حاكمية الشريعة

إنّ إحدى أضخم النوازل التي حلّت بالمسلمين في هذا العصر نازلة تعطيل العمل بالشرائع في المجال العام، أي المجال الجماعي الذي تنظّمه السلطة بالتعاون مع أهل الفقه والإفتاء والقضاء، وهي نازلة خطيرة لم تحدث بهذا الحجم في بلاد المسلمين يومًا.

حاكمية الشريعة: الاختبار الحقيقي للتوحيد في العصر الحديث

أحد الأمور التي أبحث عنها في كل كتاب معاصر يتحدّث عن التوحيد هو مدى تطرّقه إلى قضية “حاكمية الشريعة”، أو “قبول الشريعة” ضمن التوحيد، وخصوصا حاكميّتها في المجال العام.

وسبب ذلك أنّ إحدى أضخم النوازل التي حلّت بالمسلمين في هذا العصر نازلة تعطيل العمل بالشرائع في المجال العام، أي المجال الجماعي الذي تنظّمه السلطة بالتعاون مع أهل الفقه والإفتاء والقضاء، وهي نازلة خطيرةلم تحدث بهذا الحجم في بلاد المسلمين يومًا.

من مظاهر تعطيل الشريعة الواضحة

نحن اليوم نتعاطى الربا ضمن القانون، وقد كان التحذير منه في كتاب الله كبيرا جدا، نحن نسنّ قوانيننا بواسطة أشخاص لا معرفة لهم بالشرع، ونتنكر لأصول الفقه التي زاولها العلماء لمعرفة حكم الشرع في كل أمر مستجد من أمور الحياة، لقد قُنّن كثير من المحرّمات القرآنية في المجال العام كالخمر والميسر وغيرها، حتى الزكاة باتت أمرًا اختياريّا لا علاقة للسلطة به، ناهيك عن القصاص والجنايات التي عطّلت فيها معظم أحكام القرآن الواضحة كالجلد وقطع اليد والقتل وتقطيع الأطراف من خلاف وغيرها، فضلا عن أحكام الدماء والسلم والحرب التي فصّلت فيها الشريعة، ومهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يعد لها أي اعتبار في معظم بلداننا العربية والإسلامية..

الخضوع والطاعة: المعنى المفقود للتوحيد في زمن العلمانية المقبولة

فهذا كله وغيره من مظاهر تعطيل الشريعة الواضحة، وهو أحد أبرز تجلّيات الانحراف عن كلمة لا إلا إلا الله، أو إفراد الله بالعبادة، لأنّ معناها الأول هو الطاعة مع الخضوع بغاية الحبّ والذلّ، فإذا عُطّل كل ذلك وغيره دون أي تمعّر أو انزعاج لدى مجتمعات كاملة تنتسب إلى الإسلام وتقبل بهذه العلمانية، فنحن نتحدث عن كارثة إيمانية تتعلق بالانحراف عن فهم كلمة التوحيد والعمل بمقتضاها!

فقه النوازل العقدية: كيف واجه العلماء انحرافات التوحيد عبر العصور؟

ولقد كانت عادة أهل العلم في القديم مواجهة النوازل التي تخدش جناب التوحيد أو تهدمه بما يناسبها من خطاب، فلذلك أكثر العلماء من الحديث عن قضية “صفات الله” في القرون المتقدّمة والمتأخرة، لكثرة الخلاف حولها، ومن هذا الباب “الصفات” للدارقطني و”الأسماء والصفات” للبيهقي و”التوحيد” لابن خزيمة وغيرها من الكتب، بصرف النظر عن القول فيها ومن أصاب ومن أخطأ.

ووجدنا من العلماء لاحقًا من أكثر الحديث حول توحيد العبادة وإخلاص العمل وقضايا الشعائر التعبّدية والدعاء والسجود والتعظيم ونبذ الممارسات الشركية في الشعائر لكثرة ما انتشر من مظاهر الشرك في هذا الباب، ومن هذا الباب كتاب “التوحيد” لعبد الغني المقدسي الحنبلي، وكثير مما كتبه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب الحنبلي، و”تجريد التوحيد المفيد” للمقريزي الشافعي، و”كتاب التوحيد” لمحمد بن عبد الوهاب الحنبلي، ورسالة “تقوية الإيمان” لإسماعيل الشهيد الدهلوي الحنفي وغيرها.

أزمة الخطاب التوحيدي المعاصر: هروب من نازلة “تعطيل الشريعة

لكنّ الذي حدث في عصرنا أن كثيرًا من العلماء لم يمتلكوا الروح ذاتها التي كانت لدى المتقدّمين، بعضهم واكب في جانب محاججة المذاهب الفكرية المعاصرة، ولكن معظم من كتب في التوحيد تجده يركّز على المجال الاعتقادي (توحيد الذات والصفات والأفعال) بطريقة السابقين، أو على الجانب التعبّدي مع الاقتصار على التعبّدات الفردية والدعاء والتوكل والاستعانة والتوسّل والسجود وغيرها من قضايا الشعائر التعبّدية، ويندر أن تقرأ كتابا يتناول تعطيل الشرائع وإقرار القوانين الوضعية وموالاة المشركين على المسلمين ضمن كتب التوحيد (كما تناول السابقون نوازل التعطيل والتشبيه والشركيات التعبّدية).

رواد صحوة التوحيد: من تنبّه مبكرًا لنازلة “تعطيل الشريعة”

وهنا أجد من اللازم الإشادة بعلماء تنبّهوا مبكّرا لهذا، ومنهم الشيخ أبو هبة الله إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الإسعردي الأزهري رحمه الله (ت 1931م) الذي كتب رسالته “تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن”.

ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (ت 1969 م) الذي كتب رسالته “تحكيم القوانين”.

ومنهم الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتبه وخصوصا “معالم في الطريق” الذي أحيا قضية “الحاكمية” التي عُرف بها ونالته بسببها أسهم الطاعنين متّهمين إيّاه بالابتداع في التوحيد، مع أنّه ذكر أصل التوحيد البديهي المعروف في الكتاب والسنة وعلى ألسنة الأئمة والمفسّرين وسائر العلماء، أي العبادة باعتبارها الانقياد لشريعة الله مع غاية الحب والذل.

عبد المجيد الشاذلي: تجديد الخطاب التوحيدي بمنهج أصولي رصين

ومنهم الشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله، الذي أكمل مسيرة أستاذه سيد قطب بمنهج تجديدي فريد يعتمد على تناول قضايا التوحيد من خلال منهج أصول الفقه (لا أصول علم الكلام)، فأبرز أركان توحيد العبادة (الحكم والولاء والنسك كما يسمّيها)، ليبيّن أنّ الحديث عن توحيد العبادة بذكر قضايا التعبّد والدعاء والتوسّل والسجود وأعمال القلوب وما شاكلها لا يكفي من غير التطرّق إلى أصل العبادة وهو “قبول شرع الله ورفض ما سواه” ومن غير التطرّق إلى قضية الولاء والبراء ومظاهرة المشركين، مستشهدا في جميع ذلك بالعلماء من المتقدّمين والمتأخّرين، فغير خاف أن ما ذكره هؤلاء المعاصرون قد ذكره العلماء قديمًا بنسب متفاوتة، لكنه كان مفرّقا في كتبهم لعدم وجود النازلة فيه كما يحدث في عصرنا.

الاستجابة الشرعية لتحديات العصر ليست بدعةً بل فريضةً

والسؤال: لماذا فعل أولئك العلماء والأساتذة وغيرهم ذلك؟ هل جاؤوا بقضايا جديدة في التوحيدلم يعرفها السابقون كما يظنّ بعض المتمسّكين بالتقاليد بطريقة خاطئة؟

كلا، بل السبب هو أنّهم واكبوا نوازل عصرهم، واستجابوا لها بقلوب حيّة تفهم دين الله وتعلم أنّ تعبيد النّاس لربّهم الحقّ يكون – من ضمن ما يكون – بالإنكار والتغيير لما حدث مما يطعن في جناب توحيد الله عزّ وجلّ.

فالحديث عن الصفات والأفعال والشعائر والدعاء مهم، لكنّ الاقتصار عليه في عصر بُدّلت فيه الشرائع وعلت مكانها في ديار المسلمين القوانين الوضعية ورضي عنها كثير ممّن ينتسبون إلى الإسلام وقالوا: لا إشكال فيها؛ كارثيّ.. وكذلك الأمر مع إغفال ما حدث من استحلال موالاة الكافرين والدخول في أحلافهم لقتال المسلمين وغزو ديار الإسلام وتفتيتها في ظلّ “الشرعية الدولية” وما يندرج ضمنها من منظّمات وتحالفات..

التوحيد: محور الحياة وسياجها

فلا يمكن السكوت عن هذه النوازل وعدم ملاحظة تحريفها للتوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد، فالتوحيد ليس عقيدة سكونية منقطعة عن الواقع، بل هو مضمون حيّ لضبط حياة الإنسان، بل هو “محور” حياتها كما قال الشيخ عمر الأشقر رحمه الله في رسالة له، وينبغي للمسلم أن يرى كل شيء من خلال هذا التوحيد كما أشار السادة الصوفية من أهل السنّة قديمًا، فيغار على جنابه وعلى حقّ الله الخالص من أي طعن أو تحريف أو تشويه أو تعطيل، لا في قضايا الصفات الاعتقادية فحسب (وكثيرٌ منها تكلّف وافتعال ولا جدوى من الخوض فيه)، بل في قضايا الممارسات العبادية أيضًا، ومن ضمنها ممارسات تعطيل الشرائع وتبديلها، والدخول في ولاية الكافرين، والتحاكم إلى غير ما أنزل الله، وغيرها من الطوام التي حدثت في هذا العصر.

ولعلّي أنشط قريبًا بإذن الله لشرح كتاب من كتب أهل الزهد والتصوّف في التوحيد، لِما فيها من طلاقةٍ وإبلاغ حقيقة التوحيد بكامل شحنتها، وهي الشحنة التي يحتاجها الناس لينظروا إلى العالم من منظار التوحيد، عوضًا عن أن يكون مجرّد معاظلات ذهنية باردة في أروقة الجدل العقائدي!

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة

جريمة إقصاء الشريعة

هل اخترع الإسلاميّون مفهوم الشريعة؟

الإيمان بالله وقضية الشريعة

التعليقات غير متاحة