من القضايا ذات التأثير الكبير في حركة الدعوة إلى الله تعالى وجود الإسلام في حياة الناس أفرادًا وجماعات لأن الإنسان يرى أول ما يرى في الغير عمله، ويسارع في تصوره والحكم عليه بعد ذلك، ويربط دائمًا بين العمل وبين شخصية القائم به.

دلالة العمل على المنطق الفكري لصاحبه

إن الإنسان دائمًا تحركه نفسه، وتوجهه قناعته، وتتحكم فيه عقيدته وديانته.

ومن هنا كانت دلالة العمل على المنطق الفكري لصاحبه.

إن الجاد في الكسب والربح هو التاجر الذي يقوم بالبيع والشراء.

والمثقف الحر يعشق حرية الناس، ويعمل على نشرها وتحقيقها لغيره.

وحين نرى إنسانًا يصلي في المسجد فهو مسلم.

والمتخصص في الحرب والدفاع جندي يعيش بين المدفع والصاروخ.

إن دلالة العمل على فكر صاحبه، وثقافته حقيقة ثابتة وفي الإطار الإسلامي يجب أن يتاطبق عمل المسلم مع توجيهات دينه، وتعاليم ربه ليكون مسلمًا.

إن الإسلام جاء للتطبيق والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

ويقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52].

ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] ولقد برزت الأمة الإسلامية في عصرها الأول بصورتها الواجبة حيث كان الجميع صورة صادقة للإسلام، لدرجة أن من تأمل عملهم ومعاشهم وجد دينهم، ورأى أثره على الناس أمنًا، ونشاطًا، وتعاونًا، وإخلاصًا، ومن علم دينهم وقف على حياتهم ومعاشهم عاش المسلمون الأول الإسلام بكافة جوانبه، وبذلك تأسلم المجتمع كله، وصار الإسلام مجسدًا في الحياة.

من أهم جوانب التنشئة الإسلامية للأمة

عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس يربيهم بالإسلام، ويطمئن على خلوصهم لله، وصدقهم في الطاعة، فهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر البشر، ولذلك كانت ضرورة الاستمرار في التربية ليسكن الإيمان قلوبهم، ويكونوا عونًا لرسول الله في الالتزام والتطبيق، لقد استمر رسول الله يربيهم بالوحي حتى وصلوا إلى الذروة، وأصبحوا مثلا عاليًا للصناعة الربانية.

لقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على أسس راسخة، ومن أهم جوانب التنشئة الإسلامية للأمة ما يلي:

1- نشر العدل

العدل فضيلة تضمن لصاحب الحق حقه بعيدًا عن الظلم والعدوان، وينظر الإسلام إلى العدل نظرة شاملة تعم التشريع كله وبذلك تتضمن كافة العلاقات، والمعاملات الإنسانية سواء أكانت بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو كانت بين المسلمين وغيرهم يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

وكما يأمر الإسلام بالعدل نراه ينهى عن الظلم تأكيدًا للعدل، وقد كتب الله على الظالمين لعنته وسخطه بقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52].

وقوله عز وجل: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44].

ولقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعدل والاستقامة فقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].

صور من عدل رسول الله مع من أساء إليه

وقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم العدل وأمر به ومارسه في حياته كلها، ولعل قمة العدل أن يعفو صلى الله عليه وسلم عمن أساء إليه.

ترى هذا في العفو العام الذي أطلقه صلى الله عليه وسلم لكل من تصدى له بالعداء من قريش فأعلنها: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وهكذا بلا كلمة عتاب، ولا موقف عقاب، فهو فضل منه صلى الله عليه وسلم.

ونرى هذا في إعلان براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما فعله خالد بن الوليد يوم أن قتل أسرى بني جذيمة لاجتهاد اجتهده.

ونرى هذا في إعلانه يوم حنين، رغم ما فعله المشركون بالمسلمين، فلقد أمر المسلمين ألا يقتلوا امرأة ولا وليدًا.

ونرى هذا في عدم دعائه على ثقيف رغم محاصرتهم في الطائف فترة طويلة فلم يزد على أن يقول: “اللهم اهد ثقيفًا”.

ونرى أثر العدل في إطفاء نار العصبية متمثلا في أكثر من موضع.

رأيناه بعد الفتح حينما استغلت خزاعة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت رجلا من هذيل لثأر بينهم في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم وهو في حالة من الغضب الشديد لهذا الفعل: “وإن أعتى الناس على الله عز وجل ثلاثة: رجل قتل في مكة، ورجل قتل غير قاتله، ورجل طالب بثأر في الجاهلية، وإني والله لأدي هذا الرجل الذي قتلتم”. فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيناه في حجة الوداع وهو صلى الله عليه وسلم يضع تحت قدمه كل عصبيات الجاهلية وأولها عصبية بني هاشم.

ونرى العدل في إقامة شرع الله على القريب والبعيد على حد سواء، فقد سرقت امرأة من بني مخزوم وتحركت قريش لستر هذه المرأة ومنع إقامة الحد عليها مخافة العار فكلموا أسامة بن زيد بن حارثة لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لأسامة: “أتشفع في حد من حدود الله”. ثم قام وخطب فقال: “أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.

وبما أن العدل من مبادئ الإسلام العظمى ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول العاملين بها، كان الله تعالى يصوبه إذا أخطأ في حكم أخذ فيه بظاهر دعوة الناس، ونضرب مثلا على هذا وهو تبرئة اليهودي الذي اتهم بالسرقة بدون وجه حق، وبما أن رسول الله لا يعلم الغيب فقد وافق المدعين على قولهم، فأنزل الله من عنده التقويم والحكم العدل فقال سبحانه وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 105-107].

2- تحقيق القيم النبيلة

إن غرس القيم من أساسيات التكوين والتنشئة لأنها مرتبطة بالنفس الإنسانية مع ما فيها من تنوع ونزوع إلى الشهوة والهوى.

وكان القرآن الكريم يربي المجتمع المسلم ويحاول وضعه في إطاره الإيماني الصحيح.

إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبليغها هي قمة التجرد لله، والخلوص لدينه، وقمة المفاضلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة وهي قمة النبل، والخلق، والحياة.

وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرس القيم عند أصحابه قبل الحاجة إليها لأن وجود الدواء حين وجود الداء أنجع فقد خاف المسلمون من الفقر نتيجة فتح مكة ونتيجة منع المشركين من المجيء إلى مكة بعد البراءة منهم، وأن المواسم التجارية ستقطع فنبههم القرآن الكريم ورباهم على أن الرزق بيد الله الخالق لا بيد خلقه يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] وقد ساعدهم يقينهم بقدرة الله وعلمه وحكمته على طرد ما اعتراهم من خوف قبل نزول الآية.

ولما أعجب المسلمون بكثرتهم في غزوة حنين حينما صاروا أثني عشر ألف رجل، وقالوا معجبين بكثرتهم: لن نغلب اليوم من قلة، وذلك نسيان لقيمة الإيمان والإخلاص لله فكان أن انهزموا يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 28-27] فعادوا إلى إيمانهم، وتابوا عن تصوراتهم فنصرهم الله تعالى.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليتخلى عن الله ناصره وكافله، فهو يعلم المسلمين أنه عبد من عبيد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يستمد قوته إلا من الله، ومع هذا يثبت ولا يفر، ويصمد ولا يتخاذل، فكان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلا: “اللهم بك أحاول وبك أصاول، وبك أقاتل”.

وهكذا يكون الموقف سببًا لتقويم الانحراف الذي يظهر في وسط المجتمع.

ولما أحب المسلمون القعود عن الخروج إلى تبوك، أحبوا القعود في وقت يطلب فيه السكون والدعة، فالثمار قد حان قطافها، والأشجار الوارفة تمد المستظلين بها بنسماتها الساحرة كل هذا كان يدعو للقعود، ولا يدعو إلى الأسفار المرهقة، وقطع الصحاري والفيافي الحارقة المهلكة، ومع هذا يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين الخروج رغم كل ذلك، فيجتمع له في حدود ثلاثين ألف مقاتل، ليكون أكبر جيش يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحينما نشاهد الذين تخلفوا عن هذا الجيش لأنهم إما جماعة حبسهم العذر فلم يجدوا ما يحملهم، وإما منافق قد كشف عن نفاقه أو قدم عذره فقبل، أو مسلم صادق لم يقدم عذرًا فتوجهوا إلى الله تائبين فتاب عليهم ونزل قول الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117-118].

3- تعود الصبر والتحمل

من أهم خصائص المسلم الصبر الذي هو زاد الطريق في الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالصد والرد، وبالإيذاء والابتلاء.

والصبر أنواع كثيرة:

الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها.

والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم وأثرتهم وغرورهم.

والصبر على جرأة الباطل، ووقاحة الطغيان وتصعير الغرور والخيلاء.

والصبر على قلة الناصر وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعة الكرب والضيق.

ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة هو أول من يمثل هذا الصبر بمعانيه هذه كلها، وكل خطوة من خطواته تمثل هذا الصبر تمثيلا صادقًا.

صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبر كله في هذه المرحلة التي كون فيها الأمة فهناك صبر على جفاء الأعراب وطمعهم في الأموال، وحرصهم على المكاسب، فكان يعاملهم على قدر عقولهم فكان بهم رحيمًا، ولهم مربيًا ومصلحًا وقد عنفهم الله سبحانه على جفائهم في قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97-98].

ومع هذا حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتفع بهم ويخرجهم من طباعهم هذه إلا أنهم ما استفادوا كثيرًا من هذه المواقف.

وهناك الصبر على إيذاء النفوس الملتوية حيث قال أحد المنافقين عند تقسيم غنائم يوم حنين: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فلم يزد صلى الله عليه وسلم أن تغير وجهه وقال: “فمن يعدل إن لم يعدل رسول الله يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”.

وهناك الصبر في ميدان المعركة أمام استعلاء الباطل، فقد تراجع المسلمون في أحد وحنين، ولم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بموقفه هذا استطاع أن يجمع المسلمين مرة أخرى ويحقق لهم النصر.

وهناك صبر مع المسلمين الذين تراجعوا في المعركة فلم يعنف، ولم يعاقب أحدا ممن فر عنه حتى حينما طالبه بعض المسلمين بأن يقتل الفارين لم يستجب لهذا المطلب لأنه صلى الله عليه وسلم كان يربي أمة، وينشئ جماعة ولذلك اكتفى بما يبني، وبما يفيد، وليس هو العقوبة في هذا التوقيت من الزمان.

4- تحقيق التكافل بين الناس

وعلى الرغم من أن الإنفاق والعطاء معلم بارز في الشخصية المسلمة؛ لأنه يتكرر كثيرًا في القرآن الكريم كله وهو يدعو إلى الإنفاق، ويجعله جزءًا من المتطلبات التي لا تنفك عن المسلم، ويجعل الزكاة -وهي العطاء الواجب- ركنًا من أركان الإسلام، فلا إسلام إلا به.

على الرغم من هذا كله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرن الأمة المسلمة باختبارات عديدة لتعميق هذه القيمة العالية، قيمة الإنفاق والعطاء دون مقابل عاجل حيث جعلها إقراضًا لله يوفيه لصاحبه يوم القيامة.

إنفاق رسول الله وحثه على النفقة

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ في أكثر أوقاته من البخل، ويطلب من المسلمين أن يجعلوا هذا التعوذ في وردهم الصباحي والمسائي.

وكان حينما تأتيه أموال الغنائم ينفق يمينًا وشمالا، إنفاق من لا يخشى الفقر، ويرى المسلمون منه هذا السلوك.

وكان يعطى للناس، يتألف به قلوبهم، فيجذبهم إلى الإسلام من خلال عطائه، حتى أن أحدهم يكون مبغضًا للإسلام ولرسول الله قبل العطاء، فما أن يجد السخاء يجري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تنتفخ كوة من قلبه على الإيمان، فيقبل إقبالا صادقًا ويحسن إسلامه.

ومع هذا فهو صلى الله عليه وسلم يترك أقوامًا ولا يعطيهم، يكلهم إلى إيمانهم وتقواهم؛ لأنه يريد أن يربي هذه النفوس على الارتفاع عن هذه المظاهر المادية الزائلة فقال صلى الله عليه وسلم: “فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير”.

ترسيخه رسول الله حب العطاء والسخاء في نفوس أصحابه

وبعد حنين، وبعد أن قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين المسلمين، جاءته هوازن مسلمة، فأراد أن يرجع إليهم ما أخذ منهم من الغنائم التي قد وزعها بين المسلمين، وفي الوقت ذاته أراد أن يغرس في نفوس المسلمين التخلي عن منحهم الدنيوية بطواعية ليربي فيهم حب العطاء والسخاء، فبدأ صلى الله عليه وسلم بنفسه وبأهله، فقال وهو يخطب في الناس: “أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم”. فتسارع القوم من المهاجرين والأنصار يتنازلون عن رغبة صادقة بما هو لهم … إلخ.

فكان عمله صلى الله عليه وسلم هذا مثالا للتربية العملية التي جعلت الناس يتسابقون إلى العطاء دون تعلق بعرض من الدنيا زائل، ومن لم يستجب من الأعراب استوهبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عوض سيعوضهم به.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع مآرب النفس الإنسانية ويقودها إلى الخير، فلما بلغه رغبة بعض الأنصار أن يكون لهم مثل ما أخذه المؤلفة قلوبهم من العطاء بعد الغنائم، لم يستجب لهذه الرغبة وإنما عمل على تطهير نفوس الأنصار من هذه العلائق، فجمعهم وخطب فيهم، وبعد أن استثار فيهم كوامن نفوسهم قال لهم: “إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم، لو سلكت الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار”.

مبادرة الصحابة وتسابقهم في الإنفاق والعطاء

ولقد وجدنا أثر هذه التربية في وسط المسلمين في مواقف عديدة، ويكفي هنا أن نشير إلى ما حصل قبل غزوة تبوك لأنه يمثل ظاهرة حسنة هي ظاهرة الإنفاق والعطاء التي لم تكن مفروضة على الناس من قبل وإنما كان حثًّا للجميع أن يقدموا بين يدي رسول الله ما تجود به أنفسهم لتجهيز الجيش الخارج لملاقاة الروم في تبوك وقد اكتملت جوانب الظاهرة هذه بأن الذين تقدموا للإنفاق ليسوا الأغنياء فقط الذين دفعوا ما جهز به الجيش، وإنما أقبل الفقراء والنساء فدفعوا ما يمتلكون حتى أن الواحد منهم كان يأتي بنصف صاع من طعام، فهذا ما يمتلكه فيدفعه إلى جسم هذا العطاء الضخم، ومن ليس لديه أي شيء ينفقه يقوم من الليل باكيًا ثم يقول: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها مال أو جسد أو عرض وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي بهذه الصدقة، فأعلم صاحبها بأنها قد قبلت في الزكاة المتقبلة.

وهكذا تجهز جيش بأكمله بالجهود الفردية التي تحولت إلى بحر زاخر من العطاء إن هذا الجهد المبذول أخرج خير أمة في عالم الناس ولذلك انتصر الإسلام بهم، ووصلت الدعوة معهم إلى كل مكان وصلوا إليه.

من ثمار التطابق بين الإسلام والمسلمين

إن التطابق بين الإسلام والمسلمين في العصر الأول جعل المسلمين جميعًا دعاة، الأمر الذي أدى إلى انتشار الإسلام في العالم كله برؤية الصورة الإسلامية خلال حركة الفتوح؛ لأن الإسلام كان ظاهرًا مع الجنود، والتجار، والقراء، بكل ما فيه من سمو وخلق.

إن التطابق بين الإسلام وعمل المسلمين يساعد على تنشئة الأجيال المسلمة؛ لأن الطفل المسلم يرى الإسلام من أبويه كما يراه في الطريق وفي المدرسة ومع الزملاء ومع كل من يختلط بهم، وبهذا يفهم المسلم الإسلام ويطبقه ويؤدي هذا التطابق إلى وحدة الأمة لأن كل فرد فيها يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

ويؤدي هذا التطابق إلى جمال الإسلام في كل تعاليمه لأن الالتزام العام بالإسلام يصبغ المجتمع به، الأمر الذي يجعل الناس متآلفين معه راضين به، سعداء بتطبيقه.

ويؤدي هذا التطابق إلى إعلام الآخرين بحقيقة الإسلام من خلال التطبيق، وحين ينطلق الدعاة إلى هؤلاء الآخرين يجدون الأرض ممهدة للدعوة، والقلوب مستعدة للاستجابة والإيمان.

من آثار التناقض بين الاعتقاد والسلوك

إن التناقض بين الاعتقاد والسلوك لا يقره الإسلام ولا يرضى به المسلم، ولذلك يعاتب الله المؤمنين إذا حدث هذا الانفصام في حياتهم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] إن هذا الانفصام سبب يؤدي إلى الضياع والهلاك وقد حدث ذلك في الأمم السابقة يقول الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79].

وحين ننظر إلى العالم الإسلامي اليوم من زاوية التطابق بين الإسلام وعمل الناس ندرك أسباب تخلف الأمة وأسباب انصراف الناس عن الإسلام، ونعرف سبب العجز عن توجيه الدعوة إلى الآخرين بصورة حسنة مقبولة.

إن التنافر الحاصل بين تعاليم الإسلام وبين سلوك الناس يسيء إلى الناس أولا لأنهم يتحركون بلا هوية، ويعيشون بلا فكر، ولا أصول، ولذلك تراهم يشكلون حياتهم من عادات الآخرين وسلوكهم، بعيدًا عن دينهم، مكتفين بالمظهر الفارغ فلا هم جزء من الآخرين، ولا هم جزء مفيد في جماعة المسلمين. ويسيء ثانيًا إلى الدعوة لأن الآخرين سيقولون: لو كان الإسلام خيرًا لفعله أصحابه، ولو كان صوابًا لتمسك به بنوه، بل رأيناهم يتهمون الإسلام ويقولون: إن تخلف المسلمين نتيجة مباشرة لتعاليم دينهم، وهي تهمة باطلة لغياب تطبيق الإسلام عن حياة المسلمين.

التناقض بين الإسلام وعمل المسلمين

إن التناقض بين الإسلام وعمل المسلمين يؤدي بالمسلمين إلى التخلف لأنهم بإعلان أنهم مسلمون ولا إسلام فيهم خاصموا غير المسلمين باتخاذهم نهجًا وطريقًا خاصًا بهم، وبتركهم الإسلام صاروا زبدًا أجوف لا يسمن ولا يغني من جوع وبخاصة في عالم تعددت فيه الثقافات والحضارات.

إن العالم المعاصر يتميز بتعدد التكتلات، وتنوع التوجيهات وكل منها يتفاعل مع غيره، فلديه ما يعطيه، وعنده قابلية الاستفادة من غيره في إطار ثقافته وتوجهه.

وهذا التفاعل ضرورة لمسيرة الحياة، ولا بد لها من فكر نبيل تسنده قوة عادلة ولا بد له من واقع يعطي ويأخذ، ويفيد ويستفيد.

والمرء يتساءل بكل تجرد ماذا عند المسلمين اليوم ليجذب الآخرين إليهم؟

لقد فرط المسلمون في كنوزهم، وأهملوا روح السبق والتنافس، وظهروا بأفكار ليست هي واقعهم وحياتهم، وبذلك أساءوا إلى نبل الأفكار، ووضعهم الناس في مؤخرة الصفوف، وتصوروهم جزءًا من عالم الظلام.

لقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم أمة، وأنشأ قوة، وأوجد للمسلمين حياة بعد هوان، وأعماله وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم دروس واضحة في هذا الطريق لمن يريد.

لو أردنا للدعوة أن تنجح، وأردنا لأنفسنا أن نتقدم فالطريق واضح، وهو ضرورة التزام المسلم بإسلامه بصورة مطلقة، وعودة الأمة إلى الله عودة جميلة حميدة وحينئذ سوف يفرح المؤمنون بنصر الله، والله على كل شيء قدير.

المصدر

كتاب: السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني، أحمد أحمد غلوش، ص709-720.

اقرأ أيضا

الاستقامة مفهومها وأحوالها

من عبرة التاريخ .. التفرق الذي يسبق كل سقوط

الأمن النفسي والتزام الأحكام الشرعية .. الأمن على الدين

مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية

مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (2-2) المسؤولية الفردية والتضامنية

التعليقات غير متاحة