لله تعالى سنة حكيمة، وهي المدافعة بين الحق والباطل، وجرت بها المواجهات مع الأنبياء وحفظها التاريخ، ولهذه السنة ثمرات مهمة للمؤمن وللحياة.

ضعف الباطل

حدثنا ربنا تعالى عن سنته في جريان الصراع والمدافعة بين الحق والباطل؛ فينتفش الباطل حينا فيؤذي الخلق والحياة والأحياء ويظهر للناس قبحه، ويذوقون ثمرته البشعة.

ويأتي الحق ليُظهر عوار الباطل ويُبطل حجته ويواجهه مواجهة مكافئة في جميع مجالات وجوده؛ فيواجه حجته الداحضة بالحجة الحق، ويواجه جنده المخذولين بجند الله الظاهرين.

ومن ثم تصلح الحياة وتحلو للأحياء ويعرف الناس منة الله في الرسالات ويدركوا قيمة الحق ومن يحمله من الأنبياء والرسل، والعلماء والمجاهدين، والمصلحين بالحق.

آيات ناطقات بسنة الله

من الآيات التي تتحدث عن هذه السنة وتبرزها في سورة الأنعام ما يأتي:

قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ (الأنعام: 112).

وقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (الأنعام: 123).

وقد جاء ذكر هذه السنة في آيات مماثلة في سور أخرى من القرآن منها:

قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 251)، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40).

وقوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الفرقان: 31)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ (محمد: 4).

وجاء في الحديث القدسي قول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «وإنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك»(1).

يقول الشيخ السعدي في تفسير آية الأنعام:

“يقول الله مسليًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك ويحاربونك، ويحسدونك، فهذه سنتنا أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء من شياطين الإنس والجن، يقومون بضد ما جاءت به الرسل.

ومن حكمة الله تعالى، في جعْله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصارًا قائمين بالدعوة إليه، أن يحْصل لعباده الابتلاء والامتحان، ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى‏.

ومن حكمته أن في ذلك بيانًا للحق، وتوضيحًا له؛ فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه‏؛ فإنه ـ حينئذ ـ يتبين من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه، ما هو من أكبر المطالب، التي يتنافس فيها المتنافسون‏”. (2)

ويقول‏ سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“إنهـا مـعركة تتـجمع فيـها قـوى الشـر فـي هذا الكون.. شياطين الإنس والجن.. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطـة مقررة.. هي عداء الحق ـ الممثَّل في رسالات الأنبياء ـ وحربه..

ولكن هذا الكيد كله ليس طليقًا.. إنه محاط به مشيئة الله وقدَره.. لا يقدر الشياطين على شيء منه، إلا بالقدْر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره، ومن هنا يبدو هذا الكيد ـ على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه ـ مقيَّدًا مغلولًا!

ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق؛ ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها.

ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلّق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين..!” (3)

المقصود بالحق والباطل، والتدافع بينهما

يراد بـ “الحق” هنا ما هو ثابت وصحيح وواجب فعله أو بقاؤه من اعتقاد أو قول أو فعل بحكم الشرع.

ويراد بـ “الباطل” نقيض الحق، أي: ما لا ثبات له ولا اعتبار، ولا يوصف بالصحة، ويستوجب الترك، ولا يستحق البقاء، بل يستوجب القلع والإزالة، وكل ذلك بحكم الشرع.

ويراد بـ “التدافع بين الحق والباطل” تنحية أحدهما للآخر، أو إزالته ومحوه بالقوة عند الاقتضاء.

والتدافع بين الحق والباطل؛ أي: بين أصحابهما أمر لا بد منه وحتمىّ، لأنهما ضدان، والضدان لا يجتمعان، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته، أو في الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة، فلا يتصور إذن أن يعيش الحق مع الباطل في سِلْم من دون غلبة أحدهما على الآخر، إلا بضعف أصحابهما أو جهلهم بمعاني الحق والباطل، ومقتضيات ولوازم هذه المعاني. (4)

والمدافعة تكون باليد والسنان، كما تكون بالقلم واللسان، مدعومة بالمال والنفقات، قال صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم». (5)

ثمرات المعرفة بسنة المدافعة

من ثمرات المعرفة بهذه السنة العظيمة «سنة المدافعة»:

الثمرة الأولى: معرفة الحِكم العظيمة لهذه السنة

أولًا: حكمة الابتلاء والتمحيص

وتمييز الخبيث من الطيب، والتي لا تحصـل إلا بصـراع الحـق مع الباطل وفي الحديث القدسي: «وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك». (6)

وها هي الأحداث المعاصرة والنوازل المزلزلة في بلدان المسلمين كم كشفت من المنافقين والرافضة الباطنيين وعملاء الكافرين؛ حيث تساقطت الأقنعة عن وجوه هؤلاء، وأظهرت هذه الابتلاءات نفاقهم وزندقتهم وخبث طويتهم وعداءهم للإسلام وأهله، وتمييز الخبيث من الطيب.

وفي ذلك خير ومصلحة عظيمة لم تكن لتتحقق لولا هذه الابتلاءات والنوازل، والمدافعات، وسبحان الله العليم الحكيم العزيز الرحيم!

ثانيًا: استخراج عبوديات من الأولياء

ما ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“استخراجُ عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم؛ فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقًّا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية”. (7)

ثالثا: بيان السبيلين

إن في الصراع بين الحق والباطل بيانًا للحق وإظهارًا لسبيل المؤمنين، وبيانًا لسبيل المجرمين.

وهذا ما نشهده اليوم من بيان دين الإسلام الحق، واعتناق كثير من الكفار لعقيدة الإسلام، بعدما سمعوا ورأوا حقيقة هذا الدين، وصدْق أهله المجاهدين في سبيله، وما كان لهم أن يعرفوا ذلك لولا صراعه مع الباطل ومدافعته له.

وكذلك ما نشهده اليوم من اليقظة الشاملة في أوساط المسلمين بحقيقة أعدائهم، وتعرية باطلهم، وتقوية عقيدة “الولاء والبراء”، وشحْذ الهمم لنصرة دين الله عز وجل والجهاد في سبيله، وفي هذا مكاسب كبيرة ومصلحة عظيمة، لاسيما إذا قارنّا أحوال الأمة ويقظتها اليوم مما كانت تعيشه سابقا قبل هذه الأحداث من غفلة وانخداع بما يروّجه الكفار والمنافقون بأنهم دعاة سلام وأمن وحرية. وهذا من ثمار المدافعة وصراع الحق مع الباطل.

رابعا: إيقاف فساد الباطل

في صراع الحق مع الباطل ومدافعته له إيقاف للفساد الذي يسعى الباطل وأهله لنشره وإغواء الناس به، وهذا ما بيّنه الله عز وجل من أثر مدافعة الباطل وثمرته، حيث قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:251).

الثمرة الثانية: الاطمئنان واليقين

الاطمئنان إلى قدر الله وحكمته، واليقين بأن ما يحصل من تقلب الكافرين في البلاد، وتغلُّبهم في بعض الأحيان على المسلمين إنما هو بقدره سبحانه ومقتضى حكمته البالغة وبهذه المعرفة يُعظّم العبد ربه، ويستهين بأعدائه من شياطين الجن والإنس.

وبهذا الإيمان واليقين يستعلي المؤمن بإيمانه، ويطمئن إلى ربه، ويحسن الظن به، ويستقر في قلبه أن الأمر كله لله، كي لا يشوب القلب ما يشوب ضعاف الإيمان من إساءة الظن بالله عز وجل وبوعده، وكي لا يتعلق بالأسباب والوسائل، وإنما يفعل الأسباب الممكنة من أسباب المدافعة، ولا يركن إليها، وإنما يركن إلى مسبِّبها وخالقها ومدبرها وحده سبحانه، ويعتقد أن له سبحانه الحكمة البالغة في تدبير الأمور.

الثمرة الثالثة: الغبطة بالهدى

شعور المسلم بالغبطة والحبور عندما يجد أن الله عزوجل قد هداه، وجعله في صف الحق وأهله، الذي يدفع الله عزوجل بهم الباطل وأهله، وهذا الشعور لا يقف بصاحبه عند الشعور النفسي فحسب، بل يفرض عليه ـ شكرًا لله عز وجل أن هداه إلى الحق ـ بأن يكون من حماة الحق والمدافعين عنه، مجاهدًا في نشره ليصل إلى الناس الذين حرموا من معرفته واتباعه، سائلًا ربه عز وجل كما هداه للحق أن يثبته ويتوفاه عليه.

الثمرة الرابعة: سعة النظر وعدم الاستعجال

ومن ثمرات المعرفة بهذه السنة لا سيما للدعاة والمجاهدين أن الله عزوجل يمنحهم بمعرفتها سعةً في النظر إلى الأمور، وعدم الاستعجال في تحصيل النتائج أو استبطائها، لأنهم بهذه المعرفة لربهم سبحانه وسننه يدركون أنه سبحانه ـ بحكمته وعلمه ولطفه ـ قد يطيل أمد المدافعة، بحيث لا يشهد بعض الناس نهايتها ونتائجها الحتمية من ظهور الحق وزهوق الباطل.

يقول الدكتور محمد السلمي:

“والسنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلًا لكي تُرى متحققة في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فلا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانبًا من السنة الربانية، ثم لا تتحقق (كاملة) في حياته، مما قد يدفعه إلى التشكيك أو التكذيب بها..

والسنة الربانية لا بد أن تقع، ولكن لمَّا كان عمرها أطول من عمر الفرد، فإنها تُرى متحققة من خلال التاريخ”. (8)

للحق طريق يسلكه

إن للحق خطواته، وحساباته لمجمل الأحياء، وللأجيال القادمة، ولمن في قلبه خير ليعود. وللحق خطْوه الوئيد والثابت وغير المتعجل، والذي لا تستفزه رغبة فانٍ أو تعجل متعجل.

وللأعمال البشرية دورها الذي ناط الله تعالى بها قدره، ولا بد للمؤمنين من استيفاء شروط وصفات وأحوال، وأن تنضج قلوبهم وعقولهم للحق والتهيؤ لحمله ليسود الحق لا لتسود أشخاص بأعيانهم.

ستتم كلمة الله، صدّق ذلك مؤمن، وارتاب فيها مرتاب. وقد هلك المرتابون، وصدق الله.

…………………………………………

الهوامش:

  1. صحيح مسلم، برقم 2865.
  2. تفسير السعدي، 1/169، 270.
  3. في ظلال القرآن، 3/1191.
  4. انظر: «السنن الإلهية»، د. عبد الكريم زيدان صـ 43، باختصار وتصرف يسير.
  5. صححه الألباني في «صحيح أبي داود» برقم 1262.
  6. صحيح مسلم برقم 2865.
  7. زاد المعاد 3/198.
  8. منهج دراسة التاريخ الإسلامي، صـ61.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة