يُرجى للمعصية المغفرة، لكن من مات على الشرك فقد خسر الخسران المبين. ولهذا وجب بيان أنواع الشرك وحَدّه، وأصله ومنشأه، وأكبره وأصغره.
مقدمة
خلق الله تعالى هذا الإنسان على فطرة التوحيد والإسلام متهيئاً لقبول الدين، فلا يعدِل عن هذا وينحرف إلا لآفة تنحرف بهذه الفطرة، وذلك عندما تتضافر جملة من العوامل التي تساعد على الانحراف؛ فيقع الإنسان عندئذ في واحدة من صوره كالشرك والنفاق.
وسنقف ـ إن شاء الله تعالى ـ على كل واحدة من هاتين الصورتين بكلمة تعريفية موجزة، تحدد معناها اللغوي والاصطلاحي، وأصل نشأتها، وبعض صورها.
الأصل اللغوي
إذا استنطقنا كتب اللغة وجدنا أن (الشين والراء والكاف) أصلان يدل أحدهما على اقتران وعدم انفراد، وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به واحد منهما.
يقال: «شاركتُ فلاناً في الشيء؛ إذا صرتُ شريكه. وأشركتُ فلاناً: إذا جعلته شريكاً».
والشرك أيضاً: إسناد الأمر المختص بواحدٍ إلى من ليس معه أمره. يقال: أشرك بالله: جعل له شريكاً في ملكه ـ تعالى الله عن ذلك ـ ومن عدل بالله تعالى شيئاً من خلقه فهو كافر مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له، ولاندّ له ولا نديد. (1معجم مقاييس اللغة: 3 / 365، لسان العرب: 10/ 449 – 450)
الإصطلاح الشرعي
وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق لفظ الشرك على نوعين:
أحدهما: إثبات شريك لله تعالى، وهو الشرك الأكبر.
والثاني: مراعاة غير الله تعالى في بعض الأمور، وهو الشرك الأصغر.
فالشرك الأكبر وهو أن يتخذ مع الله تعالى، أو من دون الله، إلهاً آخر، يعبده بنوع من أنواع العبادة.
قال ابن القيم:
“والشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين”. (2مدارج السالكين: 1 / 339)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ:
“الشرك قد عرّفه النبي، صلى الله عليه وسلم، بتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك». أخرجه البخاري ومسلم. و”الند”: “المِثل والشبيه”، فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركاً يبطل التوحيد وينافيه». (3الدرر السنية: 2/ 153)
وعرّف الشيخ عبد الرحمن السعدي هذا الشرك بتعريف جامع مانع قال:
“إن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده «أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله؛ فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، فصرْفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرْفه لغيره شرك وكفر»، فعليك بهذا الضابط الذي لا يشذ عنه شيء”. (4القول السديد: 43)
وهذا أعظم الشرك والظلم، ولا يغفره الله لصاحبه إن مات عليه، لأنه يناقض أصل التوحيد ويُخرج صاحبه عن الملّة، ويحبط عمله، ويخلِّد في النار.
وإذا أُطلقت كلمة الشرك فإنها تنصرف إلى هذا النوع منه.
أصل الشرك ومنشؤه
وأصل هذا الشرك ومنشؤه هو تسوية غير الله بالله تعالى، أو هو تشبيه غير الله بالله تعالى في صفة من الصفات التي يختص بها؛ مما لم يعهد في جنس الإنسان، فالذي يعبد كائناً ما من دون الله فيدعوه أو يطلب منه الشفاعة أو يخافه، أو يتخذ حكمه شرعاً له؛ إنما يفعل ذلك لأنه يعتقد أنه صاحب سلطة وحُكم على الخلق.
يقول ابن تيمية:
“وأصل الشرك أن تعْدِل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك». (5الاستقامة: 1/ 344)
والصورة الواضحة الجلية لهذا الشرك هي عبادة الأصنام، التي كانت تتخذ سابقاً في عصور الجاهلية القديمة من حجر أو خشب؛ ولكنها تظهر في عصورٍ أخرى بمظاهر شتى قد تكون مذهباً من المذاهب الفكرية أو الاقتصادية، وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس فيتخذونها آلهة.
وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية والمادية التي تسيطر على الناس، على ما حكاه الله تعالى عن أقوام فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23]، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15، 16].
ويبحث العلماء تحت هذا الشرك أنواعاً من العبودية لغير الله، كشرك الدعاء سواء كان دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، مما لا يجوز أن يتوجه به إلا لله تعالى وحده، لأن الدعاء هو العبادة.
وكذلك شرك العبادة والتقرب الذي يظهر جلياً وواضحاً في عبادة الأصنام وإعطائها بعض خصائص الألوهية، أياً كانت هذه الأصنام وبأي صورة ظهرت.
ولا يقِلّ عن هذا اللون من الشرك ما يسمى أيضاً بشرك طلب الشفاعة من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وكتب العقيدة والتوحيد أفاضت في بيان ذلك كله.
ألوان أخرى من الشرك الأكبر
وتبقى ألوان أخرى من الشرك الأكبر قد تكون اتسعت دائرتها في العصور الأخيرة، أكثر مما كانت في عصور سابقة، وذلكم هو شرك الطاعة والاتباع، وشرك المحبة والنصرة.
شرك التشريع
فقد اتفق العلماء على أن الحكم لله وحده سبحانه وتعالى، فهو المتفرد بالخلق فينبغي أن يكون متفردا بالأمر. فلا أحد يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر سبحانه وتعالى. فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الله الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما غيره سبحانه، فلا يجب شيء بإيجابه، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم. (6المستصفى لغزالي: 1/ 83، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 76، مسلم الثبوت: 1 / 52، وشرح الكوكب المنير: 1/ 484، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 157- 158)
وقد تواردت النصوص الشرعية تؤيد هذا المنطلق السليم وتؤكده، فهي تُلْزِم البشر باتباع ما جاء من عند الله تعالى، وتحرِّم عليهم تحريما قاطعاً اتباع ما يخالفه: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 106]، ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: 3].
والآيات في ذلك كثيرة تعزُّ على الحصر؛ توجب الحكم بما أنزل الله وتحكم بالكفر والفسق والظلم على كل من يخالف حكم الله تعالى.
ولذلك كان كل من أطاع مخلوقاً في تحريم الحلال أو تحليل الحرام ـ وهو متبع له في هذا التبديل ـ فهو مشرك شرك الطاعة والانقياد والاتباع. (7انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 1/ 97، 98، 14/ 328، 7/ 70 وتيسير العزيز الحميد (543))
وقد حكم الله على اليهود والنصارى بالشرك لاتّباعهم الأحبار والرهبان واتخاذهم أرباباً من دون الله، ثم بيَّن النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك بياناً واضحاً ببيان ماهية العبادة التي وقعوا فيها. (8انظر: تفسير الطبري 14/ 210-211، والبغوي: 4/ 39، تفسير ابن كثير: 3/ 122-123 مفاهيم ينبغي أن تصحح، للأستاذ/ محمد قطب، فصل (مفهوم لا إله إلا الله))
وهذا النوع من الشرك يعم اليوم أصقاعاً وبقاعاً كثيرة في بلدان العالم، بعد تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في شؤون الحياة كبيرها وصغيرها، وحصْرها في جوانب ضيقة، واستبدلوا بها القوانين الوضعية التي ارتضاها الناس لأنفسهم بمعزل عن دين الله تعالى وشرعه. ولذلك كان من الواجب العناية بهذا اللون من الشرك وبيان خطورته، وإن كان ذلك سيؤدي إلى تكاليف باهظة يحتسبها المسلم عند الله تعالى.
شرك المحبة والنصرة
وأما شرك المحبة والنصرة والولاء فيكون عندما يتوجه الإنسان بالمحبة لغير الله تعالى، إذْ من مقتضيات التوحيد وأصول العبادة أن نفرد الله تعالى بالمحبة التي لا تصلح إلا له «وهي حب طاعته والانقياد لأمره» وإلا وقع الشرك الذي جاء التحذير منه، عندما تكون المحبة لأعداء الله، عند موالاة الكافرين ونصرتهم، لأن في ذلك نقضاً للميثاق ولكلمة التوحيد، وخروجاً على مقتضيات الإيمان: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 28] ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51].
الشرك الأصغر
وأما تعريف الشرك الأصغر فهو ما أتى في النصوص الشرعية أنه شرك، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر.
ومن أمثلة هذا الشرك: التطيّر؛ وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع وغيرها.
ومن الشرك الأصغر: شرك الألفاظ كالحلف بغير الله، وقول أحدهم: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وفلان … إلخ..
ومن الشرك الأصغر: يسير الرياء لقوله، صلى الله عليه وسلم: «إن يسير الرياء شرك».
خاتمة
الشرك هو الداء الأعظم الذي من نجا منه فقد نجا. ومن لقي الله تعالى مسلما فليستبشر. والقلب السليم هو ما خلا من دبيب الشرك، وقليله وعظيمه، وحقيره وكثيره، ودقيقِه وجليّه.
وفي ختام هذه المقالة ندعو بما صح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قوله: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم واستغفرك لما لا أعلم».
…………………………………………….
الهوامش:
- معجم مقاييس اللغة: 3 / 365، لسان العرب: 10/ 449 – 450.
- مدارج السالكين: 1 / 339.
- الدرر السنية: 2/ 153.
- القول السديد: 43.
- الاستقامة: 1/ 344.
- المستصفى لغزالي: 1/ 83، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 76، مسلم الثبوت: 1 / 52، وشرح الكوكب المنير: 1/ 484، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 157- 158.
- انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية: 1/ 97، 98، 14/ 328، 7/ 70 وتيسير العزيز الحميد (543).
- انظر: تفسير الطبري 14/ 210-211، والبغوي: 4/ 39، تفسير ابن كثير: 3/ 122-123 مفاهيم ينبغي أن تصحح، للأستاذ/ محمد قطب، فصل (مفهوم لا إله إلا الله).
المصدر:
- عثمان جمعة ضميرية، مجلة البيان، العدد :69.