إن شرط أي تحرك سياسي ألا يكون على حساب الوضوح العقدي ولا على حساب بيانه بل ورفع اللبس فيه ، وهذا هو ما جعلنا نفرق بين الخطابين ، فالمقصود من التفريق بين الخطابين هو أن نحتفظ بوضوح واستمرار الخطاب التصحيحي للمفاهيم وجلائه وبيانه، وأن يُسمح لنا بإمكانية من الحركة تخدم عملية الإحياء وتوفر للمسلمين من الحماية والقوة ما يحتاجون إليه فى مسيرتهم .

المطلوب توفير نوع ما من الحماية للمسلمين وللدعوة والحركة

يجب أن يدرك إخواننا أن ما طُرح من قضية الخطاب الديني والخطاب السياسي له مجاله وظروفه وله زمنه وضوابطه ..

إن هذا الخطاب موجه لإخواننا لمعرفة ما يمتلك المسلمون من المرونة وإمكانية الاستفادة من  الظروف المختلفة والمعطيات المتاحة في نشر وحماية الإسلام والمعتقدات والتوجهات الإسلامية الصحيحة حينما يكون المسلمون على قدر من القوة والإمكانيات والانتشار والتأثير في الأمة بما يسمح لها بذلك .. المطلوب توفير نوع ما من الحماية للمسلمين وللدعوة والحركة .

إن الأمر لا يعنى التخلي عن أى شيء من معتقدات المسلمين أو أي شيء من دينهم بعقائده وفرائضه وسننه ونوافله بل إن الأمر كله من أجل حمايته ..كما لا يعني الأمر التحول إلى حركة سياسية كحزب سياسي بعيدا عما عليه المسلمون من التوجهات الشرعية ..

قضية سياسية مفاصلها شرعية

وما عنيناه بأن القضية أصلا ( قضية سياسية مفاصلها شرعية ) نعني به أننا لسنا حركة فقهية أو دعوة فردية للالتزام الفردي لا تتعدى كونها مدرسة علمية .. يقول الشيخ حسن البنا: ( أيها الإخوان: أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزباً سياسياً ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ).

وإنما نعني أننا دعوة وحركة تسعى لإقامة المشروع السياسي الإسلامي بإقامة الوضع الإسلامي الشامل من خلال تمكينه كنظام سياسي واجتماعي واقتصادي وفكري وإعلامي وهوية ورسالة ، أي كمنهج حياة شامل وأن من يقود هذه الحركة لابد وأن يكون رجل سياسة من الطراز الأول صاحب عقيدة راسخة وفهما مستقيما للواقع الذي نعيشه، العلماء والدعاة هم حواريه ومستشاريه فهي دعوة وحركة لمواجهة الأوضاع الحالية والمنحرفة عن دين الله تعالى بل والمحارِبة له ، وذلك من خلال السعي للتمكين السياسي للإسلام ..

وأما كون مفاصلها كلها شرعية فنعني أنها مبنية على عقيدة لا تنفصل عنها ..

أما أن يُفهم أن الخطاب السياسي خارج نطاق دين الله تعالى فهذا فهم معوج لم نقصد إليه ، وإنما الخطاب السياسي مبناه على السياسة الشرعية لتحقيق مصالح المسلمين.

خطوة على طريق التمكين

إن طرحنا للفرق بين الخطابين ليس موجها لعموم الناس ، فماذا سيصنعون به ؟ وإنما هو موجه لأبناء الحركة ليقوموا بواجبهم بنشر وتبسيط المفاهيم الصحيحة والعقيدة الواضحة الصريحة بين جموع الأمة في أسرع وقت ممكن ليقوم الناس بها ويدركوا أنه لا فلاح ولا نجاة لهم في الآخرة ولا أمن ولا استقرار ولا طمأنينة لهم في الدنيا إلا بهذه المفاهيم ولأن التأخر في البيان فيه من الهلكة والمفسدة لهم ولدعوتهم ما لا يعلمه إلا الله … فعند وجود قوة شعبية داعمة للحركة تحميها وتحمي رجالها من البطش ووضوح مطالب الحركة بالعودة إلي الإسلام كمنهج حياة شامل لجميع جوانب الحياة وعدم التنازل عن ثوابت الدين وضمان عدم التلون لمكاسب مؤقتة زائلة مع وجود جو عام أو حراك شعبي جاد عندها وعندها فقط يمكن للحركة أن تنخرط في العمل السياسي – كأحد البدائل وليس البديل الوحيد- كطريق لاسترجاع الحقوق المغتصبة أو لقدر من الحماية والقوة لمزيد من استفاضة البلاغ والبيان كخطوة على طريق التمكين أما والحال على ما نراه من بطش وقمع وتنكيل بأصحاب الدعوة وعدم استفاضة البلاغ وتزوير لإرادة الأمة يجعل من العمل السياسي شيئا من العبث أو الدجل أو تمييع الدين.

الحركة السياسية..ضوابط وشروط

فإن مَلَك المسلمون القدرة على حركة سياسية يكونون عندها واضحين في أنهم بهذا لم يقيموا الوضع الإسلامي الشرعي بل يكتسبون للمسلمين من الحقوق والحماية ما يكفل لهم مركز قوة أكثر في دعوتهم وحركتهم ، ويكونون واضحين بأن هذه الأوضاع لم تصر أوضاعا شرعية بهذا بل الشرعية الإسلامية لها شروطها العلمية المعروفة ..وهكذا فلا يكون الدين تابعا للمواقف السياسية بل هو ضابط لها والمواقف السياسية خادمة له .. فإن ملك المسلمون هذه القدرة بهذه الشروط فلا مانع إذن من الحركة .

ثم إن وجد المسلمون أن هذا التحرك السياسي في ظرف ما سيأتي على حساب عقيدتهم وثوابتها وأنه يتعذر خدمة الدعوة من خلال هذا التوجه إلا بما يأتي عليها من الخلل أو اللبس فعندها يعتصم المسلمون بعقيدتهم وتعتصم الحركة بثوابتها وتبتعد عما يغبش على الناس الدعوة ويلبس عليهم المفاهيم الشرعية التي هي أساس الحركة، وتصحيحها شرط فى إحياء الأمة .

إن شرط أي تحرك سياسي ألا يكون على حساب الوضوح العقدي ولا على حساب بيانه بل ورفع اللبس فيه ، وهذا هو ما جعلنا نفرق بين الخطابين ، فالمقصود من التفريق بين الخطابين هو أن نحتفظ بوضوح واستمرار الخطاب التصحيحي للمفاهيم وجلائه وبيانه، وأن يُسمح لنا بإمكانية من الحركة تخدم عملية الإحياء وتوفر للمسلمين من الحماية والقوة ما يحتاجون إليه فى مسيرتهم .

التحرك السياسي يهدف إلى نشر المفهوم الشرعي

كما أن ما طرحناه هو أمر متاح للحركة في حال كونها قوة تستطيع الحركة والتأثير في المجتمع وكونها قد اكتسبت قطاعات من الأمة تستطيع أن تمثلهم وتضغط بهم على أنهم قوة واقعية تفرض نفسها ولا بد من احترامها وتمثيل مطالبها.. فلا بد من أن يسبق هذه الأطروحات نشر للدعوة وللمفاهيم الشرعية الصحيحة واكتساب لمراكز قوة بتمثلها في تجمعات وقطاعات تؤمن بها إيمانا راسخا وواضحا .. وذلك لأنه ينبني على هذه المفاهيم الشرعية كل هذا الحراك بل إن هذا  الحراك هو من أجلها ومن أجل الدفاع عنها وتوصيلها واتساع رقعة انتشارها فى الأمة فيكون التحرك السياسي مساعدا على نشر المفهوم الشرعي لا على حسابه .

طريق التمكين

إن حسم الأمر وإقامة الوضع الإسلامي لا يعتمد على هذا الطريق ، وإنما هذا الخطاب وهذا التحرك خادم لانطلاق الدعوة وترسيخ المفاهيم العقدية الصحيحة وإعادة الأمة للانحياز للمشروع السياسي الإسلامي بانحيازها للإسلام عقيدة وهوية ، والواجب الاستمرار وبقوة في التعليم والتصحيح والتربية ونشر الدعوة ، وهذا هو طريق التمكين، أما الحراك السياسي والخطاب المصاحب له فهو حماية وتغطية للحركة.

هذه التيارات ليست قدوة

( إن تجربة التيارات الإسلامية المعروفة التي أخذت الحركة السياسية طريقا لها على حساب معتقداتها وثوابت العقيدة بل لم تلتفت للثوابت الشرعية بل وتنكرت لها في بعض الأحيان .. بل وقدمت نفسها – برايتها الإسلامية – كجزء من الوضع العلماني يقر بشرعيته ويتبنى المفهوم القومي في كثير من المواقف لا المفهوم الإسلامي ويتنازل في قضية تحكيم شريعة رب العالمين ويتنازل في قضية شرعية هذه الأنظمة العلمانية من الناحية الشرعية بل ويقدم نفسه لهذه الأنظمة العلمانية والفاسدة طالبا إفساح المجال له لضرب بقية التيارات الإسلامية ومواجهتها..)

هذه التيارات ليست قدوة ، وتجربتها لا تعتبر مثالا لهذا الأمر بل هي تجربة عليها الكثير من الملاحظات وعلامات الاستفهام والاستدراك العقدي بما ضيعت من المفاهيم الواجب بلاغها وأوجدت فيها من اللبس والخلل مما سبب معوقا لحركة إحياء الأمة ، أضف إلى هذا أنها هي نفسها تعاني من أزمة عدم وضوح للمفهوم العقدي الصحيح بما تحمله من تراث وتوجهات تحمل لوثات إرجائية ، والذي كان سببا في اختلافنا عن توجههم في الأصل.

ولهذا يشترط لأي تحرك سياسي للمسلمين وضوح البعد العقدي وعدم إقرار شرعية الأنظمة العلمانية وألا يمثل هذا التحرك خصما من الرصيد العقدي .. بل يكون المسلمون وحركاتهم الإحيائية على وضوح في العقيدة والتوجه ، يكون واضحا للعدو المخالف كما للصديق الموافق، وأن تفرض الحركة نفسها بما تمثله من زخم وقوة وتكون لها من البدائل للحركة ما يسمح لها من فرض نفسها بنقائها العقدي الصحيح ..

إن الكفار من الأقليات وغيرهم يقومون بهذا التحرك السياسي بما يسمح لهم بحفظ حقوقهم وزيادة !! مع فرضهم لاحترام الغير لمعتقداتهم بل يدلون بها وبفخر واستعلاء !!

المسلمون بين مضيع للحقوق ومن يفرط في المفاهيم الشرعية

ألا يفهم المسلمون ويدركوا الفرق ويعلموا ضوابط الحركة وألا يكونوا بين مضيع لحقوق المسلمين بما لا يسمح به من الحركة التي تحفظ للمسلمين حقوقا تمكنهم من البقاء وتكون شبيها بسيوف بني هاشم التي حفظت لرسول الله صلى الله عليه وسلم استمراره في الحركة – بإذن الله تعالى – وبين من يتساهل ويفرط فيما يحمل من مفاهيم شرعية ومن وضوح عقدي غائب عن الساحة وبالتالي يفقد تميزه واعتزازه بما يحمله من الحق، ويرضى باللهاث خلف تيارات تساوم وتبيع وتشترى بقضاياه وتستنزفه ثم ترميه متخلية عنه ومضحية به عند (أول صفقة)!

إن الواجب الآن للمسلمين ليس أن يذهبوا لانتخابات مزورة مع لبس عقدى وضياع للمفاهيم الشرعية وضعف شديد للمسلمين وعدم وضوح لا لقضاياهم ولا لمواقفهم .. إنما الواجب بيان الحق وتوضيح المفهوم الصحيح للتوحيد ورفع الالتباس فى المفاهيم والتوجهات والعقيدة عموما والجد فى مشروع إحياء الأمة فعلى أساسه تتحدد بدائل الحركة .

من حق المسلمين أن يختاروا

وعندما يكون هناك وضوح فى المفهوم وانتشار له وقدرة على توصيل موقفنا للناس ويكون هناك اختيار واضح ، قريب من موقف المسلمين في الحبشة بين من يريد اجتثاث الإسلام والتضييق عليه وبين من يحترم التوجهات الإسلامية ويعطيها من الحريات ما تمارسه كحق لها فتوضح المفاهيم للناس وتتصل بهم حتى لو لم يكن يؤمن بالإسلام فهنا يكون الاختيار واضحا ومن حق المسلمين أن يختاروا – عندئذ- من يعطيهم الحريات والحماية كما كان موقف المسلمين من النجاشي وممن ناوأه في الحبشة كاستفادة من الواقع … كما أن للحركة أن تستفيد من التناقضات المختلفة بين المعسكرات لتؤمّن لنفسها تغطية مناسبة لاستمرارها وحمايتها ..

وفي هذا الاختيار لا تقول الحركة للناس أنها أقامت دين الله تعالى بهذا ولا أن من أعطاها هذه الحريات قد اكتسب الشرعية الإسلامية بمفاهيمها الدينية المنضبطة ، وإنما يُشكر كما شكر النبي صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي جواره له ، ويحفظ له الجميل كما حفظه له النبي صلى الله عليه وسلم وأشار لجميله يوم بدر بأنه لو كان حيا لوهب له (هؤلاء النتنى ) – إشارة الى أسارى بدر من المشركين .

أما واجب اليوم فهو أن يسعى المسلمون لاكتساب قطاعات من الأمة تؤمن بالإسلام شريعة وهوية وتنحاز له من منطلق عقدي وتتبنى الإسلام كمشروع حضاري للأمة ، وأن يكتسب المسلمون من القوة ما يؤهلهم لإمكانية استثمارها بعد ذلك.

إن السبب في عدم استيعاب إخواننا لطبيعة الخطابين الديني والسياسي هو سببان رئيسيان:

الأول: هو التجارب الفاشلة والمتنازلة من قَبل ومن قِبل تيارات تركت خلفها إرثا عليه علامات استفهام في جدواه وفيما خلّفه من تلبيس وتضييع لجهد الدعاة الذين استشهدوا في سبيل بيان هذا الدين .

والسبب الثانى: هو الضعف الشديد الحالي للمسلمين والحصار الخانق لدعوتهم ووقوع المسلمين بين خيارات أحلاها مر ، فصار المسلمون بين مسارعة بعض الأطراف – مع إخلاصهم – في تطبيق فاشل ومشوه ومكرر لهذا الطرح ..

هذا من جانب ومن جانب آخر انغلاق أطراف أخرى عن أي أفق آخر غير الاحتفاظ بطريقة نمطية لا تتحرك بل كثيرا ما تكون معوَقة وينغمسون في قضايا جانبية كثيرا ما تستغرقهم جهدا وعمرا مع أن التحديات أمام المسلمين بقدر من القوة والضغط ما يكاد يسحق المسلمين لولا تكفل رب العالمين بحفظ هذا الدين .

المفرّط في مفاهيمه وتميّزه خطأ ، كما أن الانغلاق وعدم المرونة برغم هذه الضوابط هو تقصير كذلك في حقوق المسلمين .

وأخيراً: في وضعنا الحالي لابد وأن نفرق بين مساندة قوى المجتمع المدني التي تدعو إلي التغيير ورفع الظلم ومحاربة الفساد سواء كان توجها إسلاميا – وهو الأولى – أو غير إسلامي بدافع الوطنية أو غيرها فنتعاون معها في هذه الجزئية مع الحفاظ على ثوابت عقيدتنا ووضوح رايتنا ودون التفريط أو التنازل عن شيء منها وبين الدخول في اللعبة السياسية من الباب الرسمي وهو انتخابات مجلس التشريع بمفاسده وأضراره.

وصلى اللهم وسلم وبارك على أكرم الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم

اقرأ أيضا

الخطاب الديني والخطاب السياسي (1)

الفرقان بين الإسلام والعلمانية

القوة سِرُّ عز الأمة

“امتلاك القوة” خطوة للخروج من التبعية والتمكين للشريعة

الأمة الإسلامية بين أسباب السقوط وعوامل النهوض

إحياء الأمة وإقامة الحكم الإسلامي

التعليقات غير متاحة