تأملت في تلك السبابة المجاهدة وهي تلوح بقوة قبل الاستشهاد، ثم تعالت لتصبح سجدة، ثم تعالت لتصبح قدوة تسري بين ملايين المسلمين وربما ملايين البشر.
مقبل غير مدبر
في البداية ظلت يده اليمنى تنتفض، ظل يلوح بها وبسبابتها وكأنه يقاتل بها عدواً.. كأن یده تهتف ولسانها هو السبابة، السبابة الحية النابضة.. تلك السبابة التي كانت تقاتل على الزناد، ولكن لسبب ما لم يكفه التلويح بها فعزم وأتمها سجدة، ثم طارت السجدة ولفت الأمة!
أحياناً تبرز الأحداث قادة لم يكن أحد يعلمهم ولا يعلم ملكاتهم، يبرزون وقت أزمة بتصديهم لها وإحداثهم أثراً معها، فيعرف الناس قدرهم ويلتفون حولهم، ولكن أن يحدث هذا الأثر بلحظة رحيلك.. فهذا أمر مختلف.
أن تحدث الأثر بموتك معناه أن الأثر ليس من صنعك، إنه من صنع من قدر لك المشهد، من قدر لك طائرة تصورك، بيد عدوك..
سجدة رسم بها خارطة الطريق للأجيال
هل كان يعلم هذا الشهيد أن الله سيجري فتحا على يديه أم كان يتخيل وجسده ينتفض انتفاض الموت أن هناك بالأعلى شيئاً ينقل خاتمة حياته للملايين؟ لماذا هو بالتحديد؟
لماذا هذا الذي لم نعرف أنه ألف كتاباً أو أسس جماعة أو تياراً أو قاد حركة أو مهد لشيء؟ من هذا؟ لماذا كتب الله لهذه السجدة أن تقرع قلوب الآلاف قرعاً قوياً غريباً عميقاً، لا تقرعه خطب ولا مقالات ولا كتب كثيرة؟
كل من عالج هذا الفيديو يعلم أنه أمام مؤشر لقياس الذات، كلما تذكره وقف عنده وقفة الحزين المتوجس ..هل أستطيع يوماً أن أبلغ هذا المقام؟
إن احتسبنا هذا الساجد ولا نزكي على الله أحداً، وإن احتسبنا تلك السجدة كأنها مصباح قوي صاف ولا نزكي على الله عملاً، فإن تلك البصمة القلبية النادرة لم تكن لتحصل إلا لمن يرضى الله عنهم فيأذن لهم أن يهدي بهم غيرهم.
كنا نربى في المسجد على أن نكون ذوي أثر، وأن يهدي الله على أيدينا، وأن ثواب وحسنات كل من هداه الله على أيدينا في موازيننا، وكانت ولا تزال صورة هذا الذي يفتح الله على يديه في نفوسنا لها جمال، مزخرفة ومبروزة داخل برواز أنيق وجميل، زخارف جميلة وشريفة، منها مثلاً العلم الشرعي الواسع، ومنها الشخصية الكاريزماتية الجاذبة الجامعة، ومنها أيضاً الحركية والنشاط العالي والهمة الظاهرة الدالة على الهم والبذل والصدق في المسعى، وكلها موازين دالة وجاذبة، إلا أن هذه الموازين لا تكفي وحدها لتفعل مثل تلك السجدة، بل وكما رأينا ليست حتى شرطاً لأن تفعل!
هذه الصورة المزخرفة ليست هي أساس ما يرقى بالعبد في سلم الشرفاء، الشرفاء المأذون لهم بأن يكونوا أسوة حسنة!
إنهم المجاهدون، الحذرون ليس من الموت، ولكن مما قبل الموت..
لنعد قليلا إلى السابع من أكتوبر، ولفيديو آخر لم نر صاحبه ولكننا سمعناه بعد أن سمعنا الرصاصة التي اخترقت جسده، سمعناه يسرع بلفظ الشهادة وكأنه يخاف ألا يسعفه القدر لإكمالها، وقد كان مصيباً فقد سقط سريعاً وسكن!
تساءلت لماذا يسرع هكذا بلفظ الشهادة، أليس على يقين أن الموت محيط به؟ وهو خارج له أصلا؟ وربما مات بصاروخ لن يسمع صوته ولن يبقي له لساناً يلفظ به كلمة.. لماذا ظل الساجد ينفض يمناه بالسبابة ثم لم تكفه فتحامل على ظهره المثقوب فأتمها سجدة؟
هل كان خائفاً ألا يختم حياته بثبات مثلما خاف سابقه الأول؟
هل هو تسارع وحرص خوفاً من سوء الخاتمة!
إنهم المجاهدون، الحذرون ليس من الموت، ولكن مما قبل الموت..
إنه الجهاد، الذي ينزعك من حياتك نزعاً ويرسم لك طريقاً يريده هو، يكتب عليك خطوات لا تعلم ما يليها إلا أن تستئزر بالصبر والثبات والتسليم!
هذا الجهاد ينزع كل مجاهد من تلك الصورة ذات البرواز والزخارف التي يتمنى كل منا وإن كان صادقاً أن يعيشها، فمن ذو همة لا يريد أن يكون عالماً مؤثراً قائداً مصلحاً؟
من ذو همة لا يريد أن يفعل أعظم عمل فينال أعلى مرتبة مرتبة العلم والعلماء.. العلماء الذين يربون الشهداء، أهل العلم.. العلم بما فيه من صبر وبحث وطعم جميل يعرفه من ذاقه، البحث عن الشفاء من سؤال، الفضول الطيب وري الروح بكل جديد، ولذة الإنتاج بالبحث والاستنتاج، هذا البناء والتسلسل الشاق اللذيذ الذي يرى المرء ثمرته في نفسه التي ترقى رقياً قيماً فيسعد بجهده وحق له أن يسعد، ويشبع قسماً من حاجات النفس الأساسية، وهي تحقيق الذات والقيمة في هذه الدنيا، وهي هدف شريف مشروع، راق وعال.. فمن كالعلماء؟ النجوم اللامعة، إلا أن هذا عند آخرين درجة ثانية وليس الدرجة الأولى.
حتى هذه تركوها!
تركوها لأن الله طلب منهم أن يكونوا جنوداً في ثغر آخر، فحتى ثمرة تحقيق ذاتك لن تراها في هذه الدنيا، فأنت بائع نفسك بما فيها من آمال وأهداف، أنت وقف لله يضعه أينما شاء ويقبضه وقتما شاء!
ولذلك بكى سيف الله المسلول عندما أمسك المصحف قائلاً: شغلني عنك الجهاد في سبيل الله.
إنهم جنود الزمان، يدورون حيث يدور الإسلام، إن طلبهم جنوداً كانوا جنوداً، وإن طلبهم علماء كانوا علماء، إن طلبهم استشهاديين كانوا، وإن طلبهم مفاوضين كانوا، لا طموحات شخصية ولا اجتماعية، كل هذا مؤجل إلى حين.. حين لقاء الله.
المصدر
مجلة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، د. أحمد شتيوي.