال مجرد حجر، بل هو بناء رمزي ينتج معنى الطاعة والخضوع، فالتمثال في مفهوم السلطة المستبدة يوحي بالدوام بينما الأفراد فانون، ولهذا كان الشعار البعثي في سوريا: (الأسد إلى الأبد)، ورغم أن التمثال تجسيد صامت إلا أنه يكرس خطابا مستمرا مفاده: أنا حاضر، أنا صاحب الحق، أنا فوق الزمن!!! ..

سوريا والعراق وكوريا: التماثيل كطقوس عبادة سياسية إجبارية

كأن هذه السُّلط الاستبدادية تريد أن تقول إن الحاكم ليس مجرد فرد، بل هو قدر تاريخي، وروح الأمة، وتجسيدها المتعالي! .. يكفيكم أن تنظروا للشعب الكوري الشمالي وهو يتجه كل صباح للتمثالين العظيمين لكيم إيل سونغ وكيم إيل جونغ ليركع أمامهما ويقدم عند أقدامهما الورود ويبكي إجبارا عندهما .. كل هذا يُخرج التمثال من المادة إلى تعالٍ روحي مصطنع .. والعجيب أن هذه الطقوس ذات المعاني الميتافيزيقية تتم بأمر من نظام شيوعي يزعم أنه لا دين له!! .. إن التمثال السياسي هو تأليه الدولة الدنيوي ..

من “بانوبتيكون” إلى تماثيل الحكام: المراقبة الخفية والسلطة المتجسدة

في سنة 1785 قام الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام  بتصميم سجن سماه Panopticon، وهذه التسمية تعني مراقبة الكل، ويقوم نظام السجن هذا على السماح بمراقب واحد ليراقب الجميع دون أن يتمكن المسجونون من معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا، وأثار هذا التصميم إلهام الكثير من المفكرين والمشتغلين بالفلسفة ليكتبوا حوله، ومن أشهر من كتب كان ميشيل فوكو، ومما انتهى إليه في حديثه عن المجتمع التأديبي؛ أن السلطة تسعى لخلق شعور دائم بأنك مراقب، ولا تحتاج بالضرورة في ذلك إلى كاميرات، بل يكفي وضع تماثيل للحكام، ونشر صورهم في مداخل المدن والساحات، وفي المدارس وعلى الجبال وعلى العملات وفي التلفزيون ..

أما الحسن الثاني فلن يرحمني!

من الطُّرَف التي تُحكى عن زمن حكم الحسن الثاني في المغرب أن واليا من ولاته على إحدى مناطق البلاد كان يتابع تحضيرات زيارة الملك لتلك المنطقة .. ومن ضمن الاستعدادات كان إضاءة الشعار الرسمي للبلاد (الله، الوطن، الملك)، كانت المصابيح المركزة على كلمة الملك قد انطفأت لعطب أصابها .. فطلب الوالي نزع مصابيح كلمة (الله) وإضاءة كلمة (الملك) بدلها .. وقال مبررا إن الله قد يغفر لي أما الحسن الثاني فلن يرحمني! .. وفي سوريا قام نظام البعث النصيري بنصب تماثيل لحافظ الأسد في مناطق تفتقر لأدنى متطلبات المعيشة .. وكانت الرسالة واضحة أنك تحت مرأى القائد ولو كنت في قرية لا قيمة لها! .. لم يكن الأمر مختلفا في العراق الذي كانت تملؤ ساحاته تماثيل صدام وصوره .. وحين أرادت أمريكا أن تقول للعالم إنها أسقطت نظام صدام أسقطت تمثاله الكبير في بغداد! ..

إذا كان الإنسان يخاف الفناء فإن السلطة تريد أن تظهر أنها خالدة .. فالتمثال أكبر حجما من البشر، أثقل من الزمن، أعلى من الأبنية، وظيفته تجميد فكرة الموت، فالحاكم لا يموت، بل يصبح حجرا خالدا يتعالى على التاريخ!، وهو الأب القاهر الحامي، والبطل المنقذ الذي لا يُسأل، وهو الأيقونة التي تحتاجها النفس الجماعية لتستسلم لها بتعبير كارل يونغ.

الإسلام وتحطيم الأصنام: تحرير الإنسان من العبودية الرمزية

هنا يظهر لنا عمق رؤية الإسلام لكل هذه الأبعاد النفسية والاجتماعية والسلطوية، فسدّ هذا الباب خوفا من التحول من الاحترام إلى العبادة، لهذا حرص الإسلام على سلامة الوعي من التأليه البشري، لأن الإسلام قام على تحرير الإنسان من كافة أغلال العبودية المزيفة التي صنعها لنفسه، ولم يجعل بينه وبين ربه وسيطا، فهدم كل أشكال الكهنوت، لهذا كانت لحظة تحطيم الأصنام في مكة أكبر من مجرد ثورة دينية، بل إعلان لتحرير الإنسان من كل رمز يستعبده مهما كان نوعه.

المصدر

صفحة الأستاذ ياسين إعمران، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

الإسلام وتحرير الإنسان

تكاليف الخضوع للطواغيت في ضوء قصة شعيب

التعليقات غير متاحة