إن من حقق درجة التسليم المطلق، بلا معارضة، ولا ممانعة، فعليه أن يحمد الله على هذا، ويجعله امتحاناً واختباراً لإيمانه، وإلا فداء الاعتراض داء عظيم، وقليل من خلق الله هم حقاً من ذاقوا طعم الإيمان.
أهمية معرفة أنواع الاعتراضات التي يعترض بها من لم يحقق الرضا.
جاء من الناس من يعترض على ما أنزله الله، أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنواع الاعتراض على ما جاء من عند الله، والتي تقدح في الرضا، وهي في هذا العمل القلبي العظيم كثيرة متفاوتة منها، وفي الحلقة السابقة تكلمنا على جملة من هذه الاعتراضات [أنواع الاعتراضات التي تقدح في الرضا(1)] ونكملها بمشيئة الله في هذه الحلقة.
الاعتراض بالأقيسة الفاسدة والأهواء
هناك نوع من الناس -وهذا واقع في هذه الأمة مع الأسف الشديد كثير جداً ولا حول ولا قوة إلا بالله- يعترضون بنوع آخر في الاستدلال، ومعرفة الأحكام، وتراهم يعترضون على ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتراهم يبلغهم الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيردونه، أو يتأولونه بكلام فلان من أئمة المذاهب أو بقياس كما يسمى، أو بالنظر، أو بالعقل، إلى آخره، فيردون الحديث، ويعترضون على ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما شرع من الدين بالقياس، أو بالرأي، أو بالهوى، أو ما يسمونه بالقواعد المنطقية، أو القواعد الكلية، أو ما أشبه ذلك من المسميات، وهي مخالفة لما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليست مأخوذة عنه، ولا متلقاة عن هديه.
فهؤلاء القوم قد ابتليت بهم هذه الأمة حتى قال قائلهم: سبحان الله! جعل المذهب هو الحكم! فأي حديث يخالف المذهب فهو إما ضعيف، أو موضوع، فلا يؤخذ به، ولا يعتد به، أو منسوخ، وأن العمل يجب أن يكون على المذهب، فتعصب هؤلاء المقلدون كلٌ لمذهبه الذي ينتسب إليه، ومزقوا هذه الأمة، وفرقوها حتى وقع القتال، وأريقت الدماء، وكم من دماء أريقت من أجل حكم فرعي، فلو اتفق الجميع على قبول الحق والإذعان إلى ما شرع الله، لكانوا جميعاً على أمر واحد كما أمر الله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103] وإن اختلفوا في فهمه؛ فكل منهم يعذر الآخر باجتهاده، ولكن الهوى والتعصب جعلهم يتقاتلون، فكم وقع من قتال في خراسان ، وما وراء النهر بين الشافعية والحنفية، وكم وقع في اليمن بين من ينتمي إلى الفقه الهادوي -أي: الزيدي- وبين الشافعية، فهذا دليل على التعصب المقيت، الذي لو تأمل هؤلاء قليلاً لوجدوا أن أئمة المذاهب ينكرون هذا، ولا يقرونه، وكل منهم كان مجتهداً يريد الحق، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في كتابه الجليل “رفع الملام عن الأئمة الأعلام “.
الاعتراض بالكشوفات والرؤى والأحلام
يوجد نوع آخر من الاعتراض على الدين، والعبادة والشرع الذي شرعه الله، بالخيالات وبالكشوفات، وبالمنامات، وبالرؤى، وبالأحلام، وما أشبه ذلك، وهذا حال الصوفية كما هو حال المتعصبة من الفقهاء، تقول لهم: إن الله تعالى حرم هذا، أو قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقول: الشيخ الفلاني نام ورأى الخضر عليه السلام في المنام وقال هذا حلال، سبحان الله! ومن قال لك بأن الأحلام والمنامات يعمل بها في معارضة ما جاء من الوحي في كتاب الله؟! ومن قال لك: إن هذا الذي في المنام هو الخضر، لماذا لا يكون الشيطان؟! وهل يحق للخضر أو كائناً من كان، أن يشرِّع غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أن يحدث في الدين ما ليس منه؟! بل تصل ببعضهم الجرأة -عياذاً بالله- إلى القول بأنه يرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، فبعضهم يقول: مناماً ثم يتدرج ويقول: يقظةً، ويقول: هذا حلال وهذا حرام، يعلِّمه أمراً غير ما نعلمه نحن في الكتاب والسنة، وهذا اتهام عظيم شنيع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ادخر شيئاً من الدين، أو أنه لم يعلِّمه للعالمين، واختص به هؤلاء الضالين المضلين في آخر الزمان.
ولا ريب أن هذا شيطان إن جاءه، وإلا فهم كاذبون بما يدعون، وإنما يريدون أن يعترضوا على ما ثبت من الدين بهذه الأباطيل، وهذا إفك وافتراء، سواء أكانت أحلاماً، أم منامات، أم خيالات، أم كشوفات، كما يسمونها.
بل إن أشد من ذلك كله الذين يعتقدون من أئمة الصوفية أن الله تعالى يخاطبهم بنفسه، ويتكلم معهم، ويناديهم فحقيقة هؤلاء أنهم مدعون للنبوة! لأن من كلمه الله تعالى بلا واسطة، فقد أصبح نبياً بلا ريب، فهؤلاء يدعون النبوة، وحقيقة أمرهم أنهم يريدون القول بأنهم أنبياء، ولا يؤمنون بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعياذ بالله- فلذلك كم تقرأ في كتبهم أن الشيخ الفلاني كان يعمل من الأعمال التي لا تجوز ولا تحل، وذلك بسب أن المنادي ناداه فقال: يا عبدي فلان هذا حلال، فاستحله وفعله! فهذا شيطان اتخذه عبداً له، وناداه وأمره بأمر يخالف الشرع، ليخرجه من الدين بالكلية، ويتوهم هذا المخدوع الضال -وربما كان مفترياً ومضلاً- أن المخاطب له هو الله تبارك وتعالى!
وهذا من الدجل المنتشر في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وإن كان ولله الحمد قليلاً في هذه البلاد الطيبة -إن شاء الله- وقد بدأ نور الخير، والسنة، واتباع منهج السلف الصالح ، ولله الحمد ينتشر في كل مكان، ولكن هذا مرض موجود في الكتب، وفي واقع الحياة، وهو من أسوأ أنواع الاعتراض على ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مناف للرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً.
الاعتراض على حكمة الله وقدره
من أنواع الاعتراض الاعتراض على حكمة الله، وعلى قدر الله، وعلى أفعال الله تبارك وتعالى.
وهذا قديم ومنتشر بين الناس – إلا من وفقه الله للرضا ولحقيقة الرضا- وأكثر المعترضين كفارٌ وهم الذين اعترضوا على أصل الدين، وأصل القدر، وأصل الاختيار، وقدوتهم في ذلك إبليس اللعين، الذي اعترض على أمر الله تبارك وتعالى له بالسجود لآدم، فجعل ما أمره الله به مخالفاً ومنافياً للحكمة، لأنه يرى أن النار أفضل من الطين: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]، فيرى أن عنصر النار أفضل، فمعنى قوله: إن من الحكمة أن يسجد الطين للنار وليس العكس!
وكثير من الناس يقعون في هذا وفيما هو أشد منه وهم يعلمون أو لا يعلمون، وبهذا طرده الله من رحمته، وجعل عليه لعنته إلى يوم الدين، وأصبح رأس الكفر في الدنيا، والمشركون تعلموا منه هذا النوع، فاعترضوا على أن يكون الرسول بشر: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) [المؤمنون:47]، وفي الآية الأخرى: (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا) [يس:15].
فهم يريدون أن يكون الرسول المرسل إليهم ملكاً، أما إذا كان رجلاً فلا، والله تعالى له الحكمة العظيمة في ذلك (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) [الأنعام:9]، حتى تكون القدوة، وتكون الأسوة، فيكون هذا بشر، وهذا بشر، فلو كان ملكاً في الحقيقة لجعلناه بشراً في الصورة، حتى يكون من جنسهم، ويخاطبهم، ليقتدوا به وهو من جنسهم، أما لو جاءهم ملك لقالوا: أنت ملك، تصلي لأنك ملك أما نحن فبشر لا نستطيع، وإن تترك الشهوات فلأنك ملك، أما نحن فبشر فلا نترك الشهوات والمحرمات… وهكذا.
فيعترضون على حكمته وقدره، ولهذا يقول الله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68]، فيبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ليس لهم أن يختاروا أن يكون الرسول بشراً، أو ملكاً، أو أن تكون الرسالة في رجل دون الآخر كما حكي عنهم: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31].
فاعترضوا على عدم جعل الله تبارك وتعالى هذه النبوة وهذا الوحي وهذا الذكر ينزل على عروة بن مسعود ، أو الوليد بن المغيرة ، على رجل من القريتين -مكة والطائف – أما أن ينزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس عنده أموال، أو وجاهة في قريش، أو عنده عبيد و جواري، ولا كذا، فاعترضوا على حكمته؛ ولهذا يقول الله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الزخرف:32]، فالمعيشة الدنيوية هذه يقسمها الله تبارك وتعالى بين خلقه (كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء:20]، أما النبوة، وأما الرحمة فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يحق لكم أن تعترضوا على اختيار الله تعالى، وتقولوا لو أنه اختار فلاناً، ولو أنه نبَّأ فلاناً لآمنا به، أما وقد نبَّأ فلاناً فلا!
الاعتراض على الأتباع
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ) [الشعراء:111]، كما قال قوم نوح، وقريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: وهذا من اعتراضهم على أتباعه وأتباع دينه، لذا نهاه ربه عن ذلك فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام:52]، فهؤلاء الذين يرجون وجه الله، هم خير عند الله تبارك وتعالى وهم أفضل من أولئك، ولكن الله تعالى جعل بعضهم لبعض فتنة وهو أعلم بالشاكرين، فجعل إيمان الضعفاء فتنة؛ لكي لا يؤمن الكبراء وهذا من حكمة الله عز وجل.
الاعتراض على القرآن
فقالوا: لو أنه نزل جملة واحدة، فهم لا يريدونه أن ينزل بحسب الأحداث، ومنجماً بحسب الوقائع، بل يريدونه أن ينزل جملة واحدة، فرد الله تبارك وتعالى على هذا الاعتراض، وبين أن الحكمة من ذلك التثبيت، ولكي لا يأتوا بمثلٍ إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، وهناك أنواع كثيرة من أنواع الاعتراض التي اعترض بها الجاهلون والمشركون.
اعتراض المنافقون وأصحاب الشهوات على دين الله
وأيضاً قد اعترض المنافقون، الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهم يعترضون دائماً على أوامر الله، فأصحاب الشهوات في كل مكان، وفي كل زمان، لا بد أن يعترضوا على دين الله، ولا يرضيهم ذلك، فلذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط).
فهذه عبوديته: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، وهذا ما فعله المنافقون، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة:58].
فترى المنافق وأصحاب الشهوات إذا تحققت شهواتهم ورغباتهم، قالوا: أحسنت وهذا حكم طيب، وأنت حقاً رسول الله، وإن كان قاضياً فحكم له قالوا: هذا القاضي يقضي بالحق: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور:49]، فإن حكم لخصمه وكان هو المبطل، وحكم القاضي بالحق قال: هذا مخطئ، أو مرتشٍ، أو كذاب، فأهم شيء عندهم أن يكون تبع لأهوائهم، وليس تبعاً للحق، فإذا كان لهم الحق وعلموا أن الحكم سيكون لهم، جاءوا وقالوا: لا نريد أن يحكم بيننا إلا رسول الله، أما في وقتنا الحالي فيقولون: نريد صاحب دين، وإيمان، وتقى حتى يحكم بيننا؛ لأنه يثق بأن البينات التي عنده ستجعل الحكم له؛ لكنه لو كان في الحالة الأولى يقول: لا نريد فلاناً، كما قال المجرمون من قبل: نذهب إلى كاهن جهينة أو إلى كعب بن الأشرف: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء:60]، فقالوا: لا نذهب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل نذهب إلى كعب لأنه يأخذ الرشوة.
كما أن كثيراً منهم يعترضون على قدر الله، إن أعطاهم الله ووسع عليهم وأنعم عليهم، فيقولون: أكرمنا الله وأعطانا الله، وربكم لا يعطي إلا من يحب، وجعلوا ذلك دليلاً وعلامة على أن الله يحبهم، وأن أعمالهم صالحة وطيبة، ونسبوا ما يأتيهم من مال إلى عبادتهم، وإخلاصهم، وصدقاتهم، ونفقاتهم، وما علموا أنه استدراج!
وأما إذا قدَّر عليهم أرزاقهم، وضيق عليهم، أو منعهم وإن كان بعد عطاءٍ، أو إذا أمرضهم وإن كان بعد شفاء وعافية قالوا: (رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر:16] قالوا: كيف تعذبني؟! ماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟ أو لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟! فيعترضون.
وأكثر ما يعترض الخلق قديماً وحديثاً على أقدار الله عز وجل، ويظن أنه غير أهل لأن يبتليه الله بمصيبة، أو بفقد مال، أو بفقد حبيب، لأنه يرى أنه من أهل الصلاح والدين، ولو كان هذا في الفجار، أو في غيره من الذين يفعلون ما يفعلون لكان هذا أحق بهم وأجدر! ولا يعلمون أن الله تبارك وتعالى يبتلي بالخير والشر، وأن الله عز وجل يمتحن من ينعم عليه ليرى أيشكر أم يكفر ويمتحن من يأتيه بما لا يرضى به ليرى الله أيصبر أم يجزع ويقنط، ومن هنا لا بد من الرضا بأقدار الله تبارك وتعالى.
الاعتراض على حكمة الرسول
من ذلك أيضاً: الاعتراض على حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يكن فيه اعتراض على حكمة الله كما فعل الخارجي -أصل الخوارج الذي خرجوا من ضئضئه- عندما حكم رسول الله وقسم الغنائم فقال: (إعدل يا محمد!) نعوذ بالله من ذلك، فاعترض هذا الخارجي على الحكمة النبوية، ورأى أن هواه وأن رأيه وأن عقله أصوب في هذا الشأن، وأنه يجب أن تكون القسمة بالمساواة أو أن يعطى الناس بحسب إيمانهم، فالمؤمنون العظماء يأخذون الألوف، ومن دونهم يأخذون المئات، والأقل إيماناً يأخذون الأقل من الإبل والأنعام، ولكن من حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهي بوحي من الله- أن يعطي الأعراب، وأن يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن يعطي حديثي العهد بالإسلام، وأما أولئك فكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(يكلهم إلى إيمانهم) هؤلاء مؤمنون، ورغبتهم إلى ما عند الله، ورغبتهم في الجنة، منذ أن بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم العقبة فقالوا: (فما لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل) وهؤلاء المهاجرون أعظم من ذلك، هؤلاء لا يريدون الدنيا ومتاعها، ولا يبالون أُعطوا أم لم يُعطوا، أما أولئك فإذا أُعطوا آمنوا فآمنت بعدهم قبائل وأمم، وإن لم يُعطوا كفروا فتكفر بكفرهم قبائل وأمم.
فالحكمة واضحة جلية، ومع ذلك اعترضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا، ويجب أن نعلم أن الاعتراض كما يقول ابن القيم رحمه الله: قلَّ من ينجو من ذلك، ومن نجى من ذلك وحقق درجة التسليم المطلق، بلا معارضة، ولا ممانعة، فعليه أن يحمد الله على هذا، ويجعله امتحاناً واختباراً لإيمانه، فالأمثلة التي ذكرناها إنما هي إشارات، وإلا فداء الاعتراض داء عظيم، وقليل من خلق الله هم حقاً من ذاقوا طعم الإيمان، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً).
جعلنا الله من الراضين، ومن هؤلاء المصطفين الأخيار، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
المصدر
المكتبة الشاملة: محاضرة مفرغة بعنوان: “من اعمال القلوب الرضا” لفضيلة الشيخ د. سفر الحوالي بتصرف يسير.
اقرأ أيضا
أنواع الاعتراضات التي تقدح في الرضا(1)
المعترضون على شرع الله .. المتذرعون بالمقاصد