فتوى في تحريم تسليم المطلوبين لدول الظلم والبغي والعدوان وبيان أنه من الجرائم العظيمة في الشرع
تسليم المطلوبين للدول الظالمة: جريمة شرعية وكبيرة من كبائر الإثم
الحمد لله الجبار المنتقم من الظالمين الآمر بموالاة أهل الإيمان ونصرتهم وحمايتهم
الناهي عن موالاة الظلمة والركون إليهم في صرائح كتابه الكريم والصلاة والسلام على النبي الكريم وآله وصحابته أجمعين خير من رعى الذمم وأجار المظلوم وأخمد الظلم وهدم صرحه وبنيانه وحذر من فعله وقربانه.
أما بعد:
فإن المسلم معصوم الدم والعرض وإذا فر إلى بلدة مسلمة وجب على الدولة نصرته وحمايته أو إبلاغه مأمنه على الأقل عند العجز، لا نعلم في هذه المسألة خلافا بين أهل العلم الذي يقضون بالحق وبه يعدلون.
أما تسليمه لمن يطلبه من أهل البغي والظلم والجور والفساد في الأرض فإن ذلك من الموبقات الكبرى والمهلكات العظمى والكبائر الجسام والمفاسد العظام.
وكيف لمسلم أن يسلم مسلما إلى باغ ومفسد في الأرض وظالم ينتهك عرضه ودمه وماله، فهذا من التعاون على البغي والعدوان والفساد في الأرض وهو محرم قطعي بلا شك ولا خلاف فيه بين أهل العلم .
الأدلة القطعية على تحريم التسليم: من نصوص الشريعة إلى إجماع الأمة
والأدلة عليه من الكتاب والسنة بالغة حد القطع تهتز لها القلوب وترتجف لهولها البوادر وتقشعر منها الأبدان أذكر منها سبعة عشر وجها ودليلا وحجة من البينات الواضحات:
عصمة الدم والعرض: أصل من أصول الشريعة
1_ أن من كليات الشريعة المعصومة تحريم دم المسلم وعرضه وماله وهذا من المعلوم بالدين بالضرورة، قال عليه الصلاة والسلام «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله.» أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وفي البخاري ومسلم: واللفظ للبخاري (1739). « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه، فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ـ قال ابن عباس، رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته ـ فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض».
وهذا الحديث في خطبة الوداع وهو أصل من أصول الإسلام الكبرى الحاكمة العاصمة، فمن سلم مسلما آمنا إلى ظالم فهو معرض لسخط الله ولعنته معاند مخالف لهذه القواطع الكبرى في تحريم أعراض ودماء المسلمين وأموالهم، وما تسليمه لظالم إلا هدر لدمه وعرضه وماله وهو عين الموبقة التي غلظها الشرع وحرمها على جهة القطع.
حماية المستجير واجب: حتى مع اختلاف الدين
2_ لقد فرض الإسلام حماية المستجير من أهل الكفر وفرض إبلاغه مأمنه لا تسليمه، قال تعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6).
ففي هذا النص فرضين الأول إجارته وأسماعه القرآن والثاني إبلاغه مأمنه فهذا في المشرك فكيف بالمسلم المؤمن بالله واليوم الآخر وهذه النص محكم من آخر ما نزل فلا ناسخ له ولا رافع.
جاء في «تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير» (10/ 119):
«و (المأمن) مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمنه السابق، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء.»
قلت: في «المقدمة في فقه العصر» (1/ 291):
«وإبلاغه مأمنه هو توفير الأمان له، إما داخل الدولة، أو إلى محل يطلب من الدولة أن يذهب إليه، لعموم اللفظ.» «المقدمة في فقه العصر» (1/ 291):
«ويرحلون بطرق آمنة حتى يبلغوا مأمنهم (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)؛ لأنهم أهل أمان.»
وفي «المقدمة في فقه العصر» (2/ 703):
«وحق اللجوء السياسي: مكفول لكل إنسان في الأصل، يقول تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 6).
فهذا نص على وجوب منح الاستجارة لمن طلبها ولو مشركا، ويدخل فيه حق اللجوء السياسي.
وغايتها (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: 6)، وهذا غاية الأمان والرعاية للاجئ والمستجير.
ولا يسلم لبلده إن كان مستجيرا منها، بل لمأمنه أينما كان.
ويعرف مأمنه بإخباره عن نفسه؛ لأن المكان الآمن للشخص يرجع فيه إلى معرفته الشخصية عادة.
وقد يكون مأمنه في الدولة عموما، أو في مكان ما فيها، أو مكان وبلد من العالم؛ فيوفر ذلك للمستجير ولو كافرا.»
لا يُسلم المسلم: تحريم التفريط في حماية الأخوة الإيمانية
3_ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يظلمه ولا يسلمه «فعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة، من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة».
وهو في «البخاري» 3/ 128 (2442) و 9/ 22 (6951) و «مسلم» 8/ 18 (6670)
فعلم من ذلك أن من سلم مسلما إلى ظالم ينتهك عرضه ودمه أنه عاص لله ورسوله مخالف لأمرهما معاون للظلمة مهلك نفسه وموبقها.
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: «فتح الباري» لابن حجر (5/ 97 ط السلفية):
«قوله: (لا يظلمه) هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام، وقوله: ولا يسلمه أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه».
قال ابن الأثير: في «جامع الأصول» (6/ 561):
«(ولا يسلمه) أسلم فلان فلانا: إذا لم يحمه من عدوه وألقاه إلى التهلكة.»
قال ابن حزم مبينا صور ذلك: «المحلى بالآثار» (4/ 282):
«قال أبو محمد: من تركه يجوع ويعرى – وهو قادر على إطعامه وكسوته – فقد أسلمه.»
قلت: ومن سلمه للظالمين فقد أسلمه لا للجوع والعري فحسب بل للقتل والتهلكة والجوع والعري وانتهاك العرض فإثمه عليه في رقبته إلى يوم القيامة.
نقض الموالاة: تسليم المسلم للظالمين خيانة للعهد الإيماني
4_ أمر الله تعالى بموالاة المؤمنين في نصوص كثيرة جدا بالغة حد القطع العلمي والعملي ثبوتا ودلالة، وتسليم المسلم لأهل البغي والعدوان في الأرض قطيعة وظلم وبغي وفساد ونقض لفريضة الموالاة لأهل الإيمان، فلا يفعل ذلك إلا من خربت ذمته وركن لأهل الظلم وانخلع وتحلل عن وثائق شعب الإيمان الكبرى.
الغدر من الكبائر: وخيم العواقب في الدنيا والآخرة
5_ من قواطع الشريعة الكبرى الوفاء وتحريم الغدر فإنه من الكبائر العظيمة الموبقة، وهو في هذه النازلة من أكبر الكبائر لأن الكبيرة تعظم بعظيم ما تعلق بها، وقد تعلق بها هنا هدر دم المسلم وعرضه ونفسه وكرامته.
والغدر من صفات أهل النفاق والعياذ بالله فمن غدر بمسلم فهو على صفة المنافقين وهذا يدل أنها كبيرة من الكبائر.
واجتناب الكبائر فرض على كل مسلم وقتل النفس منها وإسلام المسلم لمن يقتله كبيرة بلا شك وانظر إلى قوله تعالى في سورة النساء: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)»
فقتل النفس حرمه الله ثم حذر من الكبائر وأنذر وحذر فعلى كل مسلم أن يلوذ بالفرار بنفسه عن حياض الكبائر خاصة المتعلقة بالأنفس والاعرض والدماء والأموال، والحاكم أشد مسؤلية من المسلم العادي لأن بيده الأمر والنهي فيالها من كارثة على نفسه يوم يقوم الاشهاد إن تسبب في قتل مسلم بتسليمه لظالم يقتله أو ينتهك عرضه.
ترويع المؤمن محرم: وعقوبته معجلة في الدنيا
6_ نص العلماء أن ترويع المؤمن من الكبائر.
قال المناوي في فيض القدير: ترويع المسلم حرام شديد التحريم. اهـ.
وقرر ابن حجر الهيتمي وغيره أن الترويع من الكبائر، وجاء في «شرح النووي على مسلم» (16/ 170): وهو يشرح قوله صلى الله عليه وسلم في «صحيح مسلم» (4/ 2020 ت عبد الباقي): «عن أبي هريرة : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم “من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه. حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه”.»
«فيه تأكيد حرمة المسلم والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه وقوله صلى الله عليه وسلم وإن كان أخاه لأبيه وأمه مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد سواء من يتهم فيه ومن لا يتهم وسواء كان هذا هزلا ولعبا أم لا لأن ترويع المسلم حرام بكل حال» انتهى.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلما. رواه أبو داود وأحمد وهو صحيح ثابت.
فهذا الترويع في هذه القصة كان في هذا الشيء اليسير فكيف بمن أخاف مسلما أعظم خوف وساقه مكبلا إلى من لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، فهذا والله أعظم الترويع والإخافة ومن أخاف المسلم عجل الله له العقوبة في الدينا والآخرة لأن ذلك من الظلم والبغي، والله يقول: « استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43)»
واستضعاف لاجئ لجأ لدولة مسلم والقبض عليه وإرساله لظالم هو من الاستكبار في الأرض ومكر السيء ولا يحق المكر السيئ إلا بأهله.
قال ابن عاشور مبينا أن الانتقام من الماكر سنة الله في كلام مهم قال : «تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير» (22/ 335):
فيكون ذلك من النواميس التي قدرها القدر لنظام هذا العالم لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكر بعضهم لبعض وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحدن بكيد الآخر قبل أن يقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء، ولهذا قيل في المثل: «وما ظالم إلا سيبلى بظالم» . وقال الشاعر:
لكل شيء آفة من جنسه … حتى الحديد سطا عليه المبرد، وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: والله لا يحب الفساد [البقرة: 205] .
وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، ومن كلام العرب «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» ، ومن كلام عامة أهل تونس (يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك» انتهى كلامه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ـ وأبو داود وابن ماجه وأحمد.
أقول: وتسليم المسلم لمن يظلمه ويهتك عرضه من أكبر البغي وقطعية الرحم وإسقاط حق الإسلام والولاء والبراء والأخوة.
وهو من أقبح الاخلاق والخلال التي لا يوصم بها إلا منافق لا خلاق له.
نصرة المستضعفين: مقصد شرعي بالجهاد عند القدرة
7_ فرض الله الجهاد على القادرين من أهل الإسلام نصرة للمستضعفين في الأرضن قال تعالى: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها [النساء: 75]».
فنصرة المستضعفين ولو بالجهاد عند القدرة مقصود شرعا فعلم بذلك جرأة من يسلم المستضعفين إلى الظالمين فما أعظم جرأته على الشرع وعلى الله وما أجسره وأوقحه.
التأشيرة أمان: والغدر بصاحبها خيانة عظمى
8_ إن الدخول إلى دولة مسلمة من مسلم يعتبر في حماية الدولة ومنحه التأشيرة أمان له خاصة إن كان فارا من ظالم مفسد في الأرض كما في النازلة، فالدولة المسلمة إن منحت التأشيرة ولو لكافر محارب أو مسالم فهو آمن يحرم الغدر به، فكيف بسلم يؤمن بالله واليوم الآخر فر من ظالم، وقد أجمع العلماء على أن كلمة لا بأس أمان قال ابن قدامة «المغني» (13/ 193):
«وروى أن عمر قال للهرمزان: تكلم، ولا بأس عليك. فلما تكلم، أمر عمر بقتله، فقال أنس بن مالك: ليس لك إلى ذلك سبيل، قد أمنته. فقال عمر: كلا. فقال الزبير: قد قلت له: تكلم، ولا بأس عليك. فدرأ عنه عمر القتل. رواه سعيد وغيره. وهذا كله لا نعلم فيه خلافا.»
وكذلك الإشارة بالأمان أمان يحرم الغدر به بعدها، قال ابن قدامة في «المغني» (13/ 194):
«فإن أشار المسلم إليهم بما يرونه أمانا، وقال: أردت به الأمان. فهو أمان، وإن قال: لم أرد به الأمان. فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته. فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على هذه الإشارة، لم يجز قتلهم، ولكن يردون إلى مأمنهم. وقد قال عمر، رضى الله عنه: والله لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل بأمانه، فقتله، لقتلته به.»
وعليه فالتأشيرة الممنوحة أمان معتبر مشمول بهذه النصوص الإجماعية وعمل الصحابة وقول عمر وقضائه لعموم الولاة، فيحرم إخفارها والغدر بمن حملها، وتسليمه غدر وفجور وخيانه يتحمل المسؤلية الجنائية بها من أقدم عليها.
حرمة الغدر: تتعاظم مع المسلم وتدنى مع الكافر
9_ الغدر بأهل الذمة والمعاهدين والمستأمين من الكبائر، وهذا في كافر فكيف في مسلم مظلوم مستجير بأخيه.
إخفار الذمة: يوجب لعنة الله والناس أجمعين
10_ جاء في الحديث في البخاري برقم 1870 ومسلم في الحجّ (1370) قوله صلى الله عليه وسلم:
(وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل).
قلت: ولا شك بمثقال ذرة أن تسليمه المسلم أعظم إخفار له فمن فعله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
التسليم قتل: موجب للقصاص والوعيد الشديد
11_ قال جمهور العلماء من عموم المذاهب الإسلامية أن القتل العمد العدوان له صور: فمنها التسبب ومن صور العمد الموجب للقصاص قال ابن قدامة : «المغني» لابن قدامة (11/ 450): «النوع الرابع، أن يلقيه في مهلكة،»
ثم ذكر صورا كثيرا منها إلقائه لسبع مفترس مع أنه حيوان فهذا قتل عمد عدوان موجب للقصاص فكيف بتسليمه مكبلا مقيدا لقاتل ظالم. فهذا والله قتل عمد يوجب القصاص على فاعله.
فهذه الصورة وهي تسليم المسلم الفار من ظالم إلى قاتل يعتبر من التسبب في القتل الموجب للضمان قصاصا.
ويأتي يوم القيامة ودمه وعرضه وماله في رقبة من سلمه وأسلمه لذلك الباغي في الأرض.
وفي مسألة من أمسك شخصا لآخر فقتله «المغني» لابن قدامة (11/ 596):
«ولا خلاف في أن القاتل يقتل؛ لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق، وأما الممسك، فإن لم يعلم أن القاتل يقتله، فلا شىء عليه؛ لأنه متسبب، والقاتل مباشر، فيسقط حكم المتسبب به. وإن أمسكه له ليقتله، مثل أن ضبطه له حتى ذبحه . فاختلفت الرواية فيه عن أحمد؛ فروى عنه أنه يحبس حتى يموت. وهذا قول عطاء، وربيعة. وروى ذلك عن علي. وروى عن أحمد، أنه يقتل أيضا. وهو قول مالك. قال سليمان بن موسى: الاجتماع فينا أن يقتلا ؛ لأنه لو لم يمسكه، ما قدر على قتله، وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما، فيكونان شريكين فيه، فيجب عليهما القصاص، كما لو جرحاه. وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: يعاقب، ويأثم،»
وهكذا في مسألة من عرقل شخا فارا من القاتل فهو آثم مرتكب لكبيرة بلا خلاف ويقتل عند جماعة من العلماء ذكره ابن قدامة في نفس الموضع.
ومن قبض عليه وسلمه أولى بهذه الأحكام.
تحريم التعاون على الإثم: والتسليم للظالم من أظهر صوره
12_ يحرم التعاون على الإثم والعدوان بالنص البين قال تعالى: «(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2).»
وهذه النازلة مشمولة بهذا النص فتسليمه من التعاون على الإثم والعدوان بلا شك ولا ريب عند كافة العلماء، فإن لم يكن هذا من الإثم والعدوان فما هو إذا في الشرع، بل هذا من أكبر الإثم والعدوان.
الركون إلى الظالمين: طريق موصل إلى النار والخذلان
13_ الركون للظالمين محرم بالنص متوعد بمن فعله بالعذاب وقد قال العلماء كل ما توعد به بالعذاب فهو من الكبائر، وعليه فمن تعاون مع الظالمين فهو ظالم فوق من ركن إليهم ومن صور هذا الركون والظلم والتعاون عليه تسليم المظلوم للظالم .
قال تعالى موجها المؤمنين: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ».
وهذا السياق يدل على الاستقامة وترك الطغيان والتحذير من الركون إلى الظالمين ومن فعل ذلك فقد زلت قدمه في النار ويخذله الله ولا ينصره وهذا سر ختم الآية بقوله تعالى: «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ»
فهذا بيان من الله أن تلك الدول والظلمة لن ينفعوا من ركن إليهم بل هم موعودون من الله بالذل وعدم النصر والخذلان نسأل الله السلامة.
إيذاء المؤمنين: بهتان وإثم مبين
14_ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].
ومن أعظم الإيذاء تسليمه لظالم معتد باغ استفاض فعله وتنكيله بأهل الإسلام في العالمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون فيمن يفعل هذا بأخيه المسلم.
ولا نشك مثقال ذرة أن من أعان ظالما انتقم الله منه فسلط الظالمين عليه.
قاعدة “لا ضرر”: تسليم المسلم يناقض أصول الشريعة
15_ من أعظم قواعد الشريعة المجمع عليه لا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال، والضرر لا يزال بالضرر.
ويعظم الضرر إن تعلق بالمضرورات الكبرى من دين وعرض ونفس ومال وكل هذه تنتهك بتسليم المسلم لأهل البغي والعدوان.
الإجماع على الإنقاذ: والتسليم خروج عن إجماع الأمة
16_ ومن الأدلة الإجماع ومن خالف إجماع أهل الإسلام فهو ضال متبع غير سبيل المؤمنين ومن الإجماعات الثابتة الصحيحة.
جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية» (5/ 196):
« اتفق الفقهاء على وجوب إعانة المضطر إلى الطعام والشراب بإعطائه ما يحفظ عليه حياته، وكذلك بإنقاذه من كل ما يعرضه للهلاك من غرق أو حرق، فإن كان قادرا على ذلك دون غيره وجبت الإعانة عليه وجوبا عينيا، وإن كان ثم غيره كان ذلك واجبا كفائيا على القادرين، فإن قام به أحدهم سقط عن الباقين، وإلا أثموا جميعا».
قلت: فهذا الإجماع في وجوب إنقاذ المسلم فتسلميه لظالم إتلاف له للهلكة فهذا خلاف إجماع السلف والخلف.
بطلان الاتفاقيات: التي تشرعن تسليم المسلم للظالم
17_ وكل اتفاقية في هذا فهي باطلة لأنها عدوان وظلم وبغي، فلا يسلم المسلم إلى كافر يطلبه أو ظالم مطلقا، وقد بينا ذلك في المقدمة في فقه العصر فقلنا: «المقدمة في فقه العصر» (1/ 296):
«حرمة تسليم المسلمين ويحرم تسليم المسلمين تحت أي مسمى.
ويحرم الدخول في اتفاقات دولية ملزمة بتسليمهم، فإن فُعِلَ فهو باطل؛ لأن المسلم أخو المسلم لا يخذله؛ ولأن التسليم انتقاص من سيادة الدولة واستضعاف لها، يدل له أن دول الهيمنة العالمية الكبرى لا تسلم رعاياها البتة؛ لعلة السيادة.
ويحاكم بالشريعة والقانون المنبثق عنها عن أي دعوى في داخل بلاد الإسلام. وتسليم حاكم مسلم، أو عالم دين أو دنيا كعالم ذرة، أو تسليم رمز، أو قائد أعظم جرما وخيانة.
وهي من طاعة الكافرين وموالاتهم، وخذل للمسلمين وإضعافهم، وكله محرم؛ ولأنه تعاون على الإثم والعدوان.
ولا يقاس على مسائل صلح الحديبية في التسليم؛ لأنه كان خاصا بوحي، بدليل أن الصحابة لما كرهوا ذلك استفصلوا من رسول الله فأخبرهم أنه وحي من الله ولن يضيعه فيبقى غيره على الأصل»…
المصدر
بقلم: أ.د. فضل بن عبد الله مراد ، أمين لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
اقرأ أيضا
المفهوم التطبيقي لكلمة التوحيد
لا أخوة بين المسلمين والكافرين .. ولا دين حق غير دين الإسلام

