هل ما جرى لنا جرى لأحدٍ من قبلنا؟.. أم أننا معاقبون بما لم يُعاقب به أحدٌ قبلنا؟

يقول السائل:

إنَّ شراسةَ المعركة وما خلَّفته من سحقٍ للبلد وتدميرٍ للمساجد والجامعات والبيوت والطرق وكل شيء مع استشهاد عشرات الآلاف واعتقال الآلاف هل حصل لأحدٍ قبلنا لنأنس بذلك؟ أم أننا بما نقع به من تقصيرٍ أو بما يوجد فيها من مذنبين بتنا معاقبين بما لم يُعاقب به أحدٌ قبلنا؟

والجواب:

الحمد لله، وبعد:

فإنَّ جوابَ السؤال سهلٌ في نفسه، لكن الصعوبة تأتي من العامل النفسي لمن لا زال يُعاني شدائد المعركة، فلن يسهل عليه أن يقرأ الدروس بعقله؛ وإنما تتدخل نفسُه لتُشَغِّب، ثم إني لو رحت أذكر من أهم أشد حالًا منا ربما فُهِمَ من الكلام أني أنَظِّر لقادمٍ أشد مما مضى فلا يقع المقصود من الكلام على وجهه.

وبناءً على ذلك؛ فإنَّ ما أقوله في الجواب هنا مقتصرٌ على الجواب عن السؤال المذكور دون أي إسقاطٍ مما ستقرأ على ما نحن فيه.

وأبدأ الجواب باستحضار فضل الله علينا أن عدونا الذي يبطش بنا هو من اليهود؛ لأن الله أخبرنا أن اليهود يحبون الحياة حتى لو كانت بالذل فيرضون بأي حياةٍ كما قال سبحانه: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: 96].

وهم قوم جبناء قذف الله في قلوبهم الرعب، ولهذا تركبت سياستهم القتالية على المبالغة في الحماية وطلب الحياة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ [الحشر: 14].

ثم إن المعركة معهم معركةٌ واضحةٌ بين الإسلام والكفر، بين الحق والباطل، فالجهاد حين يكون طرفاه متضحين من جهة العقيدة يكون المسلمون أكثر نصرةً لبعضهم، مما لو كان القتال داخل الأوصاف المتعارضة مما يمكن أن يحصل داخل الدائرة الإسلامية.

والمقصود الذي أريد: أن العدو الصهيوني بما تَرَكَّبَ عليه من جُبنٍ وحبٍّ للحياة سيحرص أن يبقى حيًّا في المواجهات، ويخنع عندما تذيقه شيئًا من البأس، وهذا وفَّر لنا أن عدد القتلى في المعارك من المجاهدين يكون قليلًا كما رأيناه في جملة المعارك السابقة بالمقارنة عما يجري عادة في حروب الدول الأخرى.

أما الكثرة في أعداد الشهداء هذه المرة والتي ذهبت بأخيار الناس فإن سببها الحالة الهستيرية التي دخل العدو بها بدافع الانتقام المجنون، بعد أن شعر بالذل والإهانة بعملية السابع من أكتوبر.

ولكن هذه العملية إذا كانت بالنسبة لنا أمرًا خارقًا للمعتاد، وحصل فيها ما لم يخطر لأحدٍ على بالِ من قبل، حتى إن جملة قتلى جميع المعارك الكبرى بدءًا من حرب 2008 مرورًا بحرب 2012 و2014 و2021 في حدود خمسة آلاف.. إلا أنها بالمقارنة عما يجري في الحروب الكبرى في العالم لا تكاد تصنف في الحروب ذات الأعداد الكبيرة من القتلى حتى الآن!

الحروب الأوروبية في الميزان: نظرة على إرث الدم قبل استحقاق التمثيل

وقبل التمثيل بتجارب الشعوب والحركات التحررية ألقي نظرةً خاطفةً على أعداد القتلى في الحروب الأوروبية سواء كان الطرفان من الأوروبيين أو أحدهما.

وأبدأ بالتمثيل بالحرب العالمية الأولى؛ فإنَّها خلَّفت 25 مليون قتيل، بمتوسط 17 ألف قتيل في كل يومٍ على مدار أيام المعركة التي استمرت أربع سنين!

أما الحرب العالمية الثانية فإنها خلَّفت 50 مليون قتيل على أوسط الأقوال -فقد قيل 25 مليون وقيل 75 مليون-، ومتوسط القتلى في كل يومٍ كان يزيد عن 19 ألف قتيل على مدار سبع سنين!

وهذه الحروب وإن سميت عالمية إلا أن الغالب في الأطراف فيها هم الأوروبيون أنفسهم، حتى إن بعض الباحثين يسمي الحرب العالمية الأولى بالحرب الأوروبية، فليس هناك طرفٌ خارجها إلا الدولة العثمانية التي دخلت فيها بعد حين.

وبعد ذلك رأوا أن يديروا عملية الخلاف بينهم ليكون توجيه السلاح مسلطًا خارج أوروبا، وفي ظل تقاسم الكعكة الإسلامية وكذا الإفريقية وغيرها استطاعوا أن يديروا حالةً من الوفاق وإن كان بينهم من الاختلاف ما بينهم.

فالإبادات لم تبدأ اليوم.

من إبادة الهنود الحمر إلى احتلال 43 دولة

والولايات المتحدة التي تظهر بمظهر المصلح والحريص على السلام قد قامت بعملية احتلال مباشر لـ43 بلدًا، من أشهرها عندنا فيتنام وأفغانستان والعراق، وأكثر من سألتهم: هل احتلت الولايات المتحدة بلادًا احتلالًا مباشرًا لم يكونوا يجيبون بعد تفكير إلا بهذه الدول الثلاثة فقط.

وإذا رجعنا إلى تاريخ القارة الأمريكية فإن الأوروبيين حين داهموا القارة سواء كانوا من بريطانيا أو أسبانيا أو البرتغال أو هولندا قد اقترفوا إباداتٍ بشعةً جدًّا بأهل القارة الذين دمغوهم مجتمعين باسم الهنود الحمر زورًا وظلمًا وبهتانًا.

والذي بلغه الإحصاء من أعداد القتلى فيمن أطلقوا عليهم الهنود الحمر هو 122 مليونًا!

وهذا العدد يشكل مجموع 400 شعب أمريكي أُبيدوا عن آخرهم على مدار أكثر من مائتي سنة، ولم يبق في لحظةٍ من اللحظات سوى ربع مليون إنسان.

هذا فضلًا عن اصطياد الأوربيين 60 مليونًا من أفريقيا ليكونوا عبيدًا لهم.

الجرائم الأمريكية التي لا تُحكى

وإذا أخذنا عينةً من العصر الحاضر وجدنا الولايات المتحدة قد قتلت 2 مليون في الفلبين، و4 مليون في فيتنام بحسب الأرقام الحقيقية، وجرح 4 مليون آخرين، وقتل نحوٍ من 220 ألفًا من اليابانيين في الحرب العالمية الثانية لما ضربوا قنبلة نووية على هيروشيما، وقذفوا بأخرى على ناجازاكي، لتكون الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم حتى اليوم التي ضربت بالقنابل النووية مدنًا مدنية، ومئات الألوف من القتلى في أفغانستان والعراق، وغير ذلك مما يسأم القلم عن ملاحقته من كثرته.

وعقب الذي قرأت عيناك تستطيع أن تدرك دقة النتيجة التي خرج بها المؤرخ (ريتشارد سلوتكين) إذ قال: “إذا كان لا بد من شعارٍ لأميركا وتاريخها فليس هناك ما يعبر عن هذه الحقيقة سوى هرمٍ هائلٍ من الجماجم”!.

الإبادة البريطانية المكتملة في أستراليا

وإذا جئنا إلى بريطانيا مثلًا -وهي أصل مادة الأمريكان الغالبة؛ فقد كانت الولايات الأمريكية مستعمرات بريطانية قبل الاستقلال- فإنها حين غزت أستراليا سنة 1788 أبادت ما لا يقل عن 500 قبيلة، ولم أقف على إحصاء دقيق يظهر عدد القتلى، إلا أن ما يتردد أنهم في حدود 20 مليون إنسان!

وفي إحصاء أُجرِيَ عام 1911 تبين أنَّ كلَّ من تبقى من سكان القارة الأصليين بلغ عددهم 31 ألف إنسانٍ فقط!

وما زالت أستراليا تتبع التاج البريطاني إلى اليوم.

ومن المستظرف أنَّ المُفَكِّرَ الأسترالي (واجُلاربينا نُلياريما) في شهادةٍ له أمام المحكمة العليا بتاريخ 8-7-1998م قال: إن أستراليا لا تمتنع عن التوقيع على ميثاق تحريم الإبادة وتجريمها، إلا أنها تريد قبل التوقيع أن تتأكد من أنه تم القضاء نهائيًّا على سكان أستراليا الأصليين!

شهداء الجهاد أقلّ من ضحايا الاستسلام

وبهذا كله تدرك بركة الجهاد في هذه الأمة، وأنه رغم كثرة القتلى إلا أن العدد مهما بلغ يشبه أن يُعدَّ صفرًا بالقياس على ما إذا كنا لا نحمل السلاح، وننتظر حماية القوانين الدولية، ولهذا لو تأملت التصريحات الأمريكية المتعلقة بقتل المدنيين في هذه المعركة لوجدت أنها تتحدث دائمًا عن العدد المسموح به في القتل وليس عن أصل القتل.

من فيتنام إلى أفغانستان: كيف تُقاس التضحيات بأرقام الدم؟

أما بالنسبة لتجارب الشعوب والحركات التحررية فأكتفي بثلاثة أمثلة إيجازًا:

الأول: التجربة الفيتنامية، فقد بلغ عدد القتلى من الفيتناميين 4 مليون على يد الأمريكان، وجُرح مثل هذا العدد، وذلك على مدار عشرين سنة.

الثاني: التجربة الجزائرية، فقد بلغ عدد القتلى 6 مليون على يد الفرنسيين، وهناك من يذكر أن العدد 9 مليون، وأما ما يُذكر من أنَّ الجزائر بلد المليون شهيد فإنما يُقصد به العدد الذي قدمه الجزائريون في ثورة التحرير والتي اندلعت سنة 1954 حتى حصل التحرير سنة 1962، بينما بلغت مدة الاحتلال 132 سنة، بدءًا من سنة 1830م، مع أن عدة شهداء الثورة مليون ونصف لا مليون فقط فيما يُذكر.

ولك أن تتخيل أن الثلاثين سنة الأولى من الاحتلال الفرنسي للجزائر خلَّفت 2 مليون شهيد، من أصل 4 مليون ونصف عدد سكان الجزائر يومئذ، ومكثت الجزائر مائة سنة تقريبًا حتى استطاعت تعويض العدد؛ إذ بقيت لمدة طويلة تفقد من الشهداء بعدد المواليد.

الثالث: التجربة الأفغانية، فقد بلغ عدد الشهداء من المجاهدين فقط إبّان الغزو السوفيتي مليون شهيد كما يذكره الملا عبد السلام ضعيف وفقه الله في كتابه: (حياتي مع طالبان)، وبلغ عدد ذوي الإعاقة من جملة أفراد الشعب في نفس الحرب مليونًا ونصف المليون.

الثبات أمام أعتى الجيوش.. كيف يصنع المجاهدون المعجزات؟

وعلى ذلك؛ فما يجري اليوم في بلادنا من ضراوة المعركة إنما هو نقطةٌ في بحر مما كان يجري للأمم من حولنا، ولعل من العوامل التي تجعل بأس هذه المعركة أقل من البأس الذي ذاقه غيرنا:

ثبات المجاهدين واستبسالهم، والتوثيق الإعلامي لما يقومون به من عمليات.

التغطية الإعلامية العالمية للمعركة، فتنقل أحداث المعركة على الهواء مباشرة، وهذا يجعل المجزرة التي تبلغ مائة شهيد حدثًا ضخمًا يثور الناس بعده.

الحراك العالمي المتفاعل والذي يأخذ حالةً تصاعديةً، والذي عم أكثر دول العالم، فالمظاهرات وإن لم تُؤَدِّ إلى إيقاف المعركة إلا أنها تصنع جوًّا من الضغط النفسي على قادة الاحتلال الصهيوني.

أما لو غابت الكاميرا فلن يبتئس العدو من قتل مئات الآلاف من البشر، ولهذا إشكالية المجرمين دائمًا في الكاميرا التي توثق ما يفعلون، ولهذا يكثر استهدافهم للصحفيين وإغلاق مكاتب بعض القنوات.

أما المعاناة التي نجدها في النزوح في تدبر أمر العيش والتحصل على الماء ومعاناة الحر فلسنا أول من عانى ذلك.

وما زال إخواننا السوريون يعانون ذلك منذ الثورة، وقبل سنتين كان عدد الذين يسكنون الخيام 2 مليون ونصف المليون، ولست أدري العدد الآن.

بين الجوع والعطش والحرّ.. معاناة النازحين الأفغان في المخيمات

وإذا رجعنا إلى التجربة الأفغانية فمما سجله الملا عبد السلام ضعيف في كتابه: (حياتي مع طالبان) أنه لما ذكر بدء الغزو السوفيتي سنة 1979 لأفغانستان حين كان فتىً ذكر طرفًا من تفاصيل نزوحهم إلى مخيمات النزوح التي أقيمت على الحدود الباكستانية. ومما ذكره في ذلك: أن قطع المسافة من البيت إلى مخيم النزوح وسط طريقٍ محفوف بالرعب والمخاطر -تكلم في الكتاب عن طرفٍ منها- استغرق ستة أيام متواصلة.

وحين ذكر معاناة التحصل على الماء في مخيم النزوح الذي نزلوا فيه ذكر أن أقرب بئرٍ كان يبعد عنهم بضعة كيلومترات، وأنه كان فيمن يذهب لحمل دلاء الماء فيخرج عند الصبح ويعود عند الظهر وقد هدَّه التعب، إلى أن أكرمهم الله بحفر بئر قريبٍ من المخيم.

وذكر أن الخيام كانت كالأفران إلى درجة أن بعض الأيادي قد احترقت حين لامستها! وأحسب أن المنطقة قريبةٌ من خط الاستواء.

وذكر أنهم بقوا في مخيمات النزوح يعانون ما يعانون لمدة ست سنين.

هل ما جرى لنا جرى لأحدٍ من قبلنا؟ أم أننا معاقبون بما لم يُعاقب به أحدٌ قبلنا؟

وعقب الذي تسطر؛ فإني لم أذكر هذا تنظيرًا إلى أنه قد يحصل لنا مثله، فالظن بالله الكريم أن يجعل عافيتنا قريبةً بإذنه تعالى، ولكني ذكرت ما ذكرت إجابةً على سؤال السائل الذي سأل:

هل ما جرى لنا جرى لأحدٍ من قبلنا؟ أم أننا معاقبون بما لم يُعاقب به أحدٌ قبلنا؟

ولعل الإجابة باتت واضحة؛ أن عناءنا قليلٌ إلى جانب ما عانته الشعوب قبلنا، وأنَّ عدد الشهداء لا يكاد يُذكر أمام ما قدمه إخواننا.

والأمر المهم هنا أن عدد الشهداء الذي عندنا مع ما جرى من المجازر لم يذهب سدى؛ بل إن الله تعالى أحدث به من الثمرات -كالتي تقدمت- ومن تغيير المعادلات ما لم يخطر لنا ببال.

لقد جعل الله تعالى هذه الدماء أعظم وقودٍ لهذه الأمة، وكانت سببًا في إنهاك الولايات المتحدة وتعريتها وتسريع منحنى سقوطها، وإعادة الحيوية للأمة الإسلامية، وتحريك المياه الراكدة في أواسط الجماعات الإسلامية، والوعي الذي نزل بشباب الأمة والذي عرفوا به كميةً من الحقائق تَمَيَّزَ لهم بها العدوُّ من الصديق.

وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

المصدر

الشيخ محمد بن محمد الأسطل – من علماء غزة.

اقرأ أيضا

“عندما يتفرّق القطيع تقوده “العنزة الجرباء”

ويسألونك لماذا البلاء..؟

غزة الصابرة والسنن الإلهية

سُنة الله في المدافعة بين الحق والباطل

التعليقات غير متاحة