إيمان بالله أَتْبَعُوه بالإرادة والعزيمة وذكر الله والجلَد والصبر والثبات والإصرار؛ دون أي هوان أو ضعف أو ملل أو شك أو تردد؛ ليتحقق على أيديهم عجيب نصر الله بإذن الله وفضله الذي سبق..
فضل الله الذي سبق
كيف يتحرك هذا الرجل أو ذاك بين رتل الدبابات وآلياته، وأمام سمع العدو وبصره وطائراته وعيونه التجسسية بقوة لا تكافئ قوة عدوهم ولا حتى تدانيه؟ ولا يملكون أياً من عتاد قواته ووسائل قتالهم؛ سوى من قوة الله ومعيته التي تدرّعوا وتحصّنوا بها، فأحاطتهم رعاية الله يحفظهم بحفظه؛ ويكلؤهم برعايته؛ ويحرسهم بعينه التي لا تنام.
لتكون عناية الله هي العنوان، والتأييد الإلهي هو السند الحقيقي لأهل الإيمان واليقين؛ ليتحقق لديهم ما تصبو إليه النفوس الطاهرة وبما تتوق إليه الأرواح إلى الشهادة أو النصر المبين.
إيمان بالله أَتْبَعُوه بالإرادة والعزيمة وذكر الله والجلَد والصبر والثبات والإصرار؛ دون أي هوان أو ضعف أو ملل أو شك أو تردد؛ ليتحقق على أيديهم عجيب نصر الله بإذن الله وفضله الذي سبق..
لمحات من سَبَق فضل الله على المؤمنين
- فضل الله الذي سبق بصلاة الله على المؤمنين؛ ﴿هُوَ ٱلَّذِی یُصَلِّی عَلَیۡكُمۡ وَمَلَـٰۤىِٕكَتُهُۥ لِیُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَحِیمࣰا﴾ [الأحزاب: ٤٣]، فالتزمتهم الطمأنينة والسكينة..
- فضل الله الذي سبق بإنزال السكينة في قلوب المؤمنين؛ ﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ لِیَزۡدَادُوۤا۟ إِیمَـٰنࣰا مَّعَ إِیمَـٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا﴾ [الفتح: ٤]؛ فالتزموا الذكر والدعاء.
- فضل الله الذي سبق بتوبته توبة عباده؛ فهداهم إلى التوبة والاستغفار ويهديهم إلى سواء السبيل، ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡ لِیَتُوبُوۤا۟﴾ [التوبة: ١١٨]، فالتزموا الاستغفار..
- فضل الله الذي سبق بمحبته محبة عباده؛ ﴿يُحبُّهمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤]، فالتزموا تلاوة كتابه..
- فضل الله الذي سبق بوعده الذي سبق؛ ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِینَ * إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧١- ١٧٣]؛ فرغبوا وعملوا للنصر بطوفان الأقصى؛ وما كان الطوفان إلا -بفضل الله تعالى الذي سبق- برجال صنعهم على عينه في بيوت الله وعلى موائد القرآن؛ ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: ٣٩]؛ ففضل الله سبق حينما تمكن رجال الله من الوصول إلى كثير من مفردات قوة عدوهم، من مُسَيِّراتٍ عديدة، ومعلومات سيبرانية غاية في الأهمية، فَكَّ الرجالُ أسرارَ رموزِها؛ وصواريخ لم تنفجر خبئت لهم عشرات السنين في أعماق البحار ليخرجوها ويعيدوا تدويرها وتفعيلها؛ وعشرات الصواريخ التي ألقيت على غزة ولم تنفجر؛ ليعيدوا استخدامها من جديد ضد العدو وآلياته وجنوده؛ وتؤتي أكلها وثمارها بفضل الله تعالى.
نجاح يتبعه نجاح
يقول أحد ضباط العدو: “ليس من المعقول الذي يحدث في غزة؟ هناك قوة خفية تقاتل ضدنا”!
ويقول آخر: “يبدو أن الرب يقاتل معهم”!
حقاً.. إن الله يقاتل معنا بقوته الخفية الموجودة في غزة وما غابت عن رجالنا لحظة؛ لأن رجال استحضروا عظمة هذه القوة بحسن ظنهم بالله وإيمانهم، ودوام ذكرهم ودعائهم؛ واستعدوا وتجهزوا بقوة الله ومعيته وعلمه وقدرته.
ثم يجب أن نتوقف أمام الله حياء، وألا يخفى عن فكرنا وسمعنا وذهننا قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ وَّٱلَّذِینَ هُم مُّحۡسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ﴾ [غافر: 51]، كما أنه لا يجوز أن يخفى علينا مثل هذا الأمر الإلهي في غزة! هذه القوة الخفية التي لا يدركها أعداؤنا؛ واستحضرها جنودنا بما أمر الله ودوام ذكره جل في علاه؛ ومعيته التي استصحبتهم واستحضروها قولاً وعملاً؛ ورأيناها في ساحة المعركة؛ عند كل رمية بدعائهم وذكرهم:
﴿وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ [الأنفال: 17].
بسم الله، الله أكبر…
اللهم مكّن لنا في الأرض..
اللهم وفق..
اللهم سدد سدد..
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
اللهم في سبيلك وابتغاء مرضاتك..
اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا..
اللهم ما خرجنا إلا في سبيلك..
اللهم انتقاماً لدينك وأوليائك..
اللهم نصرة للإسلام والمسلمين..
ونحن نسمع هذه الأدعية نستشعر عظيم فضل الله؛ وخاصة ونحن نسمع قول الله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: ١٢].
لندرك أن هذه الآية نزلت في أهل بدر، وأمثالهم من الرجال في غزة؛ ليتحقق قول الله تعالى فيهم؛ أنهم هم الثابتون الصادقون الصابرون؛ أنهم ﴿هُم المؤمنونَ حَقاً﴾ [الأنفال: ٤].
معية الله حاضرة؛ عندما وفق وعندما سدد واستجاب..
ندرك بهذا الذكر وهذا الدعاء أن معية الله حاضرة؛ عندما وفق وعندما سدد واستجاب..
كيف وفق الله رجالنا باقتحام الخطوط الدفاعية السبعة بكل سهولة ويسر؛ ثم كيف أسروا جنود العدو وكيف اقتادوهم؟ ثم واجهوا أطغى قوة في التاريخ وثبتوا؛ لنقف بكل الثناء لله والحمد والشكر له تعالى أن يتحقق فينا دعاء رسول الله ﷺ كما تحقق في أهل بدر؛ قال ﷺ: “واللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ ما اهْتَدَيْنَا، ولَا صُمْنَا ولَا صَلَّيْنَا، فأنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا، والمُشْرِكُونَ قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبيْنَا”1(1) صحيح البخاري، عن البراء بن عازب..
فقد ثبت الله أهل غزة كل هذا الثبات؛ ورزقهم عزة النفس المؤمنة؛ التي تجعلهم يرفضون بكل إباء وشموخ كل دواعي الاستسلام والهوان؛ مهما كانت التضحيات؛ أو كانت المغريات ومهما كانت الفتن..
إن هذه الآية وهذا الحديث؛ بل وكل آيات الله تعالى وأحاديث رسول الله ﷺ؛ يتحرك بها رجال الله ليحققوا موعود الله وعجيب نصره ومراده؛ وكأنه ولأول مرة في التاريخ من بعد عصر النبوة؛ وبنفس المقاييس النبوية والمعايير الإيمانية؛ يتحرك أهل الله وخاصته أهل القرآن يبتغون رضوان الله ونصره.
يتحرك رجال الله بكل القوة الإيمانية والشجاعة والإقدام التي قل نظيرها ومثيلها.
ذكر الله السلاح الذي لا يُقهر
لا يزال أهل غزة بالله يقاتلون وحدهم أشد أعداء الله عداوة للذين آمنوا، “لا يَضُرُّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتى يأتىَ أمرُ اللهِ، وهم ظاهِرُونَ على الناسِ”2(2) صحيح الجامع، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما..
متسلحين بألسنة تلهج بذكر الله؛ يتضرعون خوفاً وطمعاً بالدعاء؛ متحصنين بمنهج رسول الله ﷺ.
فما يحدث من مواجهات على أرض غزة يفوق الوصف والخيال؛ فكيف لأهل غزة يصبرون كل هذا الصبر على اللأواء، والناس يتناوشونهم من كل مكان؛ بين محاصِر وضارب وقاتِل وطاعِن وآكِل في لحومهم؛ كالإناء بين الأكلة؛ كما وصف النبي ﷺ بأدق ما يكون الوصف صورة أهل غزة الموجودين الآن؛ يُقَتَّلُون ويُشُّرَدُون ويُحَاصَرُون، ويَسْتَقْبِلُون قتلاهم وجرحاهم وهم يتضورون جوعاً؛ ورغم هذه الصورة القاتمة والمؤلمة: ظاهرين بدينهم! قاهرين لعدوهم! لا يضرهم لؤم المخالفة، ولا شدة اللأواء حتى يأتي أمر الله: نصر الله وفرجه.
يقول ﷺ: “لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحقِّ لعدوِّهم قاهرين لا يضرُّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأْواءَ؛ فهُم كالإناءِ بين الأَكَلةِ، حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم كذلك”. قالوا: يا رسولَ الله وأين هم؟ قال: “ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدسِ”3(3) رواه الطبراني، بسند صحيح..
مما يعني أن سلاح الطائفة المنصورة بإذن الله، هو ذكر الله تعالى؛ يقول ﷺ: “ألا أُخْبِرُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عندَ مَليكِكم وأرفعِها في درَجاتِكم وخيرٍ لكم مِن تعاطي الذَّهَبِ والفِضَّةِ ومِن أن تَلْقَوا عدوَّكم غدًا فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم”؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ! قال: “ذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ”4(4) مجمع الزوائد، للهيثمي، بسند حسن..
لقد تحصن أهل غزة بالرضا والصبر والثبات والدعاء؛ رغم شدة اللأواء وقسوة الابتلاءات؛ وقلة الإمكانيات وانعدام الموارد؛ والقصف الصهيوني المستمر الغادر، والمدعوم من كل قوى الظلم والطغيان في العالم؛ وسط خذلان إسلامي وعربي مخزي؛ إلا ما كان من سهم يطلقه أخ صدوق خارج الديار أو عابد زاهد قائم في جوف الليل؛ ودعوة صادقة في ظهر الغيب: أن ينصر الله أهل غزة ويثبتهم، أن يمدّهم الله بمدده وجنده؛ فتكون هذه الدعوات الخفية من أهم أسباب النصر المفاجئ والعجيب.
إن ما يحدث على أرض غزة ليس سهلاً ولا هيناً؛ فكل هذه النفوس البريئة التي قُتلت وشُردت وأُنهكت، وجُوِّعَت، لا يمكن أن تمر دون نصر مبين يعجب منه أهل السماء والأرض، ويتحقق فيه غضب الله وانتقامه من أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا ومَنْ خذل غزة وأهلها؛ وما ذلك على الله بعزيز.
الهوامش
(1) صحيح البخاري، عن البراء بن عازب.
(2) صحيح الجامع، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
(3) رواه الطبراني، بسند صحيح.
(4) مجمع الزوائد، للهيثمي، بسند حسن.
المصدر
الشيخ حسن الخطيب، عضو رابطة علماء فلسطين.