التسليم مبدأ هذا الدين ولبُّه ومحوره. يحتاج الناس الى نماذج عملية سبقتهم. كان إبراهيم وإسماعيل مثالا وقدوة يجب تدبره.
قاعدة التسليم لله
محور الإسلام وأساسه هو التسليم لله تعالى وحده، القبول والإذعان والخضوع والذل لرب العالمين النابع من غاية المحبة له. والمؤمن يرى الخير في طاعة ربه ويوقن أن الأمان في جناب الله تعالى.
وقد مضى الصالحون بأمثلة بارزة مضيئة، يقررون معنى التسليم عمليا، ويعلّمونه للأجيال..
وأختار في هذا المقام نموذجا عظيا من نماذج التسليم والاستسلام الله عز وجل، ألا وهو استسلام إبراهيم عليه السلام لأمر ربه في ذبح ابنه، استحق من أجل ذلك وغيره من النماذج أن يصفه ربه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات:84]. وقد أحسن سید قطب رحمه الله تعالى في تصوير هذا المشهد من مشاهد التسليم من الوالد والولد، أسوقه بطوله لفائدته وتأثيره في النفوس:
“واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد، الذي ترك وراءه كل شيء، وجاء إليه بقلب سليم ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 101]. هو إسماعيل كما يرجح سياق السيرة والسورة، وسنری آثار “حِلمه” الذي وصفه ربه به وهو غلام. ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام، الذي يصفه ربه بأنه حلیم.
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم؛ بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحِي، الذي يعْرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم. ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].
يالله..! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم.
هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يُرزَق في كبره وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاما ممتازا، يشهد له ربه بأنه حلیم. ها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويسترْوح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا..؟
إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحیا صريحا، ولا أمرا مباشرا. ولكنها إشارة من ربه. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه؛ لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد..؟!
ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. کلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه، وهو يَعرض عليه الأمر الهائل في هدوء، وفي اطمئنان عجیب: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾ [الصافات: 102].
فهي كلمات المالك الأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، والواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه..!
والأمر شاق، ما في ذلك شك، فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته؛ إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده. يتولى ماذا..؟ يتولى ذبحه.. وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويَعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروَّى في أمره، وأن يرى فيه رأيه..!
إنه لا يأخذ ابنه على غرة، لينفذ إشارة ربه وينتهي. إنما يَعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حِسّه هكذا. ربه یرید. فليكن ما یرید. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا. لينال هو الآخر، أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر، ويتذوق حلاوة التسليم..! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنی.
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يُعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه..؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه. قَالَ ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى كذلك وفي يقين ﴿يَا أَبَتِ﴾.. في مودة وقربی. فشبح الذبح لا يُزعجه ولا يُفْزعه ولا يُفقده رُشده. بل لا يُفقده أدبه ومودته.
﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾.. فهو يحسّ ما أحسه من قبل قلب أبيه. يحسّ أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.
ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة.
﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].. ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا.. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به.
﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.. يا للأدب مع الله..! ويا لروعة الإيمان. ويا لنبل الطاعة، ويا لعظمة التسليم..! ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام.. يخطو إلى التنفيذ.
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: 103]. ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة وعظمة الإيمان، وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان.. إن الرجل يمضي فيكبّ ابنه على جبينه استعدادا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانا.
لقد أسلما.. فهذا هو الإسلام، هذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر، التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة، وليس الاندفاع والحماسة، لقد يندفع المجاهد في الميدان؛ يَقتل ويُقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء، والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر.. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة، تُخْفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص..! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل..!
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أدَّيا، كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف، ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه.. وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما..
كان الابتلاء قد تم، والامتحان قد وقع، ونتائجه قد ظهرت، وغاياته قد تحققت، ولم يعد إلا الألم البدني، وإلا الدم المسفوح، والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدّوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.
وعلِم الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدَقا: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 104-107].
قد صدَقت الرؤیا وحققتها فعلا، فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام، بحيث لا يبقى في النفس ما تکنّه عن الله، أو تعزّه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد، ولو كانت هي النفس والحياة، وأنت يا إبراهيم قد فعلت، جُدتَ بكل شيء، وبأعز شيء، وجُدتَ به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح، أي ذبح من دم ولحم..! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدَّت. يفديها بذِبح عظیم، قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته، ليذبحه بدلا من إسماعيل..!
وقيل له: ﴿كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: 105].. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء، ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء، ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء..!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى هذا الحادث العظيم، الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان، وجمال الطاعة، وعظمة التسليم، والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسَبه وعقيدته، ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدَر الله في طاعة راضية واثقة ملبية، لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه، إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم..!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية، مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام”. (1في ظلال القرآن 5/ 2994-2996)
خلود الأثر والمناسك
ولقد خلَّد الله عز وجل ذكرى هذا التسليم العظيم، فجعل ذكراها شعيرتين عظيمتين يقوم بها ملايين المسلمين على مدار تاريخ المسلمين، ألا وهما: رمي الجمار في الحج، وذبح الأضاحي كل عام؛ ذلك أن ذبح الأضحية تخليد لذكرى تضحية إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام واستسلامهما لأمر ربهما. كما أن في رمي الجمار تخليدا لذكری تسلیم إبراهيم عليه السلام لربه في ذبح ابنه، ورميه للشيطان ثلاث مرات في مواقع الجمرات اليوم عندما اعترض له، ليرده عن تنفيذ أمر ربه.
ومن نماذج التسليم في حياة إبراهيم عليه السلام وما أكثرها.. ما رواه البخاري في صحيحه عن مجيء إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة، وفيه:
«أن إبراهيم جاء بها وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتی وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعها هنالك، ووضع عندها جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفا إبراهيم منطلقا، فتبِعتْه أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت». (2البخاري، 3364)
ولقد خلَّد الله عز وجل ذكرى هذا التسليم العظيم من إبراهيم عليه السلام وهاجر رضي الله عنها في شعيرة السعي بين الصفا والمروة التي يؤديها ملايين المسلمين في كل حج وعمرة، فيا ليتنا نتذكر هذا التسليم عند أدائنا لهذه الشعيرة، حتى يزداد إيماننا وتسليمنا.
مواقف خالدة
تلك المواقف الفريدة والسامية، خلَّد تعالى ذكراها للتأسي بها والتذكير الدائم بها. والمطلوب منا أقل من ذلك وأيسر، والخير في التسليم لله تعالى والإذعان؛ لو كانوا يفقهون.
فكما وجد إبراهيم وأسرته الخير الى يوم القيامة جراء التسليم؛ فكذا يجد كل مطيع مستسلم بحسب استسلامه لربه وقيامه بأمره.
الهوامش:
- في ظلال القرآن 5/ 2994-2996.
- البخاری، 3364.
المصدر:
- فضيلة الشيخ عبد العزيز الجليل، “قال أسلمت لرب العالمين” المجلد الثامن عشر، ص44-54.