ماذا ستفعل، لو كنت فلسطيني وقد فشلت محاولات السلام، فشلت المفاوضات، انسحبت الدول العربية الداعمة من المعركة، يقترب هدم المسجد الأقصى، تعيش في حصار لا نهاية له!!

السابع من أكتوبر: لماذا لم يكن مفاجئًا؟

يندهش العرب والمسلمون دهشة شديدة من هذه الدهشة الشديدة التي يبديها الغربيون –الأوروبيون والأمريكان- إزاء حدث السابع من أكتوبر. كأن هذا الحادث شيء لا يمكن تفسيره، بينما يبدو مثل هذا الحادث شيئاً متوقعاً لأي إنسان يقرأ التاريخ أو يقرأ الواقع؟!

ربما تكون الدهشة حقيقية إزاء الجرأة التي أبداها المقاتلون في قطاع غزة، وإزاء قدرتهم على تنفيذ هجوم بهذا الاتساع في ظل فارق هائل بين قدراتهم التقنية وبين القدرات الإسرائيلية، لكن هذا جزء فني تفصيلي لا يتعلق بتفسير الحدث وفلسفته، بل يتعلق بإجراءاته وأدواته، بمعنى أنه إذا أخفق المقاتلون من غزة في هجومهم هذا تماماً، فلن يكون المدهش هنا هو: لماذا فعلوا هذا وأقدموا على هذا الهجوم الانتحاري؟

السابع من أكتوبر: النتيجة الحتمية لمنطق التاريخ والاحتلال

إن العالم كله -بخلاف الغربيين بالطبع- يفهم تماماً لماذا قام المقاتلون في غزة بهجوم السابع من أكتوبر، بل الواقع أن هذا الهجوم كان متوقعاً تماماً، بل لم يكن يمكن توقع شيء آخر، فهذا هو منطق التاريخ، ومنطق الطبيعة البشرية، ومنطق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ومنطق الصراع حين لا يمكن حله بالوسائل السلمية، ومنطق كل إنسان متدين حين يرى مقدساته الدينية واقعة تحت التهديد. إن كل شيء كان يقول: سيقع مثل هذا الحادث، إن لم يكن في السابع من أكتوبر 2023م، فربما في الثامن من نوفمبر 2024م، أو في التاسع من ديسمبر 2025م، أو في أي تاريخ آخر.

“التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر”

هذه هي الجملة الأشهر المتداولة في الإعلام الغربي على لسان المتحدثين المتفهمين لهذا الحادث، تبدو جملة بديهية وطبيعية ومفهومة، لكن تكرارها وشهرتها وتداولها يدل في الحقيقة على أذن غربية صماء وعلى عقل غربي مصمت لا يريد أن يسمع ولا أن يفهم. نعم، التاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر، فلماذا يحاول الغربيون تجاهل التاريخ؟!

إسرائيل كيان لم يكن موجوداً قبل 1948م، مؤسسو إسرائيل أنفسهم كانوا يحملون جوازات سفر كُتب عليهم أنهم من “فلسطين”، العملات النقدية التي لا تزال موجودة ويمكن ببساطة البحث عن صورها على الإنترنت مكتوب عليها “فلسطين”، طابور من الأدلة لا يمكن دحضه، أي كتاب قد صدر قبل 1948، أو أي أطلس للخرائط لا يكتب فيه شيء عن “دولة إسرائيل”، بما في ذلك الخرائط الغربية نفسها!

فما الذي حدث إذن؟!

الذي حدث بكل وضوح أن الاحتلال الغربي، البريطاني تحديداً، سيطر على هذه المنطقة وقرر أن يمنحها لليهود، في تجاهل تام لكون هذه الأرض يحيا عليها شعب آخر عريق لم ينقطع وجوده منذ بدأ التاريخ المعروف. وإذن، كيف برر الغربيون ذلك؟ ببساطة شديدة اعتبرهم (تشرشل) مجرد حيوانات، وقال مقولته الشهيرة: “إن الحظيرة لن تكون أبداً مِلكاً للثور لأنه نام فيها طويلاً”!

تفاصيل كثيرة يعرفها المؤرخون والباحثون، بمن في ذلك المؤرخون الإسرائيليون، خلاصتها: جرى تهجير وإبادة عدد من القرى والمدن الفلسطينية، والإتيان بأمواج وأفواج من المهاجرين اليهود من كل بلاد العالم، وقبل نهاية المشهد كان لا بد من غطاء قانوني لهذه العملية الإبادية الإحلالية، فخرج قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة، ليكون أول قرار فريد من نوعه يتحكم في مصير شعب، وينشئ دولة غريبة على أرضه، دون الرجوع إليه ولا استفتائه ولا معرفة رأيه!

وهكذا جاء شعب آخر، غُرِس في هذه الأرض بقوة السلاح، بعد سلسلة من المذابح المشهورة، ثم بعد حرب هزلية خاضتها قوات عربية محدودة كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني نفسه، بقيادات عسكرية بريطانية، لتثبيت قرار إنشاء الدولة اليهودية.

لماذا يتجاهل الغرب حقيقة أن إسرائيل كانت دائمًا طرف الهجوم والاستيلاء؟

حتى الآن، وربما هذه معلومة لا يعرفها الغربيون، لا تعترف إسرائيل بحدودها، بل -ويا للطرافة- ترسم على علمها وتكتب في وثائقها ويتكلم الكثير من المسؤولين فيها بأن حدودها تمتد من النيل إلى الفرات! أي أن حدود 1948م، لم تكن إلا قطعة الأرض الأولى التي ستتوسع منها الدولة.

لا يعرف الغربيون أيضاً -فيما عدا الباحثين والمؤرخين- أن إسرائيل لم تُهاجَم أبداً من قِبل أي دولة عربية، إن طبيعة الأنظمة العربية من جهة، وطبيعة الدعم الغربي المتدفق دائماً من جهة أخرى، كان يجعل إسرائيل دائماً في موقع الهجوم والاستيلاء على الأرض. ويمكن لأي قارئ لا يصدق أن يرجع إلى أرشيف الأمم المتحدة، ويمسك بأي تقرير لتقصي الحقائق عن الخروقات لخطوط الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، وسيرى ذلك بنفسه!

التوسع الإسرائيلي: من 1948 إلى 1982.. مراحل احتلال الأرض

بعد نحو عشرين عاماً من التأسيس جاء التوسع الثاني؛ في 1967م احتلت إسرائيل سائر فلسطين التي لم يكن بقي منها حينئذ إلا قطاع غزة (تحت الإدارة المصرية) والضفة الغربية (تحت السيادة الأردنية)، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية. وجاء توسع ثالث في 1982 لتحتل إسرائيل الجنوب اللبناني، ولا تزال بعض المناطق اللبنانية خاضعة للاحتلال.

استطاع المصريون شنّ هجوم مفاجئ في 6 أكتوبر 1973م، ثم مدوا أيديهم بالسلام، ووقعوا اتفاقية السلام (1979م)، ولم يحصلوا على كامل أرضهم إلا بعد عشر سنوات في (1989م) بعد مفاوضات مضنية وتحكيم دولي، وتنازلوا عن بعض أرضهم مثل قرية أم الرشراش، وعن سيادتهم على أراضٍ أخرى متاخمة لإسرائيل (في نسختها التوسعية الثانية). كذلك تنازل الأردنيون عن الضفة الغربية (1988م)، ووقعوا اتفاقية سلام أخرى (1994م)، وما زال السوريون لم يسترجعوا أرضهم حتى هذه اللحظة!

الاحتلال الذي يسرق الأرض ويُهين المقدسات.. بموافقة غربية!

إذا وضع القارئ نفسه مكان الفلسطيني الذي جرى احتلال أرضه، ويجب ملاحظة أن الأرض الفلسطينية تحتوي على مقدسات إسلامية ومسيحية تهم الجميع، ولئن كان المسيحيون الغربيون قد تخلوا عن مقدساتهم فيما يبدو، فهذا الأمر لم يفعله المسلمون حتى الآن. في الواقع لدى الغربيين نفاق فظيع فيما يخص إسرائيل تجعلنا في العالم العربي نرى إسرائيل كنسخة أخرى من الممالك الصليبية في القرون الوسطى، بل أسوأ، لأن إسرائيل تعتدي بالفعل على المقدسات المسيحية دون أن يهتم الغربيون لهذا كثيراً.

الاحتلال الإحلالي مصيره الفشل.. وشعب فلسطين يثبت ذلك

ليس هذا موضوعنا الآن، ولكن: الفلسطيني الذي يريد تحرير أرضه، كما هي طبيعة كل إنسان يقع تحت الاحتلال، لا بد له أن يقاوم، حتى لو كانت مقاومته هذه تبدو عبثية وغير ذات فائدة، هذا هو الأمر الذي فعلته كل الشعوب عبر التاريخ. ليس شيئاً عجيباً ولا غير متوقع! يعرف مَن قرأ التاريخ أن الاحتلال الإحلالي الإبادي الذي يريد سحق شعب وإسكان آخر مكانه، إما أن ينجح في الإبادة (كما فعل الأوروبيون في الأمريكتين وأستراليا) أو سيبقى يواجه موجات متجددة من المقاومة، مثلما أخفق نفس هؤلاء الأوروبيون في سائر المناطق الأخرى عبر العالم واضطروا إلى تصفية الاستعمار والبحث عن بدائل أخرى توفر لهم الهيمنة دون الوجود العسكري والحكم المباشر. كما هو الحال الآن!

من انتفاضة الحجارة إلى أوسلو: من مقاومة الاحتلال إلى حمايته!

في أواخر الثمانينات من القرن الماضي انطلقت انتفاضة شعبية، تبدو عبثية تماماً، ماذا يفعل شعب ليس عنده إلا الحجارة أمام دولة إسرائيل المدججة بالسلاح، يمكن للقارئ أن يبحث قليلاً في الإنترنت ليرى كيف كان الجنود يُمسكون الفلسطيني فيكسرون ذراعه لئلا يلقي بالحجارة مرة أخرى! سيرى خلال بحثه كيف أن المرأة العجوز تحمل طفلاً صغيراً بيدها اليسرى وتلقي الحجارة بيدها اليمنى! يبدو المشهد عبثياً حقاً، حتى إن كثيراً من جنود الاحتلال الإسرائيلي كان يطلق النار ثم يضحك عائداً لرفاقه!

غير أن هذه الانتفاضة، لأنها تنسجم مع الدين والتاريخ والطبيعة البشرية، كانت واسعة وشاملة ومفاجئة، سرعان ما تطورت إلى عمليات -تبدو عبثية أيضاً- للرمي بالمقلاع والطعن بالسكين ووضع الحجارة في طريق مدرعات الاحتلال. ساعتها فكّر الإسرائيليون والغربيون في امتصاص هذه الانتفاضة عبر تكوين سلطة فلسطينية، تتولى هي تأمين المناطق الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، التأمين هنا بمعنى حماية الاحتلال، وتتولى إدارة الشؤون اليومية لهؤلاء، هذا هو الذي يُعرف باتفاق أوسلو. فُرض على الفلسطينيين تأمين إسرائيل مقابل مفاوضات مفتوحة لم تنجح أبداً!

السلطة الفلسطينية: الوجه الآخر للاحتلال الذي لا يُقال

سار ياسر عرفات في هذا المسار عشر سنين، ولم يحقق شيئاً، بل الأغرب، أن الحكومة الإسرائيلية التي تأتي بها الانتخابات كانت تملك أن توقف مسار المفاوضات أو تلغيه، وبالفعل: قدم عرفات كل ما يمكن تقديمه لإيهود باراك في كامب ديفيد الثانية (2000م)، ولكن باراك لم يُرضه هذا. وفشلت المفاوضات. ومنذ ذلك الوقت كانت الحكومات الإسرائيلية ضد فكرة الدولة الفلسطينية أساساً!

قُتِل عرفات بالسُّمّ في (2004م)، ولم يستفد عرفات أي مكسب من القمع الذي سلطه على الفلسطينيين لتأمين إسرائيل، وجيء بعده بمحمود عباس الذي يبدو أكثر “مرونة” واستعداداً للتنازل عن أي شيء، لكن محمود عباس لم يجد أبداً أي شريك للتفاوض، مع أنه منذ عشرين سنة يعمل بكفاءة تامة في قمع الفلسطينيين ومطاردة مَن يريد مقاومة إسرائيل، وتعمل أجهزة الأمن الفلسطينية بكفاءة نادرة في التعاون مع الأجهزة الإسرائيلية، وكثيراً ما جرى تسليم فلسطينيين لإسرائيل، أو قتلهم تحت التعذيب في سجون السلطة الفلسطينية!

كيف تحول فوز انتخابي إلى حصار مميت: قصة غزة تحت حكم حماس

لكن عباساً كان يريد أن يحوز نوعاً من الشرعية، فأجريت انتخابات فلسطينية –برضا إسرائيلي- (2006م) غير أنها جاءت بمفاجأة صاعقة: لقد فازت حركة حماس في الانتخابات. وساعتها حدث مشهد جديد لم يكن يتوقعه أي مراقب في العالم: الغرب الذي يعتنق دين الديمقراطية رفض الاعتراف بالانتخابات النزيهة، وقرر مقاطعة الحكومة المنتخبة وفرض حصاراً على فلسطين.

حاول المهزومون في الانتخابات اغتيال الفائزين بها، نفذت السلطة حركة انفلات أمني واسعة، ولكن حركة حماس -القوية في غزة- استطاعت صد الأجهزة الأمنية في غزة عن محاولاتها، فقرر محمود عباس الانقلاب على الانتخابات فحلَّ الحكومة المنتخبة وانفرد بحكم الضفة الغربية.

ومنذ ذلك الوقت (2007م) وحتى (2023م) عاشت غزة تحت حكم حماس حصاراً هائلاً أدى لكثير من الوفيات فضلاً عن الحياة التي لا تطاق، لقد كانت أكبر سجن في العالم.

وفوق ذلك، حكومة نتنياهو التي يعاد انتخابها دائماً، تخطط لكثير من الإجراءات التي تهود المسجد الأقصى وتقرر اقتراب البدء بهدمه، وتسمح للمستوطنين والجماعات الدينية المتطرفة بتنفيذ طقوس شعائرية تشي بقرب تحطيمه!

إن كنت أنت مكان الفلسطيني، بالذات لو كنت في غزة، أخبرني إذن.. ماذا كنت ستفعل؟!

ماذا ستفعل، وقد فشلت محاولات السلام، فشلت المفاوضات، انسحبت الدول العربية الداعمة من المعركة، يقترب هدم المسجد الأقصى، تعيش في حصار لا نهاية له!!

إن كان لديك جواب غير السابع من أكتوبر.. تفضل أخبرنا به!

المصدر

محمد إلهامي، مجلة أنصار النبي ﷺ.

اقرأ أيضا

المقاومة الفلسطينية ونزع السلاح بين النداء الإلهي ومكر الأعداء

طوفان الأقصى جدال وشبهات وردود

لماذا يا حماس؟!

حصار غزة بين عقوق مصر وعائق إسـرائيل  ..(١)

التعليقات غير متاحة