ما تراه من تخلف واقع المسلمين عن تاريخهم، وعن الصورة الشرعية المأمورين بتحقيقه وإقامتها؛ فاعلم أن وراء ذلك خللا في المفاهيم الأولى للعقيدة، ومن ثم خللا في القدرة.

تعريف عام

المؤلف: محمد قطب

الناشر: دار الشروق

الطبعة: الطبعة الثامنة 1415هـ – 1994م

عدد الأجزاء: 1

عدد الصفحات: 384 صفحة.

فكرة الكتاب

وتدور فكرة الكتاب حول أن هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة التي أصبحنا نحملها وهي بالأساس طارئة على عقل المسلم المعاصر، جاء بها الاستعمار والاحتلال فسلب منا مفاهيمنا الصحيحة عن كل شىء، عن التوحيد والعبادة والجهاد والخلافة…إلخ.

فالمفاهيم الصحيحة هي المفاهيم السليمة التي جاء بها الكتاب والسنة، وفهِمها الصحابة أحسن الفهم وأفضله. فتلك المفاهيم التي بنَت الأمة وأخرجت ذلك الجيل الفريد الذى نشر الإسلام وبلّغه وهَدى الناس ـ بفضل ربه ـ إلى عبادة رب العباد.

فماذا حدث لعقل المسلم المعاصر لكي يصبح ذليلاً للعقل المادي الغربي كما نرى الآن..؟ ماذا حدث لأمتنا لكي نغرق في ذل الأخذ من الغرب بعدما كنا يوماً في عز العطاء بل أصبحنا ندور في فلك الغرب دون أن نعي أين نحن أصلاً..!

أول ما فعل بنا العدو هو تغييب عقولنا وإبعادنا عن النبع الذي كان يستقي منه الصحابة والتابعين، وإبعادنا عن تلك المفاهيم الصحيحة التي كانوا يعملون بها، وهي داخل قلوبهم وأفئدتهم. وينبغي أن نعلم أن أول طريق الخلاص من هذا التيه هو العودة للمفاهيم الصحيحة والعمل بها، وعودة المسلم إلى قرآنه وسنة المصطفى، صلى الله عليه وسلم. ولعل من أفضل الكتب التي تكلمت في هذه القضية هو كتاب “مفاهيم ينبغي أن تُصحح” للعلامة الأستاذ “محمد قطب” رحمه الله.

محتويات الكتاب

تناول الكاتب رَحمه الله في الكتاب خمسة مفاهيم مهمة يجب أن نُدركها لنُخرج الأمة من وهدتها ونزيل عنها غربتها الثانية ونطرد أفكار الجاهلية المعاصرة كما سماها رحمه الله..

يتناول أولاً مفهوم “لا إله إلا الله”.. فهي ليست كلمة تقال بلا رصيد إيماني، بَل هناك لوازم ومقتضيات تترتب عليها، ويركز على موضوع توحيد الألوهية والربوبية والحاكِميّة.

ثم ينتقل بسلاسة وترابط الى موضوع العبادة ويركز على أن العبادة يَجب أن لا تُحصَر في موضوع المناسك التعبدية فقط، بل أن هناك أمر آخر هو الأخلاق.. ثم يبين الآثار المترتبة على حصر واختزال العبادة في الصيام والصلاة وتقسيم القلب قسم للعبادة وقسم آخر للحياة اليومية.

ثم ينتقل الى موضوع القضاء والقدَر والدنيا والآخرة. ويركّز على الصوفية وآثارها على المجتمع. ثم ينتقل الى موضوع مهم وهو الحضارة ويقسّم الحضارة الى جانين، الجانب المعنوي والجانب المادي ويدخل في تفصيلات كل منها بطريقة مقنعة تخاطب العقول والمشاعر، ثم ينتقل الى مخاطر أن نقيم الحضارة على جانب واحد “الفكرة الغربية” وهو الجانب المادي وننسى القيم والأخلاق التي تَحُط من كرامة الإنسان ويختل المجتَمع بأكمله.

وكالعادة ينتقل الكاتب بعد الشرح الواسع الى أضواء في المستقبل, ثم يَذكُر أن ما يَحصُل من حالة الضعف والضياع التي تكتنف الأمة من كُل جانب وتحولها الى غثاء كغثاء السيل؛ سببه الانحرافات العقائدية التي جاءت بالغزو الفكري والثقافي للمسلمين وحالة الانتكاس التي مرت عليهم بقبولهم الواقع كما هو..!

المقدمة

يتحدث الكاتب عن أسوأ مرحلة من التاريخ تمر بها الأمة من ذل وهوان وضياع وتكالب للأمم عليها، وأن ما يحدث ليس اعتباطا إنما يجري بحسب سنة الله التي لا تتخلف ولا تحابي أحدا من الخلق.

لقد حدثت انحرافات كثيرة في حياة المسلمين ـ الانحراف السلوكي ـ حتى وصل إلى حده الأقصى ـ الانحراف في المفاهيم ـ التي كانت عاقبته ما نراه اليوم؛ إذ يعاني الإسلام تلك الغربة التي تحدث عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وحين تصحَح المفاهيم، وتعود لها في نفوس المسلمين صورتها الحقيقية الحية الفاعلة، فسيصبح الطريق ميسرا لتصحيح كل ما أصاب المسلمين من انحراف، وكل ما ترتب عليه في حياتهم من آثار.

مفهوم لا إله إلا الله

إن من أهم تلك المفاهيم التي تغيرت في عقل المسلم هو مفهوم التوحيد ـ مفهوم “لا إله إلا الله” – ونرى نزول القرآن وبعث النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، جاء بهذه القضية؛ تعبيد الناس لرب الناس، فنرى في القرآن اهتماما بالغا بـ “لا إله إلا الله”، ونجد الحديث عن أمر التوحيد في السور المكية، واستمر الحديث عنها أيضاً في السور المدنية بعد استقرار العقيدة وقيام الدولة والمجتمع المسلم، والتزامه بتكاليف الإسلام ومقتضياته، وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله ـ ذروة سنام الإسلام ـ فهذا دليل واضح على أهمية تلك القضية؛ فهي حديثٌ لا ينقطع ولا يُنتقل “منه” إلى غيره، بل حديث يُذكر ثم يُنتقل “معه” إلى غيره؛ فالسور المدنية على إطلاقها خطاب للذين آمنوا أي أقروا وصدقوا تقول لهم: إن الإقرار والتصديق وحده غير كافٍ، بل عليهم الالتزام بما جَدَّ في المدينة من الأحكام والتكاليف والأوامر والنواهي، وأن إيمانهم الآن صار مرتبطاً بالالتزام بما جاء من عند الله من هذا كله، وأن هذا الإلتزام هو المحكّ لصِدق إيمانهم؛ وإلا فهو النفاق الذي لا يقبله الله ولا يجزي به إلا الخلود في الدرك الأسفل من النار.

لمَ لا ودعوة الرسل كلهم؛ من لدن نبي الله آدم إلى المصطفى محمد، صلى الله عليه وسلم ـ هي توحيد الله توحيداً خالصاً لا يخالطه نفاق ولا رياء، وكان موقف الجاهلية منها هو الرفض.

لأن موقف الجماهير رافضة أن تترك الأوثان المألوفة بالنسبة لها في عالم الحس الذي تكون أكثر التصاقاً به، حيث تلبّي انحرافاتها الجاهلية؛ فهي تحسها وتراها وتلمسها فتشعر بالقرب المادي المحسوس منها، أما أكابر المشركين فالذي يحركهم ويدفعهم للصد عن سبيل الله هو قضية السلطة، فهم يخافون على مكانتهم وسط باقي الكفار المشركين؛ فولاؤهم لهذه الآلهة صوري أكثر منه حقيقي، ودفاعهم عن تلك الآلهة المزعومة لا ينبعث من كون الاعتقاد الصادق بها، بل لكونها هي الأداة التي يستعبدون بها الجماهير، ويعطون لأنفسهم قداسة مستمدة من تلك الآلهة المزعومة.

كذلك لأن هذه الكلمة ـ لا إله إلا الله ـ لها مقتضيات فهي ليست كلمة تُقال وفقط، بل لها أعمال يجب أن يفعلها المسلم ليكون صحيح الإيمان.

فالإيمان بلا إله إلا الله منهج يتبعه المسلم سويّ الفطرة، يشمل الجانب الاعتقادي والتعبدي والسلوكي، يشمل الاعتقاد بوحدانية الله وتوجيه الشعائر له، وتحكيم شريعته دون غيرها من الشرائع، والتخلق بأخلاق لا إله إلا الله. وهذا ما فعله الجيل الأول إيماناً بالله وطمعاً في جنته ورضوانه سبحانه وتعالى.

ولْيعلم جميعنا أن الإيمان بالله هو أقوى الأدوات المُعينة للإنسان على مقاومة ضغط الشهوات، وبمقدار ما يكون الإيمان قوياً راسخاً تكون قدرة الإنسان على الانضباط في داخل الحدود التي رسمها الله، أي تكون الطاعة لأوامر الله، والقيام بالتكاليف التي فرضها الله.

وليس معنى ذلك أن نصبح ملائكة لا تعصي الله، ولكن يصبح الالتزام والقيام بالتكاليف هي الأصل، وغيرها هو الشاذ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]

مفهوم العبادة

هذا المفهوم من أخطر المفاهيم التي وقعت في الانحرافات بعد مفهوم “لا إله إلا الله”. وحين تلاحظ وتقارن بين المفهوم الشامل الواسع للعبادة الذي كان يفهمه الجيل الأول من المسلمين، وبين المفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة؛ لا يستغرب كيف هوَت الأمة من عليائها لتصبح في الحضيض الذي نعيشه..! فهذا المفهوم أخرج لنا خير أمة أخرجت للناس وذاك أخرج لنا غثاء السيل ولكي تعود الأمة لـ “لا إله إلا الله”، وتعود لمجدها ورفعتها؛ فلا بد من تصحيح المفاهيم يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

فكان المفهوم الصحيح للعبادة في حِسّ الأجيال الأولى أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كما فهموا من قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]؛ ففهموا من هذه الآية أن غاية الوجود كله محصورة في العبادة لا تتعداها إلى شيء غيرها على الإطلاق؛ فالنفي والاستثناء هما أقوى صور القصر في اللسان العربي. كذلك إحساسُهم الصادق بعظمة “لا إله إلا الله”؛ ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حِسّهم في نطاق “الشعائر التعبدية” وحدها كما انحصر في حس الأجيال المتأخرة التي جاءت بفهم بعيد عن الإسلام..! وفهموا أن الشعائر التعبدية ذات مقتضيات، وأنها لا تنتهي بذات نفسها أي بمجرد أدائها إنما تصحبها وتتبعها مقتضيات هي التي تعطيها معناها الحقيقي ومهمتها الحقيقية في حياة الأمة المسلمة.

فالكتاب والسنة أعطيا لكل شعيرة لكل من الشعائر التعبدية بُعداً نفسياً وسلوكياً لا يقتصر على أدائها؛ بل الأصح أن تقول يبدأ بأدائها ثم يمتد ليشمل مساحة واسعة من حياة الإنسان قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر﴾ [العنكبوت: 45]، وقال أيضاً: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183] وقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله بتركه طعامه وشرابه» ويقول أيضاً: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش». (1أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (3249)، وابن ماجه (1690) واللفظ لهما، وأحمد (9683) باختلاف يسير)

كان الصحابة رضوان الله عليهم يقومون بالعبادة وهم يمارسون حياتهم في شتى المجالات فيسألون أنفسهم هل هم في موضع يُرضي الله أم موضع يسخط الله..؟ فإذا كانوا في موضع الرضا حمدوا الله، وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].

وكان إحساس المسلم في الجيل الأول بواجبه في الجهاد في سبيل الله كإحساسه بواجبه في الصلاة؛ هنا يعبد الله وهناك يعبد الله، ولا تُغْني إحدى العبادتين عن الأخرى؛ لأن كلا منهما بمفردها لا تحقق المعنى الكامل للعبادة التي يريدها الله. وكذلك إحساسه بضرورة الزواج لكي يحصن نفسه من الفاحشة ولكي يتخذ السبيل لتكثير الأمة المسلمة التي تجاهد لاقتلاع الشرك من الأرض ونشر التوحيد وإخراج الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله وإقامة شريعته وإعلاء كلمته فهو كان إحساس العبادة. ولا يتناقض في حسه معنى العبادة مع الإحساس بمتعة الجسد ما دامت في حلالٍ أباحه الله سبحانه.. ومن ثم لم يعودوا بعد ذلك يدهشون، وعلموا أن نشاط الجسد الطبيعي هو في الإسلام عبادة ما دام يبتغي به وجه الله ويلتزم فيه بطاعة الله وأوامره؛ فحياتهم كلها عبادة تشمل نشاط الروح والعقل والجسد ما دام كله متوجهاً إلى الله وملتزماً بما أنزل الله، وفي الوقت ذاته عبادة لا تعنّت الإنسان ولا تكلفه ما لا طاقة له به، لأنها تأخذ نشاطه الطبيعي. وهذا هو المفهوم الواسع والشامل للعبادة ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162].

مفهوم القضاء والقدر

يقول، رحمه الله، أن الإيمان بالقضاء والقدر جزء رئيسي من عقيدة المسلم، وهو من مميزات هذه الأمة في تاريخها الطويل؛ إذ كان يمثل في حِس الأجيال الأولى قوة دافعة بناءة محركة، والآن صار قوة سلبية هدامة مخذّلة حين انحرف هذا المفهوم عن صورته الصحيحة التي عاشت بها الأجيال الأولى وبنَت وعمرت وتحركت.

إن الفارق الضخم في حقيقة هذه العقيدة بين الأجيال الأولى والمتأخرة هو الفارق بين “التوكل” على الله و”التواكل” الذي حدث في عصر الانحسار، ثم عصر الانحدار، وهو فارق لا يقل ضخامة عن فارق لا إله إلا الله، وفارق الصلاة وسائر العبادات ما بين هذه الأجيال وتلك الأجيال..!

كانت القاعدة في حِسّ المسلم الأول وهو يجاهد ويكشف مجاهيل الأرض لنشر الدعوة، ولطلب العلم، وللسعي وراء الرزق.. كانت القاعدة في حِسّه أن أقْدِمْ وخُذ بالأسباب وتوكل على الله، وأنه لا تعارض بين التسليم لقدر الله، والعمل على تغيير الواقع السيء حين يكون. فكيف تحوَّل هذا الإقدام الى تقاعس وقعود في انتظار ما قدَّره الله..؟!

إن المسلم الحق لا يقل إيمانا بقدَر الله عن أي مؤمن به في هذا الوجود، ولكنه لا يغفل عن عِظم دوره في الأرض، لأن قدَر الله قد شاء أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض، وأن يُسَخّر له ما في السموات والأرض جميعا منه، وأن يكرمه ويفضّله على كثير ممن خلق، وأن يجعله ستارا لقدَره في الأرض.

وهو من جانب آخر لا يقل اتخاذا للأسباب، ولا إدراكا لقانون السبب والنتيجة عن أشد الناس اتخاذا للأسباب. ولكنها في حِسّه ليست حتمية، وليست نهائية ما لم يقررها قدَر من عند الله.

هذه العقيدة الرائعة التي أنشأت في حياة الأجيال الأولى من هذه الأمة من منجزات تشبه المعجزات.. ماذا أصابها خلال القرون، فانحدرت إلى مثل ما انحدرت إليه البوذية والهندوكية والرهبانية..؟

لقد أصاب هذا المفهوم ما أصاب “لا إله إلا الله” وبقية العبادات.. أُفرغ من محتواه الحقيقي، وأصبح صورة بلا رصيد.

مفهوم الدنيا والآخرة

يقول، رحمه الله، أنه لم يكن في حِس الأجيال الأولى ذلك الفاصل الحاد بين الدنيا والآخرة الذي أحسته الأجيال المتاخرة. لم يكن في حِسهم أن هناك أعمالا معينة هي للدنيا وحدها منقطعة عن الآخرة، وأعمالا أخرى هي للآخرة وحدها منقطعة عن الدنيا.

كان المفهوم الصحيح للعبادة هو الذي يحكم حياتهم، ويحكم تصورهم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]. وفي هذا المفهوم لا يمكن أن تنفصل الشعائر التعبدية عن العمل، ولا الدنيا عن الآخرة.

وإذا كانت الشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وصيام ذات صبغة روحية غالبة، فليس معنى ذلك أنها هي وحدها العبادة، ولا أنها للآخرة منقطعةً عن الدنيا، فلكل منها مقتضى لا بد أن تحققه في الحياة الدنيا. الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهّر النفس والمال، والصيام يدرب على التقوى.. وهكذا تصبح كلها للدنيا والآخرة في آن.

وإذا كانت الأعمال الأخرى التي يقوم بها الإنسان في حياته ذات صبغة عقلية أو حسية، فليس معنى ذلك أنها خارجة من نطاق العبادة بمعناها الواسع الشامل، ما دام يتوجه فيها إلى الله، ويلتزم فيها بأوامر الله. ومن ثَم فهي ليست للدنيا وحدها منقطعة عن الآخرة.

ويقول في موضع آخر أنه قد صارت حياة المسلم كلها؛ طعامه وشرابه، وكَيْله وميزانه، وبيعه وشراؤه، وصلاته وعمله، وحربه وسلمه.. كلها محكومة بدستور واحد هو شريعة الله.. حرامه ما حرمه الله، وحلاله ما أحله الله، ومباحه ما أباحه الله، والمكروه عنده ما كرِهه الله. ومن ثَم صار المتجه واحدا مهما اختلفت الأمور. واصطبغ السلوك كله بصبغة واحدة على اختلاف مفرداته؛ صبغة الالتزام بما جاء من عند الله. وصار هذا هو السمت العام لذلك الإنسان.

وتوحَّد ـ تبعا لذلك كله ـ طريق الدنيا والآخرة..

كيف يكونان طريقين منفصلين..؟ هل هذه لإله وتلك لإله آخر..؟ هل الإله الذي يحكم الحياة الدنيا بشريعته، غير الإله الذي يحاِسب الناس يوم القيامة ويجازيهم..؟ وعلى أي أساس يحاسبهم ويجازيهم..؟ هل ميزان الحياة الآخرة غير ميزان الحياة الدنيا..؟

مفهوم الحضارة وعمارة الأرض

يقول رحمه الله أن المنهج الإسلامي للحضارة هو مفهوم العبادة.. هو تحقيق غاية الوجود الإنساني التي حددها قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ هذه هي الغاية. وذلك هو المعيار. تحقيق غاية الوجود الإنساني هو الذي تنشأ عنه الحضارة في الواقع البشري. وهو المعيار الذي تقوم به صعودا وهبوطا، واستقامةً أو انحرافا.

وحين تختلف النظرة إلى غاية الوجود الإنساني تختلف النظرة إلى الحضارة، وتختلف النظرة كذلك إلى التاريخ.

إن الله، مِن رحمته، جعل النشاط الطبيعي الإنساني في جميع مجالاته؛ الجسدية والعقلية والروحية، عبادةً ما دام يتوجه به الإنسان إلى الله، ويستمد فيه من منهج الله. وهذا النشاط ذاته هو الذي ينشىء الحضارة؛ وما الحضارة إلا منجزات ذلك النشاط ـ الهادف إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني ـ البشري في مختلف المجالات.

وإن تحقيق الجانب الروحي للإنسان وحده، على حساب الجانب الحِسي المادي، وفي عزلة منه، لا يحقق غاية الوجود الإنساني كاملة كما بيّنها المنهج الرباني. وإن تحقيق الجانب الحِسي والمادي من الإنسان والحياة البشرية على حساب الجانب الروحي وفي عُزلة عنه، لا يحقق كذلك غاية الوجود الإنساني؛ بل يتجه إلى البوار والدمار.. ومن ثَم فكلاهما لا يشكل “حضارة” بالمفهوم الصحيح للحضارة. أو إنه يشكل “حضارة جاهلية” إن صح هذا التعبير.

أضواء على المستقبل

يجيب رحمه الله في هذ الجزء الأخير من الكتاب عن هذا السؤال: ماذا بعد أن وصلت الأمور إلى هذه الصورة، وبعدت الأمة كل هذا البعد عن حقيقة الإسلام..؟!

ثم يتوجه رحمه الله إلى الدعاة والغيورين على الأمة بنصائح غالية ونفيسة وهم في طريقهم لتصحيح المفاهيم وإحياء الأمة وبعْثها من جديد.

………………………

الهوامش:

  1. أخرجه النسائي في (السنن الكبرى) (3249)، وابن ماجه (1690) واللفظ لهما، وأحمد (9683) باختلاف يسير.

المصادر:

  • كتاب: مفاهيم ينبغي أن تصحح.
  • مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد علي، موقع تبيان.

اقرأ أيضا:

لقراءة الكتاب كاملا:

التعليقات غير متاحة